بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري؛ فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون، فهو الذي قوض دولاً بكاملها، وأفنى شعوباً بأسرها، ومسح مدناً من وجه الأرض، وصدع حضارات عظيمة، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً، ولكن أحداثا في الهند قبل فترة ليست بالطويلة حملت معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء، ويسافر فيها الناس قريباً من سرعة الصوت.
والآن ما المرعب في هذا المرض؟ ما هي قصته التاريخية؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له؟ بل ما هي فلسفة انتشار المرض عموماً ؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الافرنجي والإيدز؟!
الجنرال "طاعون".. دمر دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات
دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد. في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً، رائعة الجمال، بديعة الألوان، لمرضى يموتون في شر حال وأسوء مصير، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً: إنه الموت الأسود.. (الطاعون PLAGUE)!!
كانت اللوحة أكثر من رائعة، تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن، تناثر فيها مرضى (الطاعون) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة، وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة (الموت الأسود)، وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات مدَّ يده يطلب العون وما من معين!! في حين وقف القائد الفرنسي (نابليون بونابرت) بين جنوده في مستشفى (يافا) مقطب الجبين، عابس الوجه، خائر القوى، قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس.
هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لا يستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض (الطاعون) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة.
دمر الطاعون دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا (الجنرال) المخيف.. الموت الأسود (الطاعون)!!
وقف (الجزاَّر) حاكم عكا (1) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده (القسطنطينية) فنابوليون كان يرى أن (استانبول) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه، هذه المرة كان الجنرال (طاعون) بجانب حاكم عكا (الجزار) كما كان الجنرال (شتاء) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً (عام 1812م) ( 2 )
يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر ( 1798م ) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة فاستولى على يافا وتابع طريقه إلى عكا، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولى مدبراً ولم يعقب، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة: (وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا.. ووصل بونابرت في 16 مارس ( 1799م ) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها ( فولتير ) لكتاب ( روح الشرائع ) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب..
وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً.. حينئذ صمم على العودة إلى مصر بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطئ البوسفور وقد قال فيما بعد: (لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة) وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب ووصلوا إلى يافا في 24 منه فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصداً، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ما صاروا إليه وما كانوا يشعرون به من العذاب..
وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات والإجهاز عليهم وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل موتهم) (3)؟!!
كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لا تحصى، يسقط من عدو مجهول لا يراه ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن!! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب؛ يغلي من الحرارة، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب، زائغ النظرات متشنج الأطراف مربد الوجه مكفهر القسمات يزحف إليه الموت بسرعة، ينفث قشعاً مملوءً بالدم، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ (الموت الأسود) فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه؟!
هكذا مات الملايين من البشر في أبأس وأشنع موتة عرفها الإنسان، وهذا يعلمنا حكمة الحياة: إن الحياة جميلة جداً ولكن الطبيعة تسحق الفرد بدون أن تبالي بنفس القدر من الحرص على المحافظة على النوع. إن هناك علاقة جدلية بين التاريخ والمرض.
يعشش لعشرات السنوات.. انتشار الأمراض يصنع التاريخ
فكما تتفشى الأمراض مع الحملات العسكرية والحروب المجنونة، فإن انتشار الأمراض يصنع التاريخ بدوره، فيقود إلى النكسات العسكرية وتوقف الحملات الحربية (4) على النحو الذي رأينا في حملة نابوليون بونابرت، بل يقود إلى خلخلة الامبراطوريات وتصدع الحضارات، وهو الذي لاحظه ابن خلدون حين كتب يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية وترافقه مع انتشار الطاعون الذي نزل في منتصف المائة الثامنة فتحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وجاء للدول فقلص من ظلها وأوهن سلطانها وتداعت إلى التلاشي:
((هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث)) ( 5 ).
كان المرض المرعب يأتي بهجمات مزلزلة عبر التاريخ، ويعشش لعشرات السنوات، فيمسح مدناً بكاملها من خريطة الوجود، ثم يغيب في بطن التاريخ مرة أخرى فلاي عرف الناس كيف جاء ولا كيف ولى وانقشع ظله الرهيب!!
جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود ما يلي: ((ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان... ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألف ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً، وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع (ربع سكان العالم المتحضر) وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض.. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل (الفلاجلان) الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم.. واستمع اناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة)).(6)
ويبقى عام 1347 هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوربا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع، وتتصحر أوروبا عملياً، بل وتعاني من إمكانية نقل التراث المعرفي للأجيال القادمة، وتحتاج إلى ما يزيد عن مائتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني!! (7)
موعد مع حصاد هذا العالم.. من أين جاء الوباء؟
من أين جاء هذا الوباء المخيف؟ كيف تولد ونشأ؟ هل من حادثة أيقظته؟ أو حرب أثارت حفيظته فقام يفتك بالناس؟ كيف انتشر كل هذا الانتشار في المعمورة يحصد أرواح الناس بمنجل لا يعرف الرحمة وكأن الناس في موعد مع حصاد هذا العالم؟!!
تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب (انسكلوبيديا تاريخ العالم) عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوروبا (8) وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم!! فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م؟؟
بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانئ وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة، إلى مدن أوربا القذرة التي لا تعرف نظام التصريف الصحي، ولا نظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات!! (9)
هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من أهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب، فقاموا بشن أول حرب (بكتريولوجية) ربما في التاريخ الإنساني، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون؟!! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافئ التي وصلوها، وبذلك نشروا المرض في كل أوربا، فلم ينتهي عام 1352 م إلا وكانت مدن أوربا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة، والطاعون ليس أكثر من مرض (الرشح) الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة!!
وكما حملت السفن جرذانها، فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لاترى إلا بالمجاهر مكبرةً آلاف المرات، والتي لم تكن لا أوربا ولا العالم قد سمع بها.
وكان على العالم أن ينتظر طويلاً كي يبدأ الهولندي (لوفنهوك) بائع القماش صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب أقرب من حبل الوريد ولكن لا نبصرها. بل كان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة، فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية.
ومع استفحال المرض تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض، فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض الذي دخل الدم والأحشاء والعظام. كل أنواع النباتات والطحالب، نقيع لحاء الشجر، القذر والعذرة، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة، كتابة الرقي للأرواح والنجوم والكواكب، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح، الفصادة والحجامة، الدوش البارد والساخن، مركبات اليود والبزموت والزرنيخ والزئبق، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون، الحقن والزرع، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت ولاعصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم للخلاص من هذا المرض الذي يسري في جسد ابن آدم مسرى الدم، واليوم يمكن السيطرة عليه بجرعة من السولفا أو الستربتومايسين أو التتراسيكلين الخ.. ولكن هذه المركبات هي عصارة أرضية رهيبة من التقنيات والتراكم العلمي.
هذا ما تخبرنا به معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ
لم يكن مرض الطاعون هو الوحيد في معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ، فسلسلة الأمراض في هذا الموضوع لا تنتهي، بين الجذام الذي كان يفضي بصاحبه إلى الإعدام الاجتماعي، من خلال مزرعة عزل بشرية، أو الكوليرا التي كانت تنقل إلى المقابر آلاف الجثث في هامبورغ في نهاية القرن التاسع عشر، أو مرض الزهري ( SYPHILIS ) (مرض الحب الفرنسي) الذي عصف بالبشرية ما يزيد عن أربعة قرون بدون معرفة المتسبب الأساسي في هذا المرض، وبالطبع كانت الأرواح والكواكب متهمة في إحداث هذا المرض، حتى كشف الغطاء أمام عيني ( شاودين ) في مطلع هذا القرن، ومن خلال تطوير المخبر والمجهر، الذي هو بدوره حصيلة القفزة العلمية برمتها ، حيث رأى تلك ( البريميات - اللولبيات الشاحبة ) والتي تشبه حبل المعكرون الملفوف أو السلك الملفوف لفتح أغطية وسدادات الأوعية الزجاجية، ثم المثير في الوصول إلى الدواء من خلال رحلة رهيبة لا تصدق لاكتشاف الدواء النوعي الذي يخلص البدن من الجرثوم ولا يفعل للجسم شيئاً، كما حصل مع ( باول ايلريش ) في 606 من المحاولات كي يلوى مركب (الزرنيخ) حتى يصبح شافيا ً وبجرعة واحدة (مركب السلفارسان) وعندما أعطي اسمه ( 606 ) كان رمزاً للمحاولات المئوية المكررة قبل الوصول إلى الرصاصة السحرية لقتل الجرثوم!! ( 10 )
إن مرض الطاعون ( PEST) الذي يطل علينا بقرنه اليوم من القارة الهندية يعطينا حزمة من الحكم والأفكار والتأملات:
1 - تقول الفكرة الأولى:
إن هذا المقالة لا تستهدف الترويع، كما لاتبغي الاستخفاف، كل ما تريده وضع المرض في إطاره الطبيعي والتاريخي والإمراضي، بل والثقافي الحضاري، فهي إذن لم تكتب للأطباء والمتخصصين في المخابر أو المتبحرين في علوم المناعيات وجراحة الكروموسومات وفصائل الجراثيم وقبائل الفيروسات، بل هي كتبت بالدرجة الأولى من المنظور الثقافي والفلسفي ورفع مستوى الوعي. في مدى خطر هذا المرض ومعنى انتشاره بعد أن خاله الناس جميعاً أنه أصبح في ذمة التاريخ يرقد في بطون الكتب. وبالطبع يفتح هذا الباب أمام فلسفة انتشار المرض ويقظته من رقاده بعد كل هذا الهجوع عبر القرون، فإذا به مثل ( دراكولا ) ينهض شبحاً يمتص دماء ضحاياه ليحولهم إلى أشباهه (11) .
2 - وتقول الفكرة الثانية:
إن بعض الناس لا يتصورون طبيعة الحياة الشاقة التي كان الناس يحيوها فيما مضى، بل ويعشق بعضهم فيما لو أتيحت له (آلة الزمان) أن يدخل التاريخ، ليعيش حقبة يهواها؟! لنتأمل ذلك: لنتصور أن صاحبنا دخل فترة منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حيث الطاعون يقصف الأرواح ولا أثر لصاد حيوي بسيط!! صداع بسيط بدون حبة أسبرين واحدة!! رائحة المدن القذرة بدون نظام التصريف الصحي!! مدن مظلمة في الليل بدون أبسط إضاءة!! المرأة تغسل بيدها كل شيء وبمواد تنظيف لاتكاد تذكر!! سفر طويل مرهق لأقرب مدينة يعلو الإنسان فيها الغبار والإنهاك وطرق محاطة باللصوص وقطاع الطرق!! تبتر الأطراف المصابة بضرب الإنسان على رأسه حتى يدوخ ثم تبدأ عملية القطع المرعبة ليتلوها بعد ذلك الكوي بالزيت المغلي!! ( كان اكتشاف امبروز باريه طريقة الزهراوي في ربط الأوعية بدون غطس الطرف في الزيت المغلي تخفيفاً كبيراً ونصراً طبياً مبيناً )، التهاب الزائدة الدودية معناه الموت غالباً، وموت الأم الحامل مع جنينها أمر مكرر، شوارع موحلة وثياب ليس فيها رائحة الأناقة، وطرق موحشة.
هل لنا أن نتصور العكس أي لو أرسلنا صاحبنا إلى المستقبل أو لو أتينا بفرد من الماضي من أيام الطاعون ليُعافى بحقنة من صاد حيوي بسيط رخيص الثمن متوفر في أصغر صيدلية في قرية نائية!! إن صاحبنا لو ذهب إلى المستقبل فلن يعود لأنه سيعيش مع عالم خالي من الحروب والمجاعات والاضطهاد يحقق الإنسان فيه ذاته وينسجم مع أخيه الإنسان .
3 - وتقول الفكرة الثالثة:
إذا كان الجرثوم ينتقل عن طريق التنفس على الشكل الذي سمعناه وهو شكل في منتهى الخطر وقاتل، فإن هناك طاعون اجتماعي لا يقل في خطره وينتقل أيضاً عن طريق الجهاز التنفسي، فكما انتقل هذا المرض ( PLAGUE ) عن طريق الرذاذ التنفسي، فإن الطاعون الاجتماعي ينتقل من الحبال الصوتية عبر الموجات الصوتية، الأول يستهدف الجهاز التنفسي، والثاني يتمركز في الجهاز الواعي العقلاني، الأول يدمر الصحة البيولوجية، والثاني يدمر الصحة النفسانية، الأول وحداته (عصيات يرسين) الغليظة سلبية التلوين والثاني (وحداته) الفكرة الضارة، الأول سهل بسيط بسبب أحادية المسبب، والثاني خطير أخطر من الفيروس الذي يتقلب في أنواعه بسبب تنوع أفكار التدمير، الأول سهل الكشف كما وصل إليه العالم (يرسين) و( كيتازاتو ) والثاني صعب الكشف بل لا يطلب المصاب فيه إلى الكشف عنه لعدم شعوره أنه مريض؟!
بل إن أعظم تحدي يواجه الإنسان ليس عالم ( البيولوجيا ) بل عالم ( السيكولوجيا ) لنوعية قوانينه التي لم يتوجه الاهتمام الإنساني بعد لاكتشاف ديناميكيتها، وإلا فكيف نقارن بين رؤية جرثوم تحت المجهر ورؤية طيف الحسد مثلاً، هل يمكن ياترى لأي جهاز راصد أن يقيس لنا (الطيف اللوني) للحسد مثلاً، أو مدى توتر ذبذباته، أو كم وزنه، أو ما هي موجاته في الدماغ وكذلك الكبرياء والكذب والنفاق وحب الظهور والزعامة والانتفاخ المغرور.
وهذا يوصلنا إلى أن ( الطاعون الاجتماعي ) أصعب في الضبط، وأفظع في الانتشار، وأرهب في الإصابة، وإلا ما معنى اغتصاب خمسين ألف امرأة في البوسنة بمن فيهن طفلة السبع سنوات وعجوز السبعين؟ ما معنى إبادة حضارة الازتيك والمايا والإنكا؟ ما معنى ذبح مليون إنسان في راوندا؟ ما معنى تدمير كابول بأيدي أبنائها؟ أليس كل هذا مؤشرات لــ ( طواعين ) اجتماعية؟
4 - وتقول الفكرة الرابعة:
إن القذارة مصدر العلل أياً كانت هذه القذارة ، بيولوجية أم نفسية أم اجتماعية!! والقرآن أشار إلى كل هذه الانحرافات المهلكة، فطلب نظافة الثوب والبدن (وثيابك فطهر) وطهارة القلب والمسلك (وذروا ظاهر الأثم وباطنه) ونظافة المجتمع من الفساد (أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)، واعتبر القذارة الاجتماعية سبب تدمير المجتمعات الداخلي (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)، وهذا يعني جهداً متواصلاً للحفاظ على وسط الطهارة، فالحياة تقوم على (وضع ديناميكي متحرك) وليس (وضع استاتيكي جامد)، الحياة تقوم على مبدأ (الصيرورة والتطور) وليس مبدأ (التوقف والجمود والتحنط)، فمع الموت تقف الحياة عن التشكل وإمكانياتها عن المتابعة، وهكذا على الإنسان أن يعيش في جو نظيف في كل مستوى، بالنظافة الدائمة لثوبه بالغسل، وبدنه بالحمام، وروحه بالصلاة وبالتنمية الجدلية للنقد الذاتي، ومجتمعه بالوعي المتقد والسلوك الرشيد والقدوة الحسنة وتفشي روح السلامية والحوار المثمر، والثقة بأن الكلمة كائن حي مؤثر، فيها قوة الاندفاع الذاتية في قدرة الإصلاح الاجتماعي.
5 - وتقول الفكرة الخامسة:
إن الكون الذي نعيش فيه تنتظمه قوانينه النوعية بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة، فهي في مستوى البايولوجيا الجراثيم والأمراض والتوازن الهورموني والاستتباب المعدني والإحكام الفيتاميني، وهو في مستوى الذرة (ميكانيكا الكم)، وفي عالم المجرات ( النسبية )، وفي النظام الشمسي قانون ( الجاذبية والكهرطيسية)، وهكذا تمسك القوانين النوعية وجودنا بإحكام، فالإرادة الآلهية أقامت الكون على (النظام) و(البرمجة) و(الغائية) و(الجمال) و(الحق) (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا)، ولم يكن الكون يخضع لـ (الصدفة) أو (الضرورة) أو (العبثية) أو (الفوضى).
وإذا كان الأمر كذلك فإن الجاهل يدفع (فاتورة) المخالفات، فالتقي سوف تتحطم عظامه حين يسقط من شاهق مهما كان تقواه، والهنود سوف ينتشر عندهم (الطاعون) بسبب تفشي القذارة، ودفع الأوربيون ثمن الإباحية سابقاً في مرض الزهري والعقبول، ويدفعونها مع الأفارقة اليوم في مرض (الأيدز)، والسرطان الاجتماعي يشبه تماماً السرطان البيولوجي في فوضوية النمو، فإذا أرادت خلايا أن تنمو كما يحلو لها وتزينها لها مصالحها الخاصة فإنها سوف تتورم، ولكن على حساب التدمير المشترك المضاعف لها وللمجتمع الذي تنتسب إليه، وكما يذهب الجسم المتسرطن بكل خلاياه (الورمية والسليمة) على حد سواء إلى القبر، كذلك الحال مع الجسد الاجتماعي المتسرطن حيث يدفع الصالحون قبل الطالحون فاتورة الانقراض الاجتماعي.