عدتُ إلى غزة مرتين، الهدف مِن الزيارة الأولى كان كسر الحاجز الذي حاول العدو جعله قدَرًا مستدامًا، يخنق الأرض ويعزل الفلسطيني عن أرضه، والثانية بحثًا عن مكانٍ للعودة إليه -ولو مؤقتًا- بعد تدمير المنزل بشكلٍ كليٍ، وجاري تهيئة الظروف لعودة الاستقرار هناك.

وجدتُ في رحلة العودة -في الحقيقة وبعيدًا عن مشهد العودة المهيب- حالةً مِن الذهول، وصدمة البدايات لدى الناس دفعت الأغلب منهم للعودة عن العودة، وجعلَت أعداد المغادرين لها أكثر مِن العائدين منها في أول أيام فتح الطريق.

في العودة الثانية، تطوَّرت حركة المشاة، لتشمل عربات النقل البدائية، والتي وظفها الناس لنقل أغراضهم إلى غزة والشمال مِن جديدٍ، ومحاولة إنبات الحياة هناك بعد أن تبدَّدت صدمة البدايات ولم يجد الناس بُدًّا إلا بضرورة التكيُّف مع الواقع الجديد.

في غزة وشمالها، الظروف صعبةٌ جدًّا، وأصعب مِن الأوضاع خارجها، في الوسطى والجنوب، والناس هناك تكيَّفت مع المتاح النادر جدًّا مِن الموارد، وفِعل العدو واضحٌ جدًّا، ليس فقط في الجدران والمباني، بل في السعي المتعمَّد والمكثَّف لقتل الحياة وآخر فرص البقاء هناك.

مَن صمد في غزة هم المعجزة التي تكسر موسوعة الإعجاز عبر التاريخ، لقد استطاعوا بصبرٍ عجيبٍ -لا منطق له- تجاوز كل محاولات التهجير بالتكيف السريع والعجيب مع أدنى مقوِّمات الحياة.

في غزة: المياه أندر مِن أن تجدها حتى سيلًا صغيرًا في الطرقات الجافة والمدمَّرة، وحركة السيارات قليلةٌ بعد أن دمَّر العدو أغلب ما تبقى مِن وسائل نقلٍ هناك، والوقود شحيحٌ جدًّا، لا يصل للمواطن العادي، في غزة: صنبور الماء أصبح رفاهيةً، لا يملكها حتى مَن امتلك المال لملء خزاناته بالمياه..

نظرًا لشحِّ الموارد حد الإنعدام! في غزة انحصر تواجد السكان في تجمعاتٍ كثيفةٍ، في مناطق صغيرةٍ، توزعت بين الصبرة والدرج والصحابة والشيخ رضوان، وبعض مناطق في حيي الشاطئ والرمال، مع تحول أحياءٍ كثيرةٍ كانت تضج بالحياة إلى مدن أشباحٍ فارغةٍ لا حياة فيها، إلى ذاكرة المكان المليئة بالدفء، مع هذا، وبعيدًا عن مشهد البطولة، فإن الحياة ومع عودة النازحين تعود لغزة مِن جديدٍ، ومحاولة أبناء غزة والمتشبثين بها، تشبثهم بالحياة إعادة ملء خزانها بالموارد مِن جديدٍ.

في الزيارة الثانية كثيرٌ مِن المشاهد تغيَّرت عن الزيارة الأولى؛ رغم قصر المسافة الزمنية بينهما، الكثير مِن البيوت التي تنظَّف مِن الردم، الآبار التي يُعاد استصلاحها وتفعيلها، شبكة الإنترنت، وحتى المطاعم والمخابز، غزة تعود للحياة بالتدريج، وهذا لا يعفي الجميع في كل مكانٍ مِن مسؤوليته تجاه غزة وأهلها، لأن كل ما يجري الآن هو إعادة تدويرٍ للموارد المتاحة، مع العلم والتذكير للجميع أنَّ غزة -بشمالها وجنوبها- لم تستقبل بعد أي موارد جديدة ضرورية ولازمة، على الأقل لتعويض الحد الأدنى مما دمرته آلة الإبادة.