لقد ظلت مسألة توطين العلم في العالم العربي أحد أهم الأسئلة التي تشغل بال الكثير من المفكرين والإصلاحيين منذ عقدين من الزمن تقريبا، بدأت مع بروز الجيل الأول للإصلاح مثل جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وغيرهما، هذا الجيل الذي تلقى ما يسمى بصدمة الحداثة واستفاق على واقع تعيش فيه أوروبا صحوة فكرية وثورة علمية وتغرق فيه الأمة في مستنقعات الركود والتأخر الحضاري واتساع الهوة بينها وبين أوروبا بعد أن كانت تقود ركب الإنسانية في التحضر والتقدم المعرفي؛ فشكل البحث فيه عن كيفية ترسيخ العلم والمعرفة أكبر الرهانات والإشكالات.
توطين العلم.. ما هو؟
نقصد بتوطين العلم مجموع المناهج الفكرية والتعليمية والأساليب والممارسات التي يمكن من خلالها أن نزرع ونرسخ داخل مجتمعاتنا العربية والمسلمة ثقافة وتقاليد علمية، تكون مواكبة للثورة العلمية التي يعيشها العالم الغربي ومنسجمة في آن واحد مع الموروث القيمي والحضاري الإسلامي والعربي دون استيرادٍ للتطبيقات الغربية للعلم وخاصة المبنية على المادية ومقاطعة العقائد؛ كما يرمي التوطين إلى صناعة مؤسسات تقوم بهذا الدور الحيوي والحساس جدا علّنا بذلك نستطيع إحداث نقلة علمية نوعية بمقاييس يمكن تحديدها والعمل عليها وضبطها، ونحقق بذلك عمرانا فكريا وإنسانيا يعيد للأمة العربية والإسلامية مجدها وبريقها الغائب منذ قرون.
أين تكمن عوامل نجاح الحضارة العلمية العربية الإسلامية؟
لقد سعى الإنسان منذ قديم الزمان إلى اكتساب القوة بأنواعها كلها وفهم الإنسان واكتشف عبر العصور والتاريخ أن معرفة الأشياء أساس ذلك والسبيل إليه.
في العهد الفرعوني كانت المعرفة حكرا على الكهنة فقط، حيث منعوا عامة الشعب من تعلم الكتابة ورموزها؛ فكان زوال المعرفة مرتبطا بزوال أصحابها، إذا كانت حكرا على فئة محددة من الشعب.
وفي العهد اليوناني، فقد كانت هذه المعرفة منتشرة على شكل علوم قائمة على السفسطة، فأدت هذه الطريقة إلى خلق خلافات كبيرة وتناقضات داخل العلوم نفسها، مما أدى إلى تعقّمها ومحو كثير منها للأسف.
أما المعرفة الإسلامية، فإنها انطلقت من عند الله الواحد الأحد وأنشأ المسلمون العلم ذا الحقيقة الواحدة، مبنيًّا على الدليل والبرهان من ناحية وعلى التجربة والتحقيق من ناحية أخرى، وهذا ما جعل الحضارة الإسلامية تنجح وتستمر لقرون طويلة عكس بعض الحضارات التي سبقتها، فما هي أبرز عوامل نجاح الحضارة العلمية العربية الإسلامية؟
يرى رشدي راشد في بحثه "الوطن العربي وتوطين العلم" أن نجاح الحضارة العلمية العربية مرتبط ببعض العوامل المهمة والتي لا بد من الوقوف عليها حتى نعرف أسباب النهضة العلمية الأولى هذا من ناحية، ومن جانب آخر لأننا سنحتاج في حاضرنا ومستقبلنا إلى فهم تلك العوامل أكثر فأكثر كي نجيب على السؤال: كيف يمكن أن نوطن العلم في العالم العربي؟
العامل الأول: تشجيع السلطة السياسية والاجتماعية في دعم العلم وحركة نشر المعرفة،
ولعل أبرز ملامح هذه الخيارات إنشاء بيوت الحكمة والمراصد التي كانت في زمن الدولة العباسية من قبلِ الخلفاء، بل إن هذه العادة لم تشمل الخلفاء فقط بل انتشرت أكثر وكانت متوارثة بين الوزراء والأغنياء داخل المجتمع، ونذكر على سبيل المثال ابن المنجم وابن المدبر وغيرهما، وحتى عند تمزق الخلافة إلى دويلات وتشتتها بقيت هذه السنة الحميدة مستمرة وتعددت المراكز العلمية في كثير من المدن العربية.
وكان هذا أحد أهم أسباب ظهور مصطلح المدينة العلمية في كثير من المدن العربية، لأنها تحتوي المراصد الفلكية وبيوت الحكمة.
العامل الثاني: انبثق من حاجيات المجتمع الجديد من أمور مادية وثقافية وحتى دينية،
فتوسع دولة الإسلام والخلافة الإسلامية توجّب مزيدا من التعمير والبناء وشق القنوات وإنشاء مدن جديدة وهذا يحتاج لعلوم الهندسة طبعا.
مسألة الجباية وتنظيم الدواوين تتطلب الاستعانة بالجبر وفروع أخرى من الهندسة، أما المسائل الدينية والفرائض كالحج وغيرها احتاجت إلى أبحاث فلكية، فالعلم لم يكن هامشيا في المدينة العربية الإسلامية ولا في الثقافة العامة بل أصبح بتطبيقاته جزءا من الممارسة الاجتماعية ومن من البحث والتدريس؛ أي ليس ممارسات نظرية فقط.
العامل الثالث: الذي ساهم في النهضة العلمية فهي النهضة التي عرفها المسلمون في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية وغيرها،
ولا نستطيع المرور على هذه العلوم دون ذكر الدور الكبير الذي لعبته حركة الترجمة التي بدأت في أول حكم العباسيين، فقد أدخلت ديناميكية كبرى على عديد العلوم وخلقت تيارات تلاقحت فيها عديد العلوم التجريبية أو حتى اللسانية، واطلع العرب وقتها على الفلسفة الإغريقية وعديد النظريات حتى في الطب وغيرها من العلوم، حيث أخذ العلماء العرب المسلمون هذه العلوم وأضافوا إليها الكثير بل غيروا فيها وأبدعوا كثيرا في داخلها. وممّا ميز هذه الحركة أن كثيرا من المترجمين كانوا من كبار العلماء وقادة الحركة العلمية وبعضهم نجح في جعل اسمه في قائمة العلماء الخالدة أسمائهم على مر التاريخ.
ولا بد من التعريج على التقاء تياّرينِ من العلوم: العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية واللغوية، وهذا الشيء دفع إلى إنتاج علوم ومعارف ذات خصائص جديدة لم تكن معروفة أو حتى موجودة في الحضارات السابقة.
ومن أبرز الخصائص التي أنتجتها المعرفة الإسلامية عقلانية رياضية جديدة، ويمكن وصفها بالجبرية التحليلية، والخاصية الثانية التجريب كنمط من أنماط البرهان، ويمكن اعتماد تجربة الحسن بن هيثم كمعيار برهاني في البحث الفيزيائي، والتي أدت لتضييق الفجوة العميقة بين العلم والفن والثقافة.
لذلك لا بد من التركيز على هذا الإرث التاريخي والحضاري وهذه العوامل الهامة جدا، عندما نحاول التفكير في موضوع توطين العلم، خاصة علاقة العلم بالسلطة وتكامل العلوم الإنسانية والتجريبية ثم الأخذ من الحضارات الأخرى وحركة الترجمة أكبر دليل؛ نحن نحتاج بشدة إلى هذه الخصائص والأمثلة الحية في بناء ما يسمى منهجية تكاملية إسلامية ونموذجا إرشاديا يمكن من خلاله تحقيق صحوة ونقلة علمية وحضارية كبرى.
