مفتاح بناء مفهومي الحرية التوحيدية وتوبة الأمم هو: إعادة الاعتبار لمفهومي (العلم) و(الدين). وفي التمهيد المطول الذي صدرت به كتاب (أوليات إصلاح ذات بين العلم والدين) الذي توفي مؤلفه المرحوم الشيخ جمال قطب قبل أن ينجزه وتوليت مهمة تحريره والدخول في قراءة مشاركة معه واستكماله، بينت أن مفهومي (الدين) و(العلم) بوضعيتهما في الوعي الجمعي لكافة المدارس المعرفية لا يحظيان حاليا بتعريف يصدق عليه القرآن الكريم، وأن جذر ذلك الخلل يرجع إلى القرن الثالث الهجري.
ولعله ليس من الترف الفكري الوقوف وقفة متأنية متدبرة نوعًا ما، في ساحة تحديد المعالم الكبرى، التي يكون من العبث البحث في وصف ما آلت إليه الصورة الإدراكية الإنسانية المعاصرة بكافة مشاربها لهذين المفهومين المفتاحين، من عطب، سواء على مستوى التعريف المعياري القرآني لهما، أو لفك أسرهما من الران المعرفي الأحادي القبلة والوجهة، الظالم لهما تفريطًا تارة بنسبة ما هو من صميمهما لما ليس لهما به من صلة، إلا بدعوى ما أنزل الله بها من سلطان، أو إفراطًا بإقحام ما هما بريئان منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، بالخلط بين: جوهرهما وبين صنيع الإنسان بكل أنماطه، وبكل أنساقه العمرانية الربانية الجعل، والإنسانية الجعل، بكليهما.
ومن واجب العصر البحث في آفاق بنائهما معياريا من معين القرآن الصافي لفك أسرهما وتلمس الإحسان المعرفي في إصلاح ذات بينهما.
ويطرح ذلك منظومة من الأسئلة: ما الدين والعلم في مضمونهما الدلالي المعياري الفرقاني؟ ما الدين والعلم بمضمونهما الدلالي الواقعي المعاصر؟ ما الدين والعلم بمضمونهما الدلالي العمراني الاستدراجي؟ ما الدين والعلم بمضمونهما الدلالي العمراني التمكيني؟ ما هي خريطة الفجوة بين الدلالات الثلاثة الأخيرة لهما، بمؤشرات دلالتيهما المعيارية الفرقانية؟
ودون الغوص في أعماق تلك الأسئلة الأربعة، يستحيل وصف مسعى (إصلاح ذات بين الدين والعلم) بالرصانة والرشد، ويكون في أحسن الفروض، جهدًا تزيينيًا وتغليفًا سطحيًا، يعمق سوء ذات البين بينهما، ويحرم العقل المسلم من الإحساس بألمه، وبإلحاح الحاجة إلى مقاربته تخلية وتحلية وتجلية بمداد من (الشرعة والمنهاج) المبينين بالقرآن.
ولعل من البدهي أيضًا القول بأن للإجابة الحقيقية على تلك الأسئلة طريق واحد هو: المسعى المعرفي بوحدة تحليلية ناظمها هو: الشرعة والمنهاج الجامعان، بقبلتهما الواحدة المتمثلة في البيت الحرام، بما تفتحه من سبل السلام، وما تقرره من نفي مطلق للإكراه في الدين، وحث على المجاهدة بالقرآن والبلاغ به، وتقرير لتعدد وجهات الأنفس والأنساق الإنسانية العمرانية، ودعوتها جميعًا إلى استباق الخيرات، على أرضية كلمة التقوى، وكلمة السواء، والبر الإنساني الجامع والقسط، لكل من لا يبتغي فتنة غيره في دينه.
فبمسعى معرفي منهجي، تلك هي علاماته، يرجى استعادة الوعي بالجوهر الحق لمفهومي الدين والعلم، وصنع ما لحق بكليهما من أعطاب، ومن اختلاق لتنابذات (هي سمات حقيقية لصورهما الممسوخة وحسب). وعبر سقياهما من ماء كلمتي التقوى والسواء الأمتيين، وإعادتهما إلى ساحة الاستمداد من النور الرباني، يغدوان زوجان متكاملان في وظيفتيهما القرآنية المتمثلة في وقاية الإنسان بكل أنساقه من الضلال ومن الشقاء، وتتحصل الإجابة الصحيحة على: عدة وعتاد إصلاح ذات بينهما.
فلقد توزع العقل الإنساني على مدى التاريخ بين الدهرية والتوحيد، مع مفارقة الدعوى الدهرية الأبدية بأسطورية الدين المنزل من عند الله في مقابل، الزعم بواقعية وعلمية الديانات الدهرية.
ويستحيل حسم إشكالية الإفساد الدهري والمداهن للعلاقة بين الدين والعلم إلا باجتناب البحث عن الفارق وتخليقه بالهوى واستنادًا إلى معرفة جزئية قاصرة، أثبتت الخبرة التاريخية مرارًا زيف ما تولد عنها من قناعات. ذلك أن الأمم على مدى التاريخ تقع عادة في فخاخ كتابة الأقوياء للتاريخ على نحو انتقائي، يخفي أعطابهم، وكثيرًا ما يلصق ما بهم من عيوب بخصومهم.
زد على ذلك أن العقل البشري المكتفي بذاته، وكذا العقل البشري الرافع صوته على الهدي الرباني المنزل، ينزلق كثيرًا عن قصد أحيانًا ولا شعوريًا في أحيان أخرى، في تزييف عبرة الماضي، وفي التعتيم على كثير من مجريات الحاضر.
تقرؤون في ملف الدراسة:
- تمهيد لازم
- أولا: مقاربة في بناء مفهوم الحرية التوحيدية من الموقف التأسيسي الأول: المعطيات المفتاحية للحفر المعرفي في منافذ إساءة ذات بين العلم والدين
- مفهوم العلم في لسان القرآن
- ثانيا: مفتاح بناء مفهوم توبة الأمم في لسان القرآن الكريم
- مفتاح نموذج قوم يونس
- التوبة الأمتية من ماذا؟
- ما هي معالم الرؤية الكونية الكلية الحضارية القرآنية؟
- ثالثا: أبرز عواقب غياب الرؤية الكلية القرآنية والأمة المنية
- رابعا: مفاتيح الفيئة الأمتية إلى صراط الله تعالى
- خاتمة: التوبة الأمتية المؤسسة على الحرية التوحيدية شرط لإصلاح ذات بين الإنسان