إن أساس كل فلسفة وكل أسلوب في الحياة قائم على لون خاص من الاعتقاد والنظر والتقييم للوجود، وعلى نوع معين من التفسير والتحليل والتأويل والفهم والاستنباط، وكل مبدأ له انطباع محدد ونمط تفكير مميز في الكون والوجود، وهذا ما يتخذ قاعدة وأساسا وخلفية فكرية بنائية لهذا المبدأ أو ذاك، ويصطلح على هذا الأساس أو تلك القاعدة مصطلح "الرؤية الكونية" أو "المرجعية النهائية".
لذلك فكل واحد من الأديان والشرائع والمبادئ الوضعية والفلسفات الإنسانية، يعتمد على رؤية كونية ما، تكون مصدر التصورات والقيم والأفكار ومناهج التفكير والغايات والأهداف العليا، فهي إطار نظري يحكم الرؤى والمواقف، والتصرفات والتطلعات.
لكل حضارة أو أمة أو حتى مجتمع مرجعيته التي ينطلق منها في تصوره للوجود ولفعله التاريخي (جعفر- 2017).
والمرجعية الإسلامية أو الرؤية الإسلامية للكون والحياة هي الرؤية التوحيدية أي أن ننظر للوجود والعالم والتاريخ وللواقع من منظور الإسلام و من التصور التوحيدي الذي جاء به الإسلام (بدران- 2016).
فالتوحيد عقيدة أي تصورا كليا للوجود، وهذا ما أشار إليه كثير من علماء المسلمين، ولعل إسماعيل راجي الفاروقي في كتابه الشهير "أطلس الحضارة الإسلامية" وكذلك في كتابه "التوحيد وأثره في الفكر والحياة" بسط القول في التوحيد باعتباره جوهر الحضارة الإسلامية، وتتبّع تجلياته وأثره في المعرفة والفكر والمجتمع والحضارة.
وفيهما أكد الفاروقي أن الحضارة الإسلامية جورها الإسلام، فمن خلال الإسلام نشأت تلك الحضارة وازدهرت، وعلى هديه انطلقت، وبفضل تعاليمه وبفضل الرؤية التي أسسها الإسلام في وعي الإنسان المسلم انطلق المسلم يبدع علوما ومعارف ويبني نظما ومجتمعات ويعطي للإنسانية واحدة من أعظم حضاراتها.
إذا كان الإسلام هو جوهر الحضارة الإسلامية، فإن التوحيد هو جوهر الإسلام ، فعقيدة التوحيد التي جاء بها الأنبياء وبسطها الإسلام في مصادره (القرآن والسنة) أسست رؤية للوجود تقوم على توحيد الله سبحانه، و تحدد الصلة بين الله والإنسان والكون.
بعبارة أخرى فإن التوحيد الذي هو جوهر الإسلام يمثل رؤية متماسكة "إلى الواقع والحقيقة والعالم والزمان والمكان والتاريخ البشري"(الفاروقي، التوحيد، ص 131).
هذه الرؤية تجعل التصور العقدي للإنسان المسلم قائما على أسس متينة تمنع الاضطراب والخرافة والأساطير وتعلي من شأن الإنسان ومكانتة وعييه وإدراكه وتفسح أمامه الوجود كله ليحقق الوعي بهذا التصور ويحقق غاياته التي من أجلها خلق ومن أجلها استعمر في الأرض؛ "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، 56)، "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة، 30).
وهذه الرؤية التوحيدية تضع في وعي الإنسان أن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون والكون نفسه (العالم) مخلوق له سبحانه، كما أن الله الذي خلق الكون هو صاحب الأمر الكوني فيه، وصاحب الأمر الشرعي "أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الأعراف، 54)، ولا يتعارض أمره الشرعي في كتابه العزيز مع خلقه الكوني وهذا ما يؤسس لوحدة المعرفة أي معرفة الكون ومعرفة الكتاب فكلاهما يرجعان إلى الله تعالى خلقا أو أمرا ولهذا فإن العلم الكوني مطلوب مكمل لعلم الكتاب وعلم الكتاب مطلوب مكمل لعلم الكون.
إن الناظر في كتاب الله تعالى يجد توجيهات كثيرة إلى النظر والتعقل والتدبر والسير والبحث واستعمال الحواس، والمشاهدة، والتجريب، كما يجد توجيهات كثيرة للتأمل في التاريخ وفي القوانين التي تحكم حركة التاريخ وفي الأنفس والآفاق. فالوحي في الكتاب العزيز، والنظر في الكون، وإعمال العقل والحواس تدبرا وتجريبا، كلها مصادر للمعرفة يكمل بعضها بعضا، وهذا منوط بالإنسان وقدراته الإدراكية منطلقا ومبدأ لوعي العلاقة بالله تعالى وفهمها واستيعابها، ولتعمير الكون، بما وهب الله للإنسان من الذاكرة والتخيل والتفكير والملاحظة والحدس، سواءً عند التعبير عن هذه العلاقة بوحي الله المنـزل إلى الإنسان، أو بقدرة الإنسان على إدراك الإرادة الإلهية من خلال الملاحظة الحسية للمخلوقات والتفكر فيها.
وهذا كله يجعل المعرفة وحدة واحدة، وتكمل فروع المعارف والعلوم بعضها بعضا بما يحقق غاية الانسان في هذا الوجود؛ وهي الغاية التي كلف الله الانسان المستخلف في الأرض لتحقيقها، وفق سنن متعددة في الكتاب وفي التاريخ وفي الانفس والآفاق "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت، 53).
فلا الخلق كان عبثاً، ولا المخلوقات فوضى، فإرادة الله تتحقق في الأشياء والأحداث وفق قوانين وسنن، وإرادة الله تتحقق في الإنسان من خلال حرية الاختيار التي تستبع المسؤولية الأخلاقية عنها، والقيام بها من خلال إدراكها بقواه الادراكية وإعمال منظومة السنن وتسخيرها.
وهذا يجعل كل العلوم مطلوبة، وكلها علوم شريفة. ولا تتفاضل العلوم تفاضل يستبعد بعضها مطلقا ويقرب الأخرى، بل تترتب العلوم في الوعي الذي يؤسسه التوحيد في وحدة متكاملة، ووفق تراتبية تجعل بعض العلوم علوم غايات، وبعضها علوم وسائل، أبو بعضها علوما معيارية وبعضها علوما عملية تطبيقية، ولكنها كلها مطلوبة.
وما نراه اليوم من ازدراء لعلوم الكتاب واهتمام بعلوم الطبيعة والتقنية، أو اهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية على حساب العلوم الشرعية، أو جنوح بعض المسلمين إلى الاهتمام بالعلوم الشرعية وازدراء العلوم الأخرى، كل هذه المواقف في حقيقتها مواقف مشوهة، لم تستوعب التوحيد باعتباره رؤية كلية، ومبدأ للمعرفة، يؤسس لوحدة المعرفة وتكامل العلوم.