الحاجة لمنهجية علمية إسلامية مشتبكة مع القيم والثقافة
تعتبر الكاتبة يمنى طريف الخولي من الذين اجتهدوا في هذا الباب، وسعت إلى معالجة المسألة بكل هدوء وعقلانية وأعطت قراءتها الخاصة بها وركزت كثيرا على البعد المنهجي في كتابها "نحو منهجية إسلامية علمية"، قصد الوصول إلى نموذج إرشادي إسلامي حيث تقول:
"لا توطين للحركة العلمية ولا تأصيل لها في ثقافتنا إلا إذا كان لدينا أصول للمنهجية العلمية كامنة في خصوصيتنا الثقافية، لنقوم بتطويرها في طريقنا لاستيعاب الآليات المنهجية المعاصرة، في إطار نموذج علمي إرشادي إسلامي متجه صوب المستقبل"[1].
إذا في طريقنا نحو إيجاد حلول لمسألة توطين العلم في العالم العربي والإسلامي، نحن في أمس الحاجة للبحث عن منهجية علمية إسلامية لمعالجة بعض الأمور، خاصة عند التطرق لخصائص هذا النموذج الذي نسعى لبنائه، حيث نحتاج أولا إلى فهم نوعية وتاريخ بعض العلوم المعاصرة والتركيز على هذه المعارف، لأن هذه الأخيرة شهدت تحولات جوهرية كبرى منذ نشأتها وفي مسارها وسياقاتها التاريخية، فالمعرفة، دون شك، هي ظاهرة من الظواهر الإنسانية المرتبطة بعوامل كثيرة ومتعددة وتتأثر بكثير من المكونات القيمييّة والثقافية والمؤسساتية، وهذا ما يفسر ظهور كثير من النظريات حولها.
هنالك نظرية: تقول إن المعرفة أو العلم غير منفصل عن تاريخه وعن الأنساق الحضارية والقيمية التي يتطور وينمو داخلها أو التي هو في عملية تفاعل معها، خاصة عندما نريد التحدث عن النموذج الغربي والذي هو الطاغي في المجتمعات المعاصرة، والذي يعده البعض مقياسا نحدد به تقدم أو تخلف باقي الحضارات، ولكن هذا الطرح أو ما يسمى النزعة الغربية المركزية تم نقده ومهاجمته من قبل كثير من الفلاسفة مثل كارل بوبر (Karl Popper) الذي يرى أنه لا يمكن اختزال فلسفة العلم في مجرد تحليلات منطقية.
مَثّل صدور كتاب "بنية الثورات العلمية" لتوماس كون (Thomas Kuhn) منعطفا نوعيا داخل فلسفة العلوم حيث قدّم فيه مفهوم "الباراديم" (النموذج القياسي الإرشادي بتعبير المؤلفة) مؤكدا أن العلم ظاهرة مرتبطة بسياقات تاريخية ومكونات الثقافية وقيمية ومؤسسية:
"حدث أخيرا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى لأنه مثلها لا يفهم إلا في ضوء تطوره عبر التاريخ"[1].
ومن هذا المنطلق نفهم ونتأكد أكثر من أن مسألة توطين العلم ودمقرطة المعرفة في منطقتنا تحتاج إلى مناهج تكون مرتبطة بالقيم والمحددات وخصائص الثقافة العربية الإسلامية وليس قوالب معرفية ونماذج مستوردة من الغرب يتم اسقاطها علينا مباشرة.
نحو الاجتهاد في اجتراح منهجية إسلامية إرشادية معاصرة
تقول الكاتبة حول مسألة الاجتهاد في اجتراح منهجيتنا الخاصة بنا، والتي تتماشى مع روح الثقافة الإسلامية وتاريخنا الحضاري:
"يتأتى نقل هذا عن الغرب، ولن يكون معطى جاهزًا في التراث يُراد فرضه على الواقع، يمكن أن تكون أصولُه مستوحاةً من الوحي ومستلهمةً من التراث في عملية اجتهادية، هي ككلِّ اجتهاد إنساني ليست معصومةً من الخطأ، ومعرّضة دائمًا للتصويب والتعديل والتطوير. إنه اجتهاد يفتح الباب لاجتهاد متواصل في تفعيل الفكر وتوطين البحث العلمي"[1].
نفهم إذا أنه يجب أن يكون المنهج الإرشادي الذي نريد اجتراحه وتطويره منبثقا من تصور عام يكون واضحا ويستند إلى دعامات وأسس كانت موجودة سابقا في الحضارة المعرفية العربية، ويتمركز حول الخصائص الأساسية للهوية العربية الإسلامية.
ويتمحور مصطلح الهوية حول مفهوم مركزي وهو التوحيد ثم تنتظم حوله باقي المفاهيم وهي الاستخلاف والتزكية والعمران. إذا فهذا النموذج المعرفي عبارة عن أداة تحليلية يحتاج إلى مجموعة ثوابت وهذه الأخيرة هي المرجعية الأصلية لذلك النموذج ويمكن أيضا لتلك المرجعية أن تنتج كثيرا من المناهج في داخلها.
كيف يساعد علم أصول الفقه في تأسيس النموذج الإرشادي الإسلامي؟
أشارت الدكتورة يمنى طريف الخولي في كتابها "نحو منهجية علمية إسلامية" إلى توطين العلم في ثقافتنا، أين رأت أن علم أصول الفقه يمكن أن يكون ركيزة كبرى ومنطلقا جيدا لتأسيس النموذج الإرشادي الإسلامي الذي تحدثت عنه في كتابها وبينت خصائصه، حيث أن هذا العلم -أصول الفقه- يعتبر اجتهادات منهجية تمحورت حول الوحي أولا، ثم هذا العلم يحمل الخصائص النظرية والمنهجية للعقلية الإسلامية.
فهذا العلم يرتكز على المصادر المنهجية الأصولية؛ وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، "إن القرآن والسنة هما الثقلان: المصدران الأعظمان لعلم أصول الفقه"[1]، أما الإجماع فقد عرّفته وقالت عنه: "المقصود به اتفاق علماء العصر على حكم العصر على حادثة واتفاق المجتهدين"[1]، أما المصدر الرابع: الاجتهاد والقياس، ترى الكاتبة أنهما خاصيتان في غاية الأهمية أيضا، وتعتبر أن طرق الاستدلال التي يتبعها الأصوليون وعلماء الفقه خاصية وافدة قد أخذها المسلمون من حضارات وثقافات أخرى وعلى رأسها الثقافة اليونانية ذات الاعتماد الكبير على علم المنطق.
يمكن إذا أن نجمل خصائص علم أصول الفقه التي نستطيع من خلالها اجتراح النموذج الإرشادي الإسلامي في:
أولا: القرآن والسنة؛ وهما المصدران الأعظمان لعلم أصول الفقه.
ثانيا: الاستثمار في العدة المنطقية الوافدة من الثقافات غير الإسلامية، فنأخذ منها ونستفيد من مكتسباتها العلمية والمنهجية.
بالتالي، هذا النموذج الإرشادي يعبر عن حالة توافق بين العقل والنقل أو العقل والوحي، وهذا ليس موجودا في النماذج والمناهج المعرفية الغربية أو لنقل "العقل الغربي" الذي أصبح "إله" و هذا العقل الغربي نفسه قام بعد ذلك بقطع الصلة مع "إله" الكنيسة و ألغاه كليا .
هذا العقل الذي يهمش الإله ويؤله الإنسان ويعتبره مقياس كل الأشياء رافضا أي غيبيات أو ثوابت أو مطلقات، ونجد أيضا نموذجا غربيا آخرا متمركزا حول الطبيعة، فيهمش الإله والإنسان باسم مركزية الطبيعة ممثلا بذلك النموذج الغربي العلماني المادي، الذي سماه الدكتور المسيري بالعلمانية المادية، المشهودة اليوم تقريبا في أغلب أوروبا.
في المنهج الإرشادي الإسلامي المعرفي، العقل ليس في حالة قطيعة أو تصادم مع الوحي وبعيد كل البعد عن هذه المناهج التي تتعارض أسسها مع قيمنا وعقيدتنا الإسلامية.
استنادا لما سبق، فإن علم أصول الفقه يعتبر مثالا ودرسا جيدا في الجمع بين الموروث من ناحية والوافد من جانب آخر، وهذا ما نحتاج إليه في النموذج الإرشادي الإسلامي.
تقول يمنى الخولي مضيفة:
"فلماذا لا يتكرر هذا بشكل جديد فتجمع على أسسه المنهجية محصلات الإيجابيات الوافدة من التطورات المعاصرة في الميثودولوجيا العلمية، وتشغيلها في إطار نموذج إسلامي إرشادي ينبع من عالمنا ويمثل روح حضارتنا"[1].
نستنتج أن هذا العلم يساعد كثيرا في التأصيل والتأسيس للنموذج الإرشادي الإسلامي، ولكنه ليس الركيزة الوحيدة بل يجب أيضا أن يشمل علم الكلام داخل هذه العملية ويكون هناك تكاتف بين هذين العلمين ذلك أن
"أصول الدين باشتباك مع العقائد والتصورات يتصل بتصور حدود حلبة عالم العلم بأنطولوجيا العلم والابستمولوجيا، فيشتبك بفلسفة الطبيعة مقابل اشتباك أصول الفقه بفلسفة المنهج أو الميثودولوجيا"[1].
المجتمع العلمي وبداية محاولات توطين العلم في القرن التاسع
لا يمكن أبدا التعرف أو الحكم على وضعية العلم في بلد ما من خلال عدد الجامعات وخريجيها أو عدد الأبحاث والمهندسين داخلها، هذه المقاييس تعتبر ذات أهمية طبعا ولكنها لا تكوّن وحدها مجتما علميا؛ وأكبر دليل على ذلك عشرات الآلاف سنويا من المتخرجين من الجامعات في العالم العربي وعشرات الآلاف من البحوث ومشاريع التخرج وآلاف الجامعات ومراكز البحث، ورغم هذا كله لسنا مجتمعات علمية ولا يمكن أن نجد تقاليد علمية خاصة بنا لتظل تلك الأرقام مجرد وهم إحصائي لا أكثر.
إذا تحديد هل المجتمع علمي أو لا يحتاج إلى معايير مرتبطة أساسا بالعلم نفسه وحتى سياقاته التاريخية، ومن أبرز هذه المقاييس نجد مفهوم أو مصطلح الأنماط العلمية والتي يمكن تقسيمها إلى:
العلم الكلاسيكي: الذي نشأ في المدنية الإسلامية في القرن التاسع ميلادي ثم قامت أوروبا بعد ذلك بالأخذ منه وتجربته، وعندما نقول العلم الكلاسيكي نقصد عقلانية جبرية تحليلية من ناحية وتبني التجريب كنمط من أنماط البرهان من ناحية أخرى.
العلم الحديث: والذي هو أوروبي الأصل والظهور فقد ظهر ونشأ في أوروبا الغربية ولا يميز هذا العلم وحدة فروعه بل كثرتها وتعددها وتنوعها، وحتى نفهم هذا الأمر أكثر نأخذ مثالا لنيوتن أول مؤسسيه وأحد رواده وهو أول من حاول تفسير توحيد الميكانيكا والمناظر والمغنطة، ثم طور بعض العلماء هذا المشروع ووسعوه ومن أهمهم ماكسويل "Maxwell"، ودالمبرت "D'Alembert"، وغاوس "Gauss". ما ميز هذا النمط العلمي هو التعاون كبير بين العلماء في اختصاصات مختلفة، وكان أيضا بلغات متعددة منها الألمانية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، وقد أدى هذا إلى إنشاء مدارس متخصصة لتدريس العلوم ومدارس أخرى متخصصة في تطبيقها، ليمكن هذا كله من تقوية البعد التطبيقي الهادف إلى المنفعة.
العلم الصناعي: أي علم المجتمعات الصناعية المتقدمة التي تنتج وتستهلك العلم على درجة عالية ويمكن أن نطلق عليه مصطلح "تصنيع البحث" حيث أن العلم يجري في مؤسسات ومخابر معدة خصيصا لذلك.
يمكن القول أن هذه الأنماط الثلاثة العلم الكلاسيكي والعلم الحديث والعلم الصناعي تساعد كثيرا على تحديد ومعرفة هل نحن أمام مجتمع علمي أو لا؟ وهذه الأنماط تبين أيضا مرة أخرى أن العلوم مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا وهي خصائص هامة جدا، ويمكن أيضا أن نستخلص منها بعض العبر والفوائد التي نحتاج إليها في عملية توطين العلم في المجتمعات الإسلامية والعربية:
العبرة الأولى: إن الاستقراء التاريخي يبين أن العلم بأنماطه الثلاثة لم يكن ليتأسس أو يتطور دون أن تكون المؤسسات الخاصة به قد أنشئت أول الأمر ثم استحدثت مهنة العالم والعلم، والبحث العلمي صار مهنة مستقلة بذاته؛ فبناء مراكز البحث والمؤسسات التي يمارس فيها العلم، ظهرت منذ الدولة العباسية ونأخذ مثالا من تاريخنا العربي الإسلامي إنشاء بيوت الحكمة والمراصد وغيرها، فقد كان مترجم الخليفة العباسي المأمون وعلماء الفلك عنده وأعضاء بيت الحكمة ينتمون إلى مجموعات من المهنيين ولهم رواتبهم، ونجد هذا الأمر تكرر في عصر النهضة الأوربية حيث توزعت المجامع العلمية ومراكز البحث في برلين وباريس ولندن.
العبرة الثانية: المجتمعات تختلف عن بعضها البعض في قابلية استقبال وتملك العلم الحديث.
العبرة الثالثة: العلم ليس شيئا ينقل من حضارة إلى حضارة بتلك السهولة، أو فقط عندما تتم ترجمة بعض العلوم نقول أنه يمكن نشر ثقافة علمية من مجتمع إلى مجتمع، بل إن العلم يحتاج إلى أرضية وبنية تحتية كما فعلت أوروبا التي عممت التربية العلمية ونشر الثقافة التقنية بطرق عديدة.
محاولات توطين العلم في العالم العربي في القرن التاسع عشر
- تجربة محمد علي باشا في مصر
تعتبر التجربة التي قام بها محمد علي في مصر في النصف الأول من القرن الثامن عشر من أول المحاولات الجادة والجريئة في العالم العربي ولكنها للأسف ولأسباب عديدة فشلت وتعثرت. كان خيار تملك العلم في ذلك الوقت خيارا استراتيجيا للدولة المصرية العصرية، وكان مبنيا حول رؤية عسكرية واقتصادية متكاملة؛ ومن أبرز مرتكزات هذه التجربة محاولة عصرنة النظام التربوي وإضافة نظام جديد للنظام القديم الذي انقسمت فيه المدارس إلى ابتدائية وتحضيرية، إذ كانت المدارس الابتدائية نسخة مجددة لمدارس النظام التقليدي، وهذا الأمر لم يقطع مع النظام القديم والذي كان سببا من أسباب فشل النظام التعليمي.
شهد ذلك الوقت تأسيس المدارس العسكرية والبحرية والبيطرية ومدارس الطب والإدارة والمحاسبة والصناعة العسكرية والمدنية وما يطلق عليه المهندسخانة بفروع متعددة منها: المناجم والجسور والطرقات، وساعد في هذا العمل كثير من المهندسين والأطباء الأوروبيين والعسكريين.
من خصائص تجربة محمد علي أن العلوم كانت تدرس باللغة العربية ولم تفرض لغة أوربية لتدريسها، وكانت هنالك حركة كبرى للتعريب تحت إشراف مدرسة مخصصة لتكوين المترجمين، لكن حركة الترجمة ركزت على التقنيات الصناعية والعسكرية والصحية أكثر من تركيزها على العلوم نفسها، وهذا كان من نقاط الضعف والخلل الكبيرة جدا. ناهيك عن أن هذه الحركة كانت في تبعية علمية كاملة للغرب ولم تصنع تقاليدها العلمية الوطنية الخاصة بها وهو الأمر الذي لم يجعلها تستمر كثيرا ولم يطل الوضع أكثر حتى جاء الاستعمار الإنجليزي وأوقفها كليا وأجهز عليها مرة واحدة.
يقول الباحث رشدي راشد إن هذه التجربة التي قام بها محمد علي كانت ضحية على كل حال لوهمين سيعاد الوقوع فيهما مع الأسف في كثير من البلاد النامية؛ الوهم الأول توجيه الاهتمام نحو نتائج العلم دون تأمين الوسائل لإعداده وتشييد بنية قوية للبحث وبنية تحتية للثقافة العلمية والتقنية للمجتمع بكامله، أما الوهم الثاني فهو نتيجة للفكرة الأولى وهي الاقتناع بإمكانية الاستغناء عن البحث الأساسي، لأسباب مالية واقتصادية.
- تجربة المصلح خير الدين في تونس
تختلف تجربة خير الدين باشا في تونس نوعا ما عن إصلاحات محمد علي باشا في مصر، لأن رؤية خير الدين الإصلاحية كانت أشمل وأكبر من رؤية علي باشا هذا من ناحية، ثم الجغرافيا والسياقات التاريخية والدوافع لم تكن نفسها، وما قام به خير الدين من تغييرات لم تكن محاولات توطين العلم وإصلاح التعليم فقط بل كانت إصلاحات سياسية ومالية وعسكرية وحتى فكرية وشملت جوانب عديدة.
من أبرز مظاهر هذه التجربة في الجانب العلمي والتعليمي:
- إدخال تغييرات عميقة وعصرنة نظام التعليم والقيام بإعادة بنائه من أول وجديد.
إنشاء مدرسة الصادقية التي بنيت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أسست بأسلوب تتوافر فيه العلوم العربية والقانونية الحديثة، ومن ثم يتم تدريس كثير من اللغات وحتى العلوم بلغاتها الأصلية، مثل اللغة الإيطالية والتركية والفرنسية، كما تم الاستعانة بكثير من المدرسين الأجانب ودرّست الرياضيات والطبيعة وعلم الاجتماع، أي العلوم الإنسانية والتجريبية في نفس الوقت، وكانت المناهج مواكبة للمدارس الأوربية في العلوم وحتى طرق التدريس.
استطاعت هذه المدرسة أن تصنع الجيل الذي أخرج المستعمر الفرنسي من تونس وكونت روافد الحركة الدستورية وأغلب الشخصيات الوطنية وكوادر الدولة التونسية إلى يومنا هذا، حتى أن رؤساء تونس كلهم تخرجوا من الصادقية باستثناء بن علي.
- استطاع خير الدين باشا أن يدخل تغييرات كبيرة على التعليم الزيتوني بما في ذلك مجانيته، كما أبدى عناية كبيرة بتنظيم الدروس وتعديل البرامج وأدخل العديد من العلوم الجديدة على التعليم في جامع الزيتونة كالفيزياء وبعض العلوم التجريبية ولم يجعل التعليم الزيتوني مقتصرا على العلوم الدينية فقط، بل خصص أيضا جراية ومنحة لكل المدرسين داخل مسجد الزيتونة وأصبحوا موظفين لدى الدولة التونسية وصارت مهنة مستقلة بذاتها.
- استعان بالعلماء لإعادة تنظيم الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة، فأولى له عناية بالغة لتنظيم دروسه وتعديل برامجه.
- أنشأ مكتبة جديدة أطلق عليها المكتبة العبدلية، والتي أنشئت على نمط المكتبات الحديثة وقد ضم إليها المخطوطات ونظمها تنظيماً عصرياً.
- شجع الطباعة واستقدم بعض المصريين واللبنانيين للعمل فيها.
هذه أبرز ملامح تجربة خير الدين في التعليم والتي ربما نجحت نوعا ما واستطاعت أن تحدث تغييرا داخل المجتمع التونسي وتصنع حركية ونخبا إصلاحية داخل البلاد، ولكنها لم تصنع مجتمعات ذات تقاليد علمية وطنية لأن التجربة لم تستمر طويلا واقتصرت على فترة الأربع سنوات من حكم خير الدين باشا (1873_1877)، ولم تكن الظروف السياسية مناسبة لتعطي التجربة نوعا من الاستمرارية، ثم أن البنية التحتية لم تكن ملائمة للقيام بإصلاحات أكبر من تلك التي قام بها.
مساعي التوطين المعاصرة.. بين الفشل والتحديات
لم تتوقف محاولات التوطين وبقيت مستمرة بعد القرن التاسع عشر لكنها ظلت متعثرة رغم وجود الرصيد البشري ووفرة المؤسسات العلمية والجامعات، ومن بين التحديات التي عدّها رشدي راشد والحلول التي اقترحها نذكر:
- التعليم العلمي والتقني في مستوى لا يتناسب مطلقا مع تقدم المعرفة.
- قِدم نظام التعليم العلمي وعدم تكيّفه مع تطور وسائل الإنتاج.
- ضعف عدد الباحثين مقارنة بعدد المتخرجين خاصة إن قمنا بالمقارنة مع المجتمعات الغربية.
- ضعف التعاون البحثي في العلوم بين البلدان والأقطار العربية وغياب التنسيق في ما بينها.
- غياب تقاليد وطنية في البحث العلمي خاصة البحث الأساسي وهو ما يتطلب تخصيص الموارد اللازمة لدعم الثقافة العلمية العامة وتشجيعها.
- اعتبار أن للعلم قيمة ومكانة كبرى وهو عبارة على سلطة وتكمن في إتقان البحث الأساسي.
- يجب أن لا تقع مسؤولية البحث العلمي على الدولة وحدها بل على الصناعيين تحمل المسؤولية أيضا.
- الدعوة إلى نشر وخلق الوعي العلمي عن طريق وسائل وأدوات، لأنه في الأخير سيساعد على بعث وتركيز تقاليد وطنية حيث أثبت بالبرهان أن استيراد العلوم دون الاستثمار في البحث العلمي لا يعطي أي نتائج.
- التعاون مع الجامعات الغربية ومراكز البحث الأوربية استطاعت أن تخلق كوادر ولكن دون خلق تقاليد علمية وطنية.
- التعليم والبحث في تاريخ العلوم وخاصة في التراث العربي حتى يتم الاتصال الثقافي العقائدي الأيديولوجي مع الماضي.
- أولوية الجانب التطبيقي وتوجيه أوائل الطلاب إلى هذا المنحى في المناهج الجامعية.
ختاما، إن البحث عن منهجية إرشادية إسلامية منبثقة من روح التاريخ الإسلامي ومرتكزة حول مفهوم الهوية العربية الإسلامية أحد الطرق اللازم سلوكها، لأنه أثبتت التجارب والخبرات أنه لا يوجد نقل أو استيراد للعلم، وأن النماذج الغربية لا تتطابق مع بصمة هويتنا العربية الإسلامية لأن العلم له أبعاد حضارية واجتماعية وقيمية وله أنساق ينمو في داخلها ويزدهر.
إلى جانب ذلك، فالتوطين يحتاج إلى إرادة سياسية وقرار سياسي مثل ما كان في النهضة العلمية الأولى زمن الخلفاء العباسيين، وهذا الأخير بحاجة إلى تكاتف النخب الاقتصادية والعسكرية والعلمية، ومن دون هذه العوامل لن تكون هنالك مؤسسات علمية تترجم تقاليد المجتمعات العلمية، وإنما مؤسسات ظاهرها العلم وحقيقتها الوهم. ولا بد أيضا أن نتعلم من التجارب والمحاولات التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر والاستفادة من الأخطاء الحاصلة. بالإضافة إلى ذلك، صار لزاما علينا إقامة مراكز بحثية ذات الثقل المادي والعلمي على مستوى الوطن العربي والإسلامي وأخرى نخبوية لتكوين العلماء والدفع بالبحث العلمي على المستوى الإقليمي والقطري مع تشجيع المعامل الكبرى على المساهمة في البحث التطبيقي والأساسي.