وكاتبني أحدُ المكلومين: ألا ترى أنّك تكتب عن الثبات وتباشير النصر، بينما لا يجد أحدنا مكاناً لتلد فيه امرأته، وننتظر خفّة النار لنجمع بعض الأشلاء الممزّعة لأهلنا من بين الأنقاض لنواريها في قبور جماعية نردمها بحجارة الأنقاض حتى لا تنبشها الكلاب!
إنّ أوجاع الناس هناك أشدّ من أن توصف، وذهولهم يزلزل الراسخين منهم، والرهق المستديم قد أصاب الناس بصورةِ عجزٍ لا توصف، وكلمات قهرٍ لا تنتهي ولا تعبِّر، حتى إننا من البعد نكاد ننهار مما تكشف بعضه عيون الإعلام.
كنّا نكتب لعامّة الناس أنّ المنتظر ييأس إذا طال انتظاره، والمتربّص ييأس إذا لم يدرك مبتغاه، والمستعجل الذي لم يدرك غايته ييأس، والمقيم في على حاله ييأس، فكيف بهذا البلاء المقيم الذي لم يهدأ ساعةً على أهلنا في القطاع.
وربما ستتسلّل منهم أثناء متابعتكم لهم كلمات قاسية مشوبة بالكثير من الخيبة والاكتئاب، ومشحونة بالكثير من الغضب والاتهام، ولن يفوتكم وأنتم تسمعون كلماتهم سماع أصوات الزنّانات التي لا ينقطع تَحْوامها فوق رؤوسهم تمزّق كل فرصة للشعور بلحظة أمن تسكّن روعاتهم.
كثيرون أصابهم اليأس، وانقطع رجاؤهم، وفقدت الحياة معناها مع شيوع اليأس في عيونهم، وعقم الرجاء لديهم، فتراهم كالزهاد من شدّة ما غرس اليأس في قلوبهم من انقطاع الأمل، وانتفاء الطمع في حصوله، وأصبح رجاؤهم أن يسمعوا إشاعة هدوء يستريح فيه شقاؤهم ولو كان بعد دهر ليُعلِّلوا به صغارهم.
ويبلغ اليأس تمامه بطول البلاء، وتوطُّن المكاره، ووقوع القنوط من قرب إدراك رحمة الله، وظنّوا بالله الظنون، وفقدوا القدرة على التصبّر، وانعدمت لديهم معاني العزاء، واعتقدوا في نفوسهم استحالة الفرَج القريب، وانعدام فرص النجاة.
وهذا اليأس داء فتّاك بالنفس، يضيّق عليها، ويخنقها، حتى ينعدم فيها الشعور بالمسؤولية، ويرتمي في مراتع اللامبالاة كالمجنون.
ويشتدّ اليأس بما يرونه من خيبة الخذلان وانعدام النصرة رغم استباحة الدماء والأعراض وكل هذا الدمار المزلزِل، فيثقل الخطبُ أكثر على المرء فيَعمَى، ولا يكاد يَبِين له الطريق، فتراه يائساً مخذولاً خارت قواه، وانكسرت همّته، واستبدّت به مشاعر العزلة، واجتاله سيئات الظنون، واستفحل فيه الداءُ وأعضَلَ، وقتله الأسف، ومات خاطرُه .
وهذا الحال إذا وصل إليه المرء فإنه على مفترق طريق: فإما أن يستمر في قنوطه، ويتسخّط ويظل في جزعه، ولن يجد في ذلك عزاءً سوى الغضب الذي يأكله وعدم وصول الطمأنينة إلى قلبه، وإما أن يجد في ذلك سبيل الأنبياء وسبيل أولئك الذين إذا اشتدّ حبّ الله لهم زاد بلاءهم ليمحّصهم ويميز الخبيث من الطيب منهم لأنه أراد لهم درجة عالية في جنته، ورفعة عالية في دنياه.
وعندما نتحدث عن آفة اليأس الاجتماعية القاتلة هذه فإننا لا نطعن في المجتمع الحديديّ الذي صمد كل هذه الشهور على كل هذا الدمار، فمَثَلُهم كمثل الأنبياء الذين استيأسوا من الخذلان، ويئسوا من النصر غاية اليأس، وقد عبّر عنه القرآن بوصف "استيأسوا" وكأنّ الرسل طلبوا هذا اليأس، واستحضروه لمّا ضاقت عليهم السبل، وأغمضت عليهم المفارج، واشتدّ الكرب، ليعذروا أنفسهم أمام ربّهم.
في تلك اللحظات القانطة يخبرنا الله أنّه لم يتركنا، ولم يُخلِف ظنّنا فيه، وأنّ نصره قد جاء بتلك اللحظة الفارقة التي هي فوق قدرتهم على التحمّل، يقول ربّنا: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾.
وقد علِمنا أن هذا البلاء العظيم مقرون بالتعظيم لمن اختارهم الله لهذا القضاء المقدور، وأن العزّ والرخاء مقرون بالجهد والبلاء، وكأنّ اليأس والإبلاس وعموم المصيبة حافزٌ على المصابرة الجماعيّة، وأنّ تعجيل اليأس هو أحد اليُسْرين وإحدى الراحتين، وأكمل الظَّفرين، ولهذا ينجّي الله من يشاء من هذا البلاء المخصوص ليكونوا أقوى وأقدر على مواجهة ما سيأتي بعده لخصوصيّة ما اختارهم إليه فيه.
وذلك أنّ لليأس جرأةً على النضال والمواجهة أشدّ من هجمة الأمل، لأن اليأس هنا حرّيّة تجرّدت من الاحتياج إلى أحد، والأمل أمنيّة تعيش بانتظار الرجاء؛ ولطالما كان استفحال اليأس مربّياً محترفاً في معسكر الإعداد العنيف، لأنّه يدفع بالمرء إلى المرمَى في آخر حدوده، وخيرُ اللقاء ما كان بعد اليأس من حصوله.
ومن هنا جاء التوجيه الإلهي بألّا يقنط المؤمن من رحمة الله مهما تأخرت واستبطأت، وأن النجاة قدرٌ محتومٌ في عاقبة الأمر، وأن عقوبة المجرمين نافذة وبأسه الشديد غير مردود، وأن البلاء في سياق الابتلاء هو في حقيقته إعدادٌ للتغيير الكبير، ونحن على سنة الأنبياء في هذا البلاء كما (همّت كل أمّة برسولهم ليأخذوه) فأخذهم الله.
ومن شواهد ذلك الفقه ما ورد في الأثر: (إذا أحَبَّ اللّه عبداً ابْتَلاهُ، وإذا أحبَّه الحبَّ البالغ اقْتَناه، لا يترك له مالاً ولا ولداً)، -ومعنى اقتناه: اتخذه واصطفاه- ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: (لم يفقه عندنا مَن لم يعدّ البلاء نعمة، والرخاء مصيبة)، وقال العُتبيّ القرطبيّ: (إذا تناهى الغمُّ انقطع الدمعُ، بدليل أنك لا ترى مضروباً بالسياط ولا مُقدَّماً لضرب العنق يبكي).
وتيقّن أنّ الله سبحانه إذا سلك الله بك طريق البلاء فقد سلك بك طريق الأنبياء، فاثبت ولا تقنط من رحمة الله، ولا تيأسنّ من الرجاء بالفَرَج الكبير الذي يُنسيك كل هذا الألم العميق، وترضيك عاقبتُه.