أكثر ما يبعث على الأسى في جماهير أمتنا، وحتى في نخبها، أنها لا تزال إلى هذه اللحظة لا تعي أبجديات وبدهيات النضال، لذلك تقرأ تعليقاتٍ وتأتيك أسئلة، وحتى وأنت تجيب، تشعر بالأسى. كم نحتاج حتى نتجاوز هذا الوضع المأساوي في قضايا تعتبر أكثر من بديهية في مفهوم النضال؟

اليوم سأحدثكم عن طفرة حقيقية، بل أكاد أقول معجزة، لا يوجد في ذهني نموذج آخر إطلاقاً غير حماس حققت هذا، وسأكون سعيداً لو ينورني أحدهم بمثال منافس حتى لا أقول مساوياً أو متجاوزاً.

النضال باختصار هو أن يتجاوز الإنسان الحياة الداروينية التطورية المحضة التي تعتبر الإنسان غرائز وغدداً فحسب، بل هو نظرة تعتبر الإنسان كائناً عاقلاً له معرفة متكاملة تجعله ينطلق بتلك المعرفة في الحياة حتى يحقق ما يراه صواباً، فيجد نفسه بشكل تلقائي مهتماً بالشأن العام وغير منغمس حصراً في الشأن الفردي الضيق.

تلك المعرفة ترسم له الأهداف والغايات من ناحية، وترسم له أيضاً الوسائل وترتب له الأولويات من ناحية أخرى، وتجعله يتناسق مع من هم مثله من ناحية، ويتنافس مع من هم عكسه أو ضده أو حتى يناقضونه من ناحية أخرى، فينطلق في مسار نضالي في سبيل تحقيق ما يراه الأصوب من مُثل، ويجعلها جزءاً من الواقع متفاعلاً مع كل تعقيدات الواقع. هذا معرفياً أو سياسياً أو فنياً أو في أي مجال آخر، لا يهم، فالشيء المهم الوحيد حتى يتحقق النضال هو الاهتمام بالشأن العام مضافاً إليه الاستمرارية في مواجهة عقبات سعيه لتحقيق ما يريد.

إذا تحقق هذا يصبح الإنسان مناضلاً، ويتم تقييم نضاله على مستويين: الأهداف والوسائل. فإذا كانت الأهداف نبيلة، اعتُبر النضال كذلك، والعكس بالعكس، وإذا كانت الوسائل مشروعة، اعتُبر النضال شريفاً، والعكس بالعكس. أما فاعلية النضال فتُقاس بالاقتراب أو الابتعاد من الأهداف المعلنة وغير المعلنة.

يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "الناس كإبلٍ مائةٍ، لا تكاد تجد فيها راحلة". يُعتبر هذا الحديث مرجعية للحد الأقصى المتوقع من الناس في مسألة النضال، وهو 1% من المجتمع يصلح كرواحل، أي كأناس لديهم القدرة على حمل فكرة المشروع والسير والترحال به مع القدرة على التحمل طيلة مسافة السفر ومشاقه إلى أن يصل إلى الغاية، وقوله “لا تكاد” يعني في الغالب هذا الحد الأقصى وليس الأدنى.

لا يوجد في العالم اليوم جماعة أو حزب أو حركة استطاعت أن تجمع كنضاليين نسبة تصل إلى 1% من المجتمع، وهذا أمر عظيم جداً وتحقيقه نجاح كبير للغاية، لأن النضال في حد ذاته كفلسفة وسلوك، قبل أن يُتَيَّم بتوجّه أو أيديولوجية معينة، لا يكاد يوجد في المجتمعات بنسبة 1%. والنضال طبعاً يحتوي على كل الأيديولوجيات في المجتمع: يمين ويسار ومستقلون وجماعات وغيرها، فإذا استطاعت أيديولوجية معينة تحقيق 1% لوحدها من المجتمع، فهذا إنجاز خرافي وأسطوري وأكثر من معجز، لأننا لا نتحدث عن معجبين فحسب أو أصوات انتخابية، بل نتحدث عن مناضلين، وحين نقول مناضل نعني التزاماً تاماً، انطلاقاً من تصور كوني معرفي وصولاً إلى السلوك الفردي في سياق جماعي يجيب على سؤال اللحظة: ما هو الأولى فعله هنا والآن؟

بكل ثقة أقول: استطاعت حماس تحقيق هذا، فعلى أقل تقدير يوجد من مناضلي حماس في غزة ما يفوق خمسين ألفاً، وفي الجانب العسكري وحده هناك ما يفوق خمسةً وثلاثين ألفاً، ولا أتحدث عن الأنصار والمعجبين، بل عن المناضلين الحقيقيين. حين نتحدث عن المقاتل العسكري فنحن لا نتحدث عن مجرد مناضل، بل عن أقصى مستويات النضال كلها. وخمسون ألفاً في غزة، هذا يعني 2% وليس مجرد النسبة التي يُفترض أن تكون الحد الأقصى في المجتمعات العادية، فغزة يسكنها نحو 2.5 مليون نسمة على الأكثر، وهذه النسبة هي ضعف الحد الأقصى في المجتمعات العادية، وهذا يعني أننا أمام تفسير منطقي جداً لصمود المقاومة بدرجة تصل إلى ضعف ما تتحمله المجتمعات العادية التي قد تصل في أقصى مستوياتها إلى إنتاج 1% فقط من المناضلين.

دعوا المعجزات لأهلها، وتعالوا نتحدث عن أزماتنا العميقة، كم هي مكشوفة تماماً، حتى نفهم الفوارق الفلكية ونفسر بطريقة منطقية لماذا نحن متفاجئون من المجتمع الغزّاوي.

أول أزماتنا أن المناضل عندنا محل سخرية وتهكم، ومتّهم بالأصالة حتى تُثبت ملائكته، وليس مجرد براءته. أزمتنا الثانية هي عدم فهم ألف باء النضال في العالم، لذلك أتتني عشرات الأسئلة من نوع: “انظر يا أستاذ، مظاهرة في غزة ضد حماس!”، وكأن الناس تعتقد أن الفكرة التي بلغت أقصى مديات النجاح في مفهوم النضال وأبجدياته لا تعتبر كذلك إلا إذا حققت نسبة 100% من المجتمع. لو تظاهر ضد حماس أكثر من خمسين ألف مواطن، فإن ذلك لا يعني الكثير من حيث نجاح الفكرة نضالياً، بل قد لا يتجاوز الأمر سلوكاً سياسياً عابراً.

أما أزمتنا الثالثة فهي أن النخب عندنا هي أكثر الناس معاداةً للنضال، وأكثرهم ارتزاقاً واتهاماً للمناضلين من مختلف التيارات. ولذلك، يا للعجب ويا للسخرية ويا للمهزلة! يتشرف الكثيرون منهم بأنهم –ولله الحمد والمنّة– ليسوا مناضلين في أي حزب، ولا في أي جماعة، ولا يتفقون مع أي تيار، ولم ينتظموا يوماً في أي تنظيم، ويعتقدون بذلك أنهم سقراط أو زرادشت، لأنهم –بزعمهم– يصكّون نظريات المعرفة الفوقية، وأن وقتهم كله مسخّر للمثاليات، ولا مجال عندهم لمدافعة جزئيات الواقع، في حين أنهم ليسوا أكثر من كائنات داروينية مروّضة، خاضعة لغددها وغرائزها التي لا تتجاوز السلامة الفردية ولذائذ الوجود ومتع الأنسجة الحيوية.

أما رابع الأزمات، فأنه رغم الحقيقة الفاقعة التي نضح بها الطوفان من أول أيامه، أن النضال مثمر وأن الانتظام أكثر الأمور فاعليةً وصلابةً، ما زال البعض يؤمن بالفردانية والعشوائية، ويسخّر قدراته للارتزاق في سبيل من يدفع أكثر، مادياً أو معنوياً.