خرجت ابتهال أبو سعد بكلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ، ولم تخشَ في الله لومة لائمٍ، كما خرج إخوةٌ وأخواتٌ لها مِن قبل في سبيل الله، رغم قول الناس لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، فماذا حدث؟
حدث أن كان لها كل هذا التأثير الذي يتقاصر أمامه تأثير أصحاب كذا وكذا وكذا ممَّن تعرفونهم، وفي كل مرةٍ حدث أن قول الناس زاد الذين نفروا للجهاد {إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، بعد أن أعدُّوا العدة، وخطوا على الطريق، وبذلوا الوسع… فما الذي حدث؟ {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}، أخذوا بالأسباب؛ فتحققت النتائج.
ليس شرطًا أن تكون ابتهال قالت "حسبنا الله ونعم الوكيل" بلسانها أو كتبتها هنا أو هناك، وهي مـتأكدة أنَّ الناس قد جمعوا لها، يكفي أنها نقشتها على صفحة قلبها بينها وبين خالقها، كما فعل إخوةٌ وأخواتٌ لها مِن قبل على مرِّ تاريخ الصراع بين الحق والباطل، ثم بعد أداء الواجب، لا يغترون بما فعلوا، وإنما يواصلون اتباع ما فيه رضوان الله؛ لأنه عنده فضلٌ عظيمٌ.

هذا شيءٌ، وشيءٌ آخر ما تغص به مواقع التواصل الاجتماعي بقول "حسبنا الله ونعم الوكيل" التي يكتبها ويقولها الذين يشعرون بالعجز عن مجابهة الظلم الفادح الذي يعانيه إخوة العروبة والإسلام في غزة، جراء الاعتداءات الوحشية الصهيو - أمريكية ضدهم، أغلب الذين يكتبون ذلك ويقولون "حسبنا الله ونعم الوكيل" يشعرون بعدها بشيءٍ مِن راحة الضمير، والعزاء لهم عن عجزهم، هل هذا معنى أن "الدين أفيون الشعوب"؟ ثم ما تلبث الأخبار حتى تأتي بفواجع جديدة يعانيها إخوة العروبة والإسلام، فتعود الحسبلة قولًا وكتابةً... فهل هي في محلها؟

أغلب الظن أنها ليست في محلها الصحيح،  بل هي في محل خطأ، ذلك أن  الآية الكريمة {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] لها سبب نزول، والعبرة ليست بهذا  السبب وإنما بعموم معناه، كما هو معروفٌ، وسبب نزولها كما في التفسير الكبير للفخر الرازي هو: أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، روى ابن عباس أنَّ أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف مِن المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى، فنقتتل بها إن شئتَ، فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي -وقد قدم نعيم معتمرًا- فقال: يا نعيم، إني وعدت محمدًا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدبٍ، ولا يصلحنا إلا عامٌ نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمدٌ ولم أخرج زاد بذلك جراءةً، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة مِن الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قومٍ منهم، فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال: "والذي نفس محمدٍ بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي"، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه نحو سبعين رجلًا، فيهم ابن مسعود، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى، وهي ماءٌ لبني كنانة، وكانت موضع سوقٍ لهم يجتمعون فيها كل عامٍ ثمانية أيامٍ، ولم يلقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدًا مِن المشركين، ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا واشتروا أدمًا وزبيبًا، وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية، وخلاصته: خرج الرسول ومَن معه، رغم محاولات التثبيط والتخويف مِن لقاء العدو، فما كان إلا أن قال ومَن معه بصدق المؤمن: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فزادهم الله إيمانًا، {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
الاكتفاء بقول "حسبنا الله ونعم الوكيل" في حال الأهوال التي يتعرض لها إخوة العروبة والإسلام في غزة دليلٌ على تشوه الوعي الإسلامي وانحطاطه وخوائه مِن مضمونه، بسبب تضليل العلماء والمفتين الذين يتقاعسون عن بيان ما أنزل الله، ولا يحضون على اتباع ما فعله رسول الله وصحبه في مناسبة نزول هذه الآية، ويكتفون -إن فعلوا- بالولولة والحسبلة، كالولايا ومَن لا حيلة لهم.
 "حسبنا الله ونعم الوكيل" تُقال بيقينٍ وإيمانٍ؛ مع الخروج وبذل ما في الوسع لنصرة المظلومين، (تبرَّع بالمال وقل حسبي الله ونعم الوكيل، بالدواء والماء والغذاء والكساء وقل حسبي الله ونعم الوكيل، بكلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ وقل حسبي الله ونعم الوكيل، بالتجهيز أو المساهمة في تجهيز غازٍ وقل حسبي الله ونعم الوكيل، بالغذاء والدواء والإيواء وقل وكرر حسبي الله ونعم الوكيل… كلها أشكال خروجٍ للنصرة)، أما قولها أو كتابتها مفصولة عن ذلك، ثم الخلود إلى النوم؛ فهي إن أراحت قائلها أو كاتبها فإنها لاتؤلم عدوًّا ولا تنصر أخًا، وتجعل حكم قائليها مفصولةً، هكذا حكم "جنود السويق"، والواقع خير شاهدٍ. والله أعلم.