هناك مواضع تنعكس عليها معاني أسمائها فتصبح شعاراً عليها ونمطاً شخصيّاً في مجتمعاتها، ومثال ذلك ما تسمعونه اليوم عن بطولات الشجاعية ذاك الحيّ الغزّيّ القديم وصلابة المقاتلين فيه.
هذا الحيّ تخرج فيه أبطال مشهورون منهم أبو محمد الجعـبري وأم نضال فرحـات وأبناؤها، والدكتور رمضان عبـــد الله، والشاعر معين بسيسو، والشيخ هاني بسيسو...، بل يزعمون أن شمشون الجبار قد دفن فيها بعد أن تمكّنت منه دليلة.
حي الشجاعة والإقدام هذا ينتسب إلى أمير كرديّ مقاتل هو الأمير سيف الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن علكان، وكان من بيت الإمارة والتقدّم لدى حكام مصر المماليك، كانوا يصفونه بأنه أمير نبيل شجاع متحفّظ صيِّنٌ محبٌّ للخير، ينصف الناس في المعاملة، ولا يتعاطى الأعمال المحرمة التي شاعت بين أمراء عصره من قومه.
وقد ارتقى هذا الرجل شهيدا بيد الإفرنج في موضعٍ ظاهر غزة مقبلاً غير مدبر في ربيع الأول سنة 637 هـ، وكان في الثلاثين من عمره أو دونها بقليل.
وقد أكرمه الناس وأكرموا أباه بتسمية الموضع الذي استشهد فيه بلقب أبيه الذي ينتسب له وهو الأمير "شجاع الدين" أبو عمرو الكرديّ، وكان شجاع الدين من بيت أمراء كبار حيث إن أمه هي بنت الأمير سيف الدين يازكوج الأسَدي، مقدّم الطائفة الأسديّة في الدولة الأيوبية أيام الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي، والطائفة الأسدية هي من مماليك أسد الدين شيركوه الذين بعثهم نور الدين زنكي إلى مصر لمواجهة الصليبيين وكان معهم صلاح الدين.
الشجاعية اليوم هي من ذرية حرّاس الثغور من العرب والتركمان والأكراد، وما يزال حيّاها الجنوبي والشمالي يحملان ذكرى ساكنيها الأولين، فحيّها الجنوبي يسمى بحي التركمان الذي سكنته أجناد من العشائر التركمانية المقاتلة وهو أقدم الحيّين، وحيها الشماليّ "اجْدَيدة" يسمى حي الأكراد الذي سكنته عشائر كردية مقاتلة أيضاً لعل أصلها من بلدة الجديدة قرب الموصل في العراق.
وقد نزل التركمان بالمنطقة في عهد آخر ملوك الأيوبيين الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي أقطع قبائل التركمان "الخوارزميين" هذه الأرض مع أراضي في الزيتون والتفاح مكافأة لهم على مشاركتهم في معركة هِربيا عام 642هـ/1244م التي انتصر فيها على الصليبيين، وقبل انقضاء عصر المماليك أقاموا في الشجاعية أكبر مساجدهم "جامع ابن عثمان" نسبة إلى الرجل الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد بن عثمان النابلسي الذي انقطع للتعبّد فيه، وكان هذا الجامع ينافس الجامع العمري القديم في كبر مساحته.
وكانت الشجاعية على ما يبدو منطقة عسكرية كبيرة، لاسيما أن جبل المنطار المرتفع قريب منها وهو مفتاح غزة وعينُها الراصدة ونقطة ارتكاز دفاعاتها، ويشهد على ذلك أن جيش نابليون بونابرت عسكر فيها أثناء حملته على فلسطين، كما قتل فيها مئات جنود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ودفنوا فيها.
تعرّضت الشجاعية كغيرها من أحياء غزة القديمة إلى التدمير والتهجير إثر قيام السفن الإيطالية بقصفها من البحر والطائرات البريطانية بقصفها من الجوّ في الحرب العالمية الأولى، وعاد إليها أهلها وقد فقدوا كل شيء لاسيما أن معظم بيوت الشجاعية خاصة كانت من الطين والخشب لكونهم يشتغلون في الزراعة والرعي وعصر زيت السمسم والصباغة، حيث اضطرت الحامية المدافعة عن غزة أن تأخذ أعمدة الخشب في هذه البيوت المهجورة لبناء المتاريس، ولكن أهل الشجاعية عاد أكثرهم، وأحيوا حيّهم من جديد، وجعلوه أشجع مما كان.
هذا الحيّ العريق بالبطولة ما زال يجدد ذكرى أسلافه في الشجاعة الفذّة والثبات عند اللقاء، وشدّة النيل من الأوغاد الأعداء، وسيكتب التاريخ ذكرى هذه الأيام الظافرة في سيرة هذا الحيّ المحارب العتيق الذي تخضّبه الدماء الزكيّة.