كم من بحيرة كانت في القرن الماضي مصدرا للماء والأسماك آل بها الزمن إلى حد الجفاف فتقلصت مياهها وتراجعت الحياة فيها، وجف الغطاء النباتي، وتحولت المنتجعات الصاخبة على ضفاف البحيرة إلى مدن أشباح، فكم من صياد كان يأخذ زورقه على النهر بانتظام ليقضي أياما طويلة في المياه يصطاد الأسماك، فلم يعد يذهب للصيد منذ سنوات، فليس هناك أية جدوى، لقد جفّ النهر واختفى كل شيء، في وقت أصبح فيه الجفاف شبحا يهدد كثيرا من دول العالم حيث أصبحت مشكلة نقص المياه أحد المشاكل الرئيسة التي تعاني منها معظم الدول في هذه الأيام، وسلاحا يستخدم في الحروب، بل إن الحرب القادمة قد يشعلها الصراع على المياه، وعليه يبقى السؤال الأهم هو كيف سيواجه العالم مشكلة ندرة المياه؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ وهل هناك من حلول للحد من هذه المشكلة؟
هذا ما سنجيب عليه في هذا المقال وذلك من خلال المحاور الآتية:
أولا: أسباب أزمة المياه
-
تزايد عدد السكان:
بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، يبلغ عدد سكان العالم 6.6 مليارات نسمة ويتوقع أن يشهد زيادة قدرها 2.5 مليار بحلول العام 2050، مع الإشارة إلى أن معظم معدلات النمو السكاني المتزايدة تحدث في دول نامية كثير منها يقع في مناطق تعاني أصلا من شح في الموارد المائية، كما هو الحال في أفريقيا، فارتفاع معدل النمو السكاني يشكل ضغطا متزايدا على استهلاك مصادر المياه بواقع 64 مليون متر مكعب سنويا، فمعظم دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط -أي العالم العربي -بلغت بالفعل حدودها القصوى في استنفاد مواردها المائية.
-
تلوث المياه:
إن معظم مصادر المياه في المناطق الريفية ملوثة بشكل رهيب بسبب سوء الصرف الصحي ونقص محطات معالجة النفايات، فالمستويات الإجمالية للملوثات العالمية لها تأثير سلبي على مياه الشرب النظيفة حاليا؛ ومع مرور الوقت سوف يتفاقم هذا الضرر.
نتطرق للتلوث الذي تتعرض له المياه في الأنهار، في الوقت الذي يتكلم الجميع عن أزمة الماء التي تضرب العالم، لكن هذه المشكلة ليست وليدة اليوم، والعراق أقرب مثال على ذلك، إنها وليدة أزمنة وأنظمة متعاقبة، وثقافة سلوك بالية لا تزال حتى اللحظة تهيمن على العقول والرؤوس، فزيادة على التلوث وانتشار ثقافة اللامبالاة نجد سببا آخر أو عامل مساعد وهو عدم وجود المتابعة والمحاسبة القانونية للمخالفين، وهذا يؤدي إلى إهدار المزيد من المياه وتبديدها لأسباب لا طائل من ورائها ويؤدي إلى مزيد من تصعيد الأزمة.
-
الجفاف:
تعاني بعض المناطق من جفاف دائم في حين أن مناطق أخرى قد تتعرض للجفاف في بعض الأحيان، وحالات الجفاف شائعة في جميع أنحاء العالم والتي قد تؤدي إلى انخفاض حاد في مستوى المياه الجوفية مما يجعل من المستحيل على الناس الحصول على المياه من النوافير، ولا يوجد الكثير مما يمكن فعله لمنع حدوث مثل هذه الأشياء.
ثانيا: النزاعات على المياه
هناك ما يقرب من 260 نظم أنهار مختلفة في جميع أنحاء العالم، حيث توجد صراعات عبر الحدود الوطنية، بالرغم من وجود قواعد تساعد في تفسير حقوق المياه بين البلدان إلا أن هناك بعض الصراعات المريرة التي تتعلق بالبقاء، وهناك حروب تعتبر في بعض البلدان لا مفر منها، وحاليا تتركز تلك النزاعات بشكل رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، وأقرب مثال على ذلك النزاعات الناشئة عن نهري دجلة والفرات بين تركيا وسوريا والعراق؛ ونزاع نهر الأردن بين إسرائيل ولبنان والأردن والدولة الفلسطينية، كما يوجد النزاع الحالي في قارة أفريقيا حول نهر النيل بين مصر وإثيوبيا والسودان، وكذلك في آسيا الوسطى صراع بحر الآرال بين كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، كما توجد بعض النزاعات المائية الأخرى بين أفغانستان وإيران حول حقوق استفادة الأخيرة من حصص مياه الأنهار المتدفقة من أراضي الأولى.
وبالتالي فإن احتمالات الحروب في المستقبل بسبب النزاعات بين الدول على حصص الاستفادة من المياه قائمة، الأمر الذي يدعونا إلى بذل المزيد من الجهد والتعاون والحوار على المستوى الدولي لنزع فتيل تلك الأزمات وتجنب تحولها إلى حروب شاملة.
ثالثا: أرقام ومعلومات عن قطاع المياه
ربع البشرية يواجه أزمة مياه تلوح معالمها في الأفق، وتشمل هذه الأزمة ندرة المياه التي تبدو غير قابلة للتصديق عندما ننظر إلى حقيقة أنّ 70% من سطح الأرض مكون من المياه لكن يتم استهلاك 80% من المياه المتاحة على السطح أو المياه الجوفية كلّ عام، ويتوقع أن يزداد الطلب العالمي على المياه بنسبة 55% حتى عام 2050.
فالماء سيبقى حاجة بشرية لا غنى عنها، وسيحافظ على مكانته كأساس لازدهار الاقتصاد والمجتمعات، إلا أن كثيرًا من بقاع العالم تواجه مشكلة في توفر مصادر المياه الكافية والمستدامة، فعلى الرغم من أن 71% من سطح كوكبنا مغطى بالمياه، فإن نسبة المياه العذبة لا تزيد عن 3% منها، وحتى هذه النسبة لا يستفيد منها البشر كاملة، فجزء كبير منها متجمد أو بعيد في جوف الأرض ويعني هذا أن أقل من 2% من مجمل مياه الكوكب تصلح للاستخدامات البشرية، للشرب والمحافظة على النظافة وري المحاصيل والزراعة (بنسبة 70% من المياه العذبة) والصناعة وإنتاج الطاقة.
تشير الأمم المتحدة عبر منظماتها وبرامجها أن هناك مشكلة مياه لابد من معالجتها للقضاء على الكثير من المشاكل المرتبطة بالمياه سواء من حيث الأمن الغذائي أو الأمراض التي تسببها المياه الملوثة، وقد وضعت على موقعها، ضمن أهداف التنمية المستدامة هدفا خاصا بالمياه وخدمات الصرف الصحي، وهو الهدف السادس من الـ 17 هدفا، وتصرح بان 5000 طفل في المتوسط يموتون يوميا نتيجة لأمراض مرتبطة بالمياه والصرف الصحي لا يمكن الوقاية منها إلا بكثير من التدابير وتكاتف الجهود.
كما أن الأمم المتحدة على موقعها ضمن قضايا عالمية -فقرة المياه - ترى بأن ندرة المياه تؤثر على أكثر من 40% من سكان العالم، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة، وتشير التقديرات إلى أن 783 مليون شخص لا يحصلون على مياه نظيفة، وأن أكثر من 1.7 مليار شخص يعيشون حاليا في أحواض الأنهار حيث إعادة التعبئة.
رابعا: مشكلة الأمن المائي في المنطقة العربية
الوضع المائي العربي يعاني بشكل كبير بالمقارنة مع باقي العالم؛ فعلى الرغم من أن سكان المنطقة العربية يشكلون ما يقارب 5% من عدد سكان العالم فهم يملكون أقل من 1% فقط من مصادر المياه العالمية وهو ما يضع المنطقة العربية في صدارة المناطق المهددة بالتعرض للأزمات المائية، فإحصائيات البنك الدولي تشير إلى أن أكثر من 60 في المئة من سكان المنطقة يتركزون في الأماكن المتضررة من الإجهاد المائي الشديد، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ حوالي 35 في المئة. معتبرة أن ندرة المياه المرتبطة بالمناخ قد تسبب خسائر اقتصادية تقدر بنحو 6 -14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، وهي النسبة الأعلى في العالم.
وحسب أحدث أرقام الأمم المتحدة بشأن الأمن المائي في المنطقة العربية، فإن 17 دولة في العالم العربي من أصل 22 توجد حاليا على خط الفقر المائي، من بينها 12 دولة ترزح بالفعل "تحت خط الفقر المائي المدقع"، فضلا عن تهديد شبح الجفاف لـ16 دولة في المنطقة من أصل 33 دولة حول العالم بحلول عام 2040؛
كما تقول كذلك أحدث أرقام منظمة الأغذية والزراعة الأممية (الفاو) إن "نصيب الفرد الواحد من المياه العذبة في المنطقة العربية يبلغ فقط 10 في المئة من متوسط استهلاك الفرد عالميا (يقدر بـ1000 متر مكعب سنويا) إذ تستهلك الزراعة أكثر من 85 في المئة من الموارد المائية المتاحة (وتستهلك الصناعة نحو 7 في المئة)، محذرين من "كارثة مائية محدقة في المستقبل القريب" ما لم يتم تدارك الأمر سريعا.
وفي ظل المشاكل الداخلية التي تعاني منها كل من الدول الثلاث "سوريا، والعراق، وتركيا" يغيب الإطار القانوني لتسوية الخلافات بينهما، الأمر الذي قد ينجم عنه مشاكل تتعلق بشح الموارد المائية. لاسيما في ظل طموحات تركية متعلقة بمشروع سد الأناضول الجنوبي (يشمل 22 سدا على طول نهري دجلة والفرات) لكن سوريا والعراق تنظران بتشكك إلى تلك المشاريع.
خامسا: أزمة المياه في الصين والهند
إن الصين والهند تعانيان بالفعل من ندرة المياه، بسبب انتشار الزراعة المروية والصناعات التي تستخدم المياه بكثافة، فضلا عن المطالب المتزايدة من جانب الطبقة المتوسطة الناشئة، والواقع أن كلا من البلدين قد دخل بالفعل عصرا من ندرة المياه على مدار العام، يعيش فيهما حوالى 20% من سكان العالم، ومع ذلك فهما تمتلكان 7% فقط من موارد المياه العذبة،
كما تعانى جميع مناطق الصين وبخاصة الشمالية من ندرة المياه، بدرجة أسوأ من معاناة الشرق الأوسط، وقد اختفت آلاف الأنهار، كما أدى التصنيع والتلوث إلى إفساد الكثير من مصادر المياه المتبقية، ولكن بعض التقديرات تقول إن ما بين 80 و90% من المياه الجوفية ونحو نصف مياه الأنهار في الصين ملوثة بدرجة تجعلها غير صالحة للشرب، وأن أكثر من نصف المياه الجوفية ونحو ربع مياه الأنهار غير صالحة للاستخدام في الصناعة أو الزراعة.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء، فقد اضطرت الصين إلى توجيه المياه من المناطق الرطبة نسبيا إلى المناطق الأشد جفافا في الشمال، ويقدر الخبراء خسائر الصين نتيجة ندرة المياه بنحو 100 مليار دولار سنويا، كما أدى نقص المياه ووسائل الزراعة غير المستدامة إلى تصحر مساحات واسعة في الصين، وأصبح نقص إمدادات الطاقة نتيجة تراجع إنتاج محطات الكهرباء المائية أمرا شائعا في الصين.
ويتوقع أن تكون لأزمة المياه في الصين تداعياتها السياسية والاقتصادية الخطيرة، خاصة وأنها تتزامن مع تحديات عديدة أخرى منها تدهور التركيبة السكانية والاضطرابات السياسية وتجميد أو التراجع عن الكثير من الإصلاحات الاقتصادية الأساسية.
ولكن الفكرة الأشد خطورة على الإطلاق والتي تدرسها الصين الآن تتلخص في تحويل مسار نهر براهما بوترا نحو الشمال، وهو النهر المعروف باسم يارلونج تسانجبو في التبت، ولكن الصين غيرت اسمه الآن إلى يالوزانجبو. إنه أكثر الأنهار ارتفاعا على مستوى العالم، وهو أيضا واحد من أسرع أنهار العالم جريانا، والواقع أن تحويل مياه نهر براهما بوترا إلى النهر الأصفر يشكل فكرة لا تناقشها الصين علنا، وذلك لأن هذا المشروع يعني خرابا بيئيا للسهول الواقعة في شمال شرق الهند وشرق بنجلاديش، وهو بهذا يُـعَد بمثابة إعلان لحرب المياه على الهند وبنجلاديش.
سادسا: الحلول المقترحة للحد من أزمة المياه
في ظل التحديات الكبرى التي تهدد مورد المياه المهم بالنسبة إلى الحياة والتي تضاعِفها الزيادة السكانية والتغير المناخي واستمرار النزاعات وموجات الهجرة، فإن من أهم الحلول المقترحة للحد من أزمة المياه هي:
-
التنسيق بين القطاعات:
يرى الخبراء أنه سيكون لزاما على قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة تنسيق استخدامها للمياه بكفاءة أكبر بكثير إذا ما أردنا تفادي ندرة المياه، وحسب ما ورد في التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة في عام 2014، فإن الاحتياجات المائية العالمية خلال الثلاثين عاما المقبلة سوف تزداد بنسبة 30 بالمائة على الأقل، مما سيفرض ضغطا على الموارد الحيوية التي لا تزال محدودة.
-
تحسين إدارة المياه:
إن تحسين إدارة المياه يفرض تحديد أولويات واضحة وآليات رصد منسقة لتفادي النقص، فعلى سبيل المثال، خلال إحدى أسوأ حالات الجفاف في الهند في عام 2012، تم إغلاق محطات توليد الكهرباء من أجل الحفاظ على المياه للاستهلاك المحلي، وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن حوالي 600 مليون نسمة تُركوا من دون كهرباء لمدة 48 ساعة على الأقل في وقت أو آخر.
إن قطاعي المياه والطاقة مترابطان ويجب التأكد من أن كليهما يستخدم المياه بأقصى كفاءة ممكنة، وفي تقرير صدر في سبتمبر 2014، شجعت مجموعة الأزمات الدولية قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان على "تطوير نظام إدارة مياه حديث وخال من الفساد ويتسم بالكفاءة في المنطقة المعزولة عن النزاعات الأخرى.
والجدير بالذكر أن ما يقرب من 99 بالمائة من الكهرباء في طاجيكستان يتم توليدها من المحطات الكهرمائية، وتستخدم أوزبكستان ما يصل إلى 90 بالمائة من المياه الواردة من قيرغيزستان وطاجيكستان لري القطن، الذي يعتبر محصولها الرئيسي المدر للدخل.
فالمنافسة بين مطالب الزراعة والاستهلاك المحلي وقطاع الطاقة، دون وجود رؤية مشتركة حول الأمن المائي يؤدي إلى زيادة مخاطر المنافسة والصراع على الموارد المائية، فتحقيق إدارة أفضل للمياه يتطلب تحقيق التماسك بين مختلف القطاعات المستهلكة للمياه وخاصة الكهرباء والزراعة.
-
الحد من السدود فهي ليست حلا:
إن السدود وأنظمة المعالجة والخزانات وقنوات المياه التقليدية، لم تعد وحدها قادرة على الاستجابة للمتغيرات البيئية، وذلك بسبب قدمها من جهة وزيادة الطلب على المياه والطاقة بسبب سرعة النمو، من جهة أخرى، عدا عن احتياج النظم التقليدية إلى المزيد من الطاقة، بينما تستطيع الحلول القائمة على الطبيعة أن تتأقلم مع المتغيرات، ومع الإدامة المرنة للمصادر الطبيعية والاعتماد على الطاقة المتجددة.
ولمواجهة النتائج المترتبة عن التغير المناخي، يقول بعض الخبراء "لاستدامة الموارد المائية، لا بد من المواءمة بين الحلول المستمدة من الطبيعة وبين المشاريع التقليدية أو ما يسمى البنية التحتية الرمادية، وذلك من خلال إعادة التشجير والحصاد المائي وإعادة استخدام المياه".
-
سن عقوبات للحد من تلوث المياه:
فلو أن المصنع الذي يرمي بفضلاته السامة في النهر تتم محاسبته ومعاقبته قضائيا بالتغريم أو الغلق المؤقت، سوف لا يعيد الكرة ويرمي الفضلات في النهر، وهذا ينسحب على الأفراد أيضا، وبذلك سوف يتم تصحيح هذه الثقافة المعوجّة في السلوك، فالإنسان الجاهل أو حتى من يفهم الخطر ويتجاهل عواقبه، إذا شعر أن هناك عقوبة تنتظره بسبب تلويثه مياه النهر، فإنه سوف يكفّ عن هذا الفعل إذا تمت معاقبته.