على أعتاب الثلاثين أحاول أن أدون في سنتي العشرينية الأخيرة خلاصة تجربتي كفتاة دخلت كلية العمارة مشبعة بأفكار التيار النسوي لتحدي مجال كان حكرا على الرجال لسنوات عديدة، أدون أفكارا وخواطر مرت على فكري وإجابات قد عجز عقلي قليل التجارب الفكرية يومها عن الإجابة عليها لتكون نموذجا محلولا يُسهِّل على الكثيرات امتحان الحياة. بقلب الأم التي أصبحتها أكتب لابنتي الوحيدة خلاصة عاصفة من المتضادات حول كوني امرأة مسلمة بالوراثة وتوضيحا لكل ذلك اللغط الذي كنت أردده؛ "أنا الأنثى الكاملة التي لاتفتقر لرجل يكملها"، أقول اليوم وكلي قناعة أن دوري في الخلافة على هذه الأرض لن يكتمل إلا به.
إن أول ما أود التطرق إليه في هذه السلسلة هو ذلك الصراع الذي تقحم فيه المرأة نفسها ليستنزف منها الكثير من الوقت والجهد ويلهيها عن دورها الأساسي الذي يقوم على إعمار هذه الأرض.
كثيرة هي الكتب والحوارات التي سمعتها عن المرأة والإسلام -حتى خيل إليّ بعمري الصغير ذاك أن هناك إسلاما خاصا للمرأة وآخر للرجل- برامج لا تتوقف لحوارات لشيوخ يحاولون الدفاع عن صورة الإسلام بينما تقذف بعض رائدات النسوية في عالمنا العربي تلك المعاني المنسوبة للدين الإسلامي والتي تنتقص قدر المرأة. خيل لي للحظة آنذاك أن هناك قسما يسمى "إسلام المرأة" منفصلا تماما عن "إسلام الرجل"، معاني أصبحت تردد كـ"كليشيه" ترفعه النسويات في وجه أول شيخ يقابلها على طاولة الحوار، "ناقصات عقل ودين"، "وقرن في بيوتكن"، وغيرها من الأحاديث والآيات التي أخرجت عن سياقها وقذفت في صدور العشرينيات على أنها الصورة التي يعطيها الإسلام للمرأة وكأن ذلك الدين الجميل المعاني الذي توارثناه لم يأتي بغيرها لتأتي ردة الفعل المتقدة بحرارة اكتشافات الأنوثة الأولى ضد الدين وتعاليمه متجاهلات التمحيص لتلك العادات المجتمعية التي خُلطت بتعاليم الدين حتى خيل إلينا أنها من صلب الدين.
دون أن أنسى التنويه إلى طرف آخر في هذا الصراع وهو ذلك الطرف الذي أخذ التشدد منهجا ونعت بالكفر والخروج عن الملة كل من خالفه، فالإشكالية الحقيقية ليست إشكالية الصراع بين الحركة النسوية والمجتمع والدين المجموعين في كفة واحدة بل هو صراع متعدد الأقطاب التي تنوعت بين التشدد والتراخي، تتوه فيه الفتيات المسلمات اليوم بين الانطلاق بكل حماسهن العشريني وتعاليم يرون فيها قيودا لحريتهن. للإجابة على كل هذا أتشرف أن أضع بين أيديكن سلسلتي هذه.
ما الغاية من خلقنا على هذه الأرض؟ ولماذا وجدنا؟
لنحصل على رؤية واضحة المعالم حول موضوع "المرأة في الإسلام" علينا العودة إلى نقطة البداية وأن نطرح الأسئلة الجيدة لنحصل على حلول حقيقية لكل تلك "الكلاكيع" التي قد غدت أغلالا ترسخ بها حياة النساء وأول ما يمكننا البداية به هو سؤال ما الغاية من خلقنا على هذه الأرض ولماذا وجدنا؟ ثم لماذا خلقنا كنساء؟
"إني جاعل في الأرض خليفة" وهي الإجابة الأولى على تساؤلنا حول الغاية من وجودنا، خلقت لأكون خليفة لله على هذه الأرض وسأسعى لتحقيق هذه الغاية من خلال عبوديتي له عز وجل، فعبوديتي هي خالص الحب الذي يولد خالص الطاعة التي تجعلني في حرية تامة من الخضوع لغير لله، على اعتبار أن ولائي لا يكون لغير هذا الإله العظيم الذي أبدع هذا الكون وتكفل لي بالعناية التي تغنيني عما سواه ولا تذلني لغيره فلا ضار لي ولا نافع إلا بأمره. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن خالص الحب الذي ولّد خالص الطاعة سيغنيني عن البحث عن الحكمة من بعض الأوامر والأحكام التي تكتمل بها عبادتي لهذا الخالق العظيم الذي كفل لي بعظمته أن جبيني لن يحنى لغيره.
ولعلي هنا أتذكر موقفا لي مع إحدى المتحدثات باسم الحركة النسوية في عالمنا العربي -واللواتي هن في الغالب ممن استوردن الأفكار من العالم الغربي وسعوا إلى قولبتها على مقاس شرق أوسطي- حيث دعتني لتوحيد الجهود للدفاع عن حقوق المرأة لنخرج بمشاكلنا العربية إلى نور العالمية، كلام قد بدا لي معقولا في البداية قبل أن أتوصل إلى أنه من جملة السم المدسوس في العسل وتجلى ذلك حين أجابت عن سؤالي لها حول كيفية الخروج من الدائرة العربية الضيقة إلى العالمية حيث قالت: أن نظرة الانتقاص التي تعانيها المرأة العربية لا تزول إلا من خلال تجريدها من كل تعريف آخر لها، أي بمعنى آخر علينا الاكتفاء بتعريفها بأنها امرأة وهو معنى يشمل كل نساء الكون دون النظر إلى مرجعية دينية أو عرقية وهنا نضع ألف خط حول هذا التعريف الشمولي.
فكمسلمة سيكون علي أن أُعرّف نفسي بالعبودية لله عز وجل قبل حتى أن أُعرَف بكوني أنثى، عبودية تُولّد عزة تجعلني أرفض الظلم وأجعله محرما على نفسي أيضا، عبودية تعطيني حرية الاختيار بين الانتصار للنفس أو الصبر على الأذية الذي أختاره طواعية.
فالخطر الذي أجده في تلك "الشمولية" التي دعت إليها أنها ستخرجني من مقياس الصواب والخطأ الذي تحدده عبوديتي لله وتنقلني للتقييم حسب الذوقيات وما استحسن من الأمور وهو ما يتنافى مع مبدأ التسليم للأحكام التي أتت بها الشريعة الإسلامية والتي تعتمد في مرجعيتها على ما جاء به الوحي أي القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.
فكيف لي أن أُعرّف نفسي بهذا التعريف الشمولي بأني امرأة وفقط وأستند إليه في كل نواحي حياتي وأستسقي الصواب والخطأ فيه بمن لا يؤمن بمرجعيتي، مغفلة تعريفي الأول والأساسي الذي يقوم عليه إسلامي وهو عبوديتي لله والتي تبنى عليها طاعتي لأحكام الشريعة من جهة وعدم خضوعي لغير الله من جهة أخرى.
خلاصة ما أود قوله خلال مقالي هذا هو أننا نردد شعارات لا نعرف حقيقة معناها ولا ما سيترتب عليها من أفعال، وإن كنا نريد حقا الرقي بالمرأة في عالمنا الإسلامي والعربي علينا بأن نعود إلى نقطة البداية حيث ستعرف بعبوديتها لله عز وجل وستكون وظيفتها الأساسية خلافة لله على هذه الأرض خلافة لا تتأتى إلا باتحاد قطبي الجنس البشري ذكرانا وإناثا وليس الزج بنا في صراع لإثبات الذات يلهينا عن ما أوجدنا الخالق لأجله حقا.