إن أصدق الحديث والقول كلام الله تعالى القائل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، فكان بذلك قوله سبحانه واصفا كتابه المنزل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، أصدق قول وأصدق وصف للقرآن العظيم بأنه كتاب هداية. فمن صدق في الاستهداء بآيات الكتاب هدي لأقوم سبيل. ولذلك كان لزاما على من أراد الصلاح والإصلاح أن يكون مبدأ أمره ومنتهاه مع هذا الكتاب الهادي المبين.
ومن بين من خصهم الله تعالى بفضل الاستمساك والاستهداء بالقرآن الكريم طيلة مساره الدعوي الإصلاحي، عَلَمٌ من أعلام بلاد المغرب، وابن من أبناء مدينة مكناسة الزيتون، الدكتور فريد الأنصاري عليه رحمات الله تترا. وأبرز ما يدل على ذلك الاستمساكِ مشروعه الإصلاحي القرآني الذي اختار له اسم "الفطرية". وهو مشروع خلصت إليه مجالسات الدكتور فريد مع آي القرآن الكريم فهما وتدبرا وتفكرا، مستحضرا فيها واقع أمة القرآن، وما تتخبط فيه من تيه وبعد عن منبع الهداية ومصدر النور، وذلك إما بطلب الهداية في غيره ظانين كل ما يلمع ذهبا، أو النظر فيه لكن بغير نور الوحي وسنة من أنزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم.
فما هو هذا المشروع؟ وما أركانه وأسسه؟ وما الذي يميزه عن أخواته من المشاريع الإصلاحية التي ينتقدها؟
مشروع الفطرية: المفهوم والاستمداد
"الفطرية" مشروع قرآني أساسه قول الله جل جلاله: "{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 29 - 32]
وأول ما يوقفك على المصدرية القرآنية لهذا المشروع هو عنوانه نفسه "الفطرية" والمشتقة من الكلمة القرآنية الفطرة. والفطرة هي الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به.
ومزجا بين معنى الفطرة في اللغة ومعنى آيات سورة الروم المؤسسة لهذا المشروع يكون مفهوم الفطرية هو: "إقامة الوجه للدين حنيفا خالصا لله وذلك بمكابدة القرآن ومجاهدة النفس به تلقيا وبلاغا، قصد إخراجها من تشوهات الهوى إلى هدى الدين القيم، ومن ظلمات الضلال إلى نور العلم بالله".
وما أشد حاجة الإنسانية جمعاء في عصرنا الحالي إلى هذا المشروع الإصلاحي الوجداني القائم على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، والتي صارت مرمى كل مفسد يقصد تغيير خلق الله محاربا سنن الله في خلقه.
ورأس الفطرية وأساسها هو القرآن الكريم، إذ الفطرة تتغدى من روحه العظيمة تخلقا وتحققا، ثم تشتغل ببلاغ ما تلقته بالمنهج نفسه. فالقرآن الكريم ليس مجرد شعار في هذا المشروع، بل يحيى به ويستند إليه في كل أركانه ومسالكه ومقاصده. يقول الأنصاري: "فدع بصائر القرآن العظيم تصنع خريطتها الفطرية في المجتمع، كل المجتمع، وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه".
على ماذا يرتكز مشروع الفطرية؟ وما هي مسالكه؟
هي ستة أركان، عليها يقوم مشروع الفطرية:
فهي أركان تحدد أول الطريق (نية الإصلاح الخالصة لا ابتغاء المناصب الفانية)، ووسيلته (التزكية في مدرسة القرآن وفق منهج رباني يجمع بين طريق العلم وصبغة الحكمة)، ثم تقرر غايته ومنتهاه (الآخرة هي الغاية، لا الركون إلى عمارة الدنيا والانشغال بأبراجها ومنشآتها).
لتحقيق غاية مشروع الفطرية لابد من ثلاثة مسالك تربوية تقود العبد إلى ربه:
- المسلك الأول: اغتنام المجالسات
إنها مجالس القرآن الموصلة لحقائق الإيمان. وقوام هذه المجالس: التلاوة بمنهج التلقي، التربية بمنهج التدبر، تعليم الكتاب والحكمة بمنهج التدارس.
وهذه مجالس مركزية في مشروع الفطرية، وليست من قبيل مجالس الترف الفكري. فبها تتركز المعاني الفطرية في النفس الإنسانية، ويزكى بها ما اعوج من هذه المعاني.
ويقصد بالتلقي في هذه المجالس القرآنية: "أن تصغي إلى الله يخاطبك، فتبصر حقائق الآيات وهي تتنزل على قلبك روحا، وبهذا تقع اليقظة والذكر، ثم يقع التخلق بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: "كان خلقه القرآن"".
- المسلك الثاني: التزام الرباطات
وهذا هو الشق العملي من مشروع الفطرية، ويقوم على التخلق بمقتضيات حقائق الإيمان، ويُعقِب العلم عملا حتى لا يبقى فقط ادعاء وتنظيرا. إنه رباط الفطرية القائم على تزكية النفس بتحليتها بالمحاسن بعد تخليتها من المساوئ والمعايب.
- المسلك الثالث: تبليغ الرسالات
وهذا سبيل من اتبع الرسول الأمين صلوات ربي وسلامه عليه، مصداقا لقوله تعالى: "{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[يوسف: 108]". فمشروع الفطرية يستهدف الفطرة الإنسانية بإحيائها وتقويم معوجها. والفطرة الإنسانية في كل إنسان، وهذا وجه من وجوه عالمية الإسلام.
العمران من منظور الفطرية.. مدخل التحول الحضاري للعمل الإسلامي المعاصر
قد يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن مشروع الفطرية، أنه مشروع إصلاحي لفطرة الفرد دون الجماعة، في حين أنه مدخل للتحول الحضاري للعمل الإسلامي المعاصر، إنه مشروع فرد وأمة يصحح النظرة إلى مفهوم العمران والذي قصره البعض في أنه تخطيط للبناء المادي وهندسته، في حين أن العمران من وجهة نظر الفطرية: هو بناء الإنسان بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.
إننا نتحدث في مشروع الفطرية عن عمران قرآني تتحدد قضاياه في:
- التوحيد: بالتعرف على الله سبحانه والتعريف به، وربط هذا التعرف بالمقاصد التعبدية والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى. وهذا سيعيد للقرآن الكريم مكانته في بناء عقيدة المسلم دون الإغراق في القضايا الكلامية أو تقصد إثارة المشكلات الخلافية.
- العبادة: وأهم رموزها الصلاة، مع إحياء بعدها العمراني من المساجد والجوامع. وإذا كانت الصلاة هي عماد الدين فهي أيضا مفتاح صلاح المجتمع، وهذا ما تؤكده العناية الفائقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤسسة المسجد.
- المجتمع: ونواته الأولى: الأسرة. وقد عني الإسلام بقيمتين أساسيتين في الأسرة المسلمة: قيمة العِرض وقيمة الرحم.
- علم الدين: من خلال منهجي التأهيل والتأصيل، فالتأهيل بتكوين النخب للتحقق بمفهوم العالِمية القائم على ثلاثية: الملكة الفقهية، الربانية الإيمانية والقيادة التربوية الاجتماعية. والتأصيل بتحقيق قضايا العلوم الشرعية خاصة الأحكام الفقهية، لأن غياب الثقافة الفقهية تجديدا واجتهادا أدى إلى معضلتي: الجمود عند الظواهر من النصوص، والتجرد من الأدلة الكلية بالاستغناء بأقوال الأئمة عن النصوص الشرعية، فنتج عنهما جمود وتقليد.
التأصيلات المنهجية لمشروع الفطرية.. بعثة جديدة واستدراك لما فات
ككل مشروع إصلاحي يروم تحقيق رسالته على أرض الواقع، يحدد مشروع الفطرية تأصيلات منهجية يستدرك بها كثيرا مما فات غيره من المشاريع الإسلامية الإصلاحية. وهي ستة تأصيلات:
إن الفطرية مشروع دعوي عام، وتصور كلي للعمل الإسلامي، يقول عنه الدكتور الأنصاري:
"نادينا بفطرية العمل الإسلامي، أي الرجوع به إلى أصل فطرته الدينية وإلى طبيعته الشرعية، الجامعة بين البساطة والعمق، سواء على مستوى المصطلحات والمفاهيم، أو على مستوى المناهج والتصورات، لأن بذلك –في نظرنا- يستوي ميزانه وتستقيم أحكامه".
إن هدف الفطرية هو "شروط النهضة" بتعبير بن نبي، أو "آفاق النهضة" بتعبير أبي يعرب، أو البعثة –كانتقال تاريخي كبير بتعبير الأنصاري.
ولمواجهة طاغوت العولمة الذي يستهدف فطرة الإنسان، يتكلم الأنصاري عن "عولمة مقابل عولمة" ويقول: