تمتد الهيمنة الفرنسية على إفريقيا إلى القرن السابع عشر، حيث بدأت فرنسا احتلال مناطق القارة واستغلال سكانها المحليين منذ 1624 عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، وتأسس الإرث الاستعماري والنفوذ الفرنسي في إفريقيا منذ مؤتمر برلين سنة 1884 الذي قسم القارة الإفريقية بين نفوذ قوى دولية استعمارية، وظلت فرنسا متشبثة بالمكتسبات التي حصلت عليها عنوة بفضل احتلالها هذه الدول وبما تلا ذلك من اتفاقيات الاستقلال، ثم بالحفاظ على علاقات وطيدة مع أنظمة دكتاتورية ومواجهة كل الدول التي حاولت الخروج من دائرة السيطرة الفرنسية عن طريق انقلابات عسكرية أو اغتيالات مدبرة، فضلا عن الاستهداف المباشر لاقتصادها.
المشهد الإفريقي بدأ يتغير خصوصا مع تغير السلطة في مالي وفي دول مجاورة بشكل صب في غير مصلحة فرنسا وفتح الباب أمام امتداد نفوذ قوى أخرى أبرزها روسيا.
كما كان الموقف الفرنسي من الانقلابات التي جرت في عدة دول أفريقيا مكشوفا، فأيدت من وجدت أنه في صالحها فيما عارضت من رأت فيه غير ذلك، فظهرت مبادئها المعلنة من حرية وإخاء حين واختفت حينا آخر. دون أن تكلف نفسها عناء تطبيق المعايير التي تتحدث عنها دوما بشكل إيجابي على أفريقيا.
لكن ما لم يدركه الفرنسيون أن أفريقيا تتطور، في حين أن الذهنية الاستعمارية لدى باريس لم تتطور بالقدر نفسه، فاستمرت تنظر إلى القارة السمراء باعتبارها منجما للثروات ومصدرا للاستفادة فقط، لهذا سعى الرئيس الفرنسي ماكرون من خلال خطابه في قمة أفريقيا.. فرنسا في 06 أكتوبر 2021 بمدينة مونبلييه إلى تصحيح الأخطاء لإعادة تموضع باريس في مناطق نفوذها التقليدية، إلا أن الإستراتيجية الفرنسية تظل محدودة الأثر، فالأفول الفرنسي في أفريقيا لم يرتبط فقط بتصرفات فرنسا أو قراراتها ، وإنما وجد بعض روافده في قوى دولية بدأت تصوب أنظارها نحو القارة السمراء وتأمل أن تنال هي الأخرى بعض المكاسب، بعد أن كانت فرنسا هي اللاعب الوحيد في أفريقيا، كما أن قدرات فرنسا الاقتصادية تظل محدودة أمام العديد من الشركاء الإقليميين والدوليين مثل الإمارات وتركيا والصين والولايات المتحدة و روسيا.
كل ما سبق يدفعنا إلى طرح الإشكالية التالية: إلى أي مدى أصبحت التغيرات غير الدستورية عاملا في تآكل دور فرنسا في إفريقيا؟
-
الإدارة السياسية الفرنسية لإفريقيا
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية برزت موجة تحرر ثوري في مختلف الشعوب الإفريقية المستعمرة التي سارت تحت ألوية الجيش الفرنسي في مواجهة النازية. ولم يكن لفرنسا إلا الانحناء للعاصفة الثورية لكن النفوذ الفرنسي استمر بعد رحيل القوات العسكرية ولإدارة ما بعد الاستقلالات الشكلية، كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول حريصا خلال منتصف الأربعينات على إقامة اتحاد إفريقي-فرنسي وبعد وصوله إلى السلطة عام 1958، فكلف رجل الأعمال والسياسي الفرنسي '' جاك فوكار'' الأب المؤسس والراعي للعلاقة الاستعمارية الحديثة بين فرنسا ودول إفريقيا، ببناء شبكة مركزية قوية حملت إعلامياً اسم "فرانس- أفريك"، بحيث يبقى المسيطر الوحيد على الوضع في القارة الإفريقية.
بدأت الشبكة عملها مع تأسيس الجمهورية الخامسة في فرنسا، برز نشاطها بمنح 14 مستعمرة فرنسية إفريقية سابقة استقلالها في خلال عامين مقابل اتفاق أمني مع فرنسا، اتضح فيما بعد أنه يشمل بنوداً غير مُعلنة. تُظهر مدى جشع فرنسا في نهب ثروات القارة، فالاتفاق يلزم المستعمرات السابقة بوضع 85% من دخلها تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي مقابل للبنية التحتية التي ادَّعى الاستعمار السابق تشييدها.
أعطى الاتفاق فرنسا أيضاً الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تُكتشف في أراضي مستعمراتها السابقة، ومنح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية كما احتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان، التي أجبرها الاتفاق على التحالف مع فرنسا في حال خوضها لأي حرب.
صيغة التوجهات الفرنسية اتجاه إفريقيا عبر مايلي:
- صناعة نخب ما بعد الاستقلال: بعد النصر الذي حققته حركات النضال من اجل الاستقلال، استهدف الاستعمار الجديد النخب المحلية في المستعمرات السابقة لتصبح ممثلة لمصالح فرنسا ضد مصالح الشعوب، تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب الحاكمة في البلدان المستقلة حديثا كانت غير شفافة وأبوية وتتسم بالتحكم"مقابل الحماية العسكرية والتحصين ضد الانقلابات وبعض العمولات كالرشاوي ، تحولت معظم النخب الحاكمة إلى مجرد وكلاء
- صناعة ديمقراطيات هشة: أنشأت فرنسا نظما سياسية تسمح لها بمواصلة حكم شعوب القارة السوداء فقامت بإلغاء النظم البرلمانية في بعض الدول مثل كوت ديفوار وإقامة نظم رئاسية بدلا منها، يمسك رأس الدولة فيها بكل شيء في البلاد والفكرة من وراء ذلك أنه للسيطرة على البلد ينبغي فقط التحكم بشخص يتمتع بكل السلطات و هي في الحقيقة لم تكن أكثر من "تَمْدِين شكلي" للأنظمة العسكرية والديكتاتورية التي كانت تحكم القارة.
- تنفيذ ورعاية الