إنّ هذا الدِّين ليس وظيفةً، وليس دار إفتاء، وليس ديوانًا رسميًّا، ولا حزبًا دينيًّا مسيَّسًا، ولا هيئةً مكلَّفةً، ولا جماعةً ولا قبيلةً ولا شعبًا ولا دولةً... إنما هو دِينٌ أرادنا الله أن نَدِين به على وجهه الذي أراده الله لعباده، بتجرّدٍ كاملٍ.
أنت أيها المفتي أو صاحب الرأي المطاع لستَ واعظًا في خِضمّ المعركة، إلا إن كنتَ بين قومٍ جاهلين غافلين مرتابين، إنّك اليوم في أمّةٍ فيها ملياران مِن المسلمين، يعلمون ويميّزون في حقّ وجوبِ نصرة أهل الثغر ربّما أكثر مِن علمهم بصلاتهم وسائر عباداتهم وواجباتهم، عندما أصدرتَ الفتوى أو كتبتَ المقالةَ أو تصدَّرتَ للخطبة أو أثرتَ الرأي؛ هل سألتَ عن أثر ذلك، ومَن سيحملها عنكَ، ومَن سيعتني بتنفيذها والعمل بها، وهل قرّبتَ إليها مَن يتابعونك ويأخذون عنكَ، وسألتَهم عن مقتضاها!
هل أنت مستعدٌّ لدفع ثمنها والدفاع عنها وتوصيلها إلى ذوي القرار بكل طريقةٍ صعبةٍ أو مستطاعةٍ، ولو عارضتْ فتواك موقف السلطة المتنفّذة التي تعتقد أنها مخالِفةٌ لشرع الله في منع أشكال النصرة؟
هل استثنيتَ مَن تخاف منهم في فتواك أو مقالتك لتجد لنفسك مَخرَجًا أو مَهْربًا إذا صدعتَ بالحقّ الذي تعتقده؟

البلاغ ليس بيانًا أو فتوى، البلاغ هو أن تجتهد وتسعى ليصل بيانُك إلى غايته، وإلى مقصده، ومِن القرائن التي تظهر لنا الاختلاف بين مستوى البيان والبلاغ أنَّ البلاغ الكامل هو البلاغ المبين الذي لا شُبهة فيه ولا لبس ولا تحوير ولا مداراة ولا مداهنة ولا مسايسة ولا حزبية ولا عصبيّة ولا مصالح ذاتيّة: {فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.

 فالبلاغ المطلوب هو فوق البيان العادي الذي يأتي عادةً في سياق الوعظ العام والظرف الاعتياديّ، هذا البلاغ يجب أن يكون جليًّا: صوابًا في موضوعه، وصِدقًا في نفسه، ومطابقًا للمقصود به، وأن يكون مقنعًا في عرض الحقّ، بحيث لا يجد فيه المبلَّغ المتجرّد عن الهوى والغرض ما يعترض موضوعه إلّا أن يتعنّت.
هذا البلاغ فيه حجّة ومجادلة، ويمكن أن يكون فيه مصادمة ليؤدَّى كما هو، وفيه مشقّة لتحقيقه، لأنه يكون غالبًا في سياق الإعراض والرفض والتحدي، ويمكنك أن تفهم هذا مِن الجوّ العامّ لهذه الآية: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}.
ولا مجاملة في تشديد الأمر بالبلاغ، وأنّه مسؤوليّة كبيرة يُكلّف بها العالِم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، فالبلاغ يكون بمواقفكم الحاسمة والصدع بالحقّ والثبات عليه، وتفنيدكم لشبهات السياسيين والملبّسين والمتنفّذين والجبناء وذوي الأهواء.
وإذا أدّى العلماء البلاغَ على وجهه، واطمأنّوا إلى بلوغه للجمهور المستهدَف، انتقلت المسؤوليّة من المبلِّغ إلى المبلَّغ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ}، فالمبلِّغ لا يتحمّل مسؤولية المعرضين المتولّين، وليس مكلّفًا أن يُحْدِث الهدى فيها، وليس مطالبًا بالأسف عليهم إذا توّلوا.
أيها العلماء! إنّ البلاغ موقفٌ فاصلٌ، وأيّما عالمٍ لا يبلّغ البلاغ المبين فقد غشّ الحاكم، وغشّ الناسّ، وغشّ نفسه، فاتّقوا الله، وأدّوا ما أوجَبه عليكم، أو استقيلوا عمّا لا تستطيعونه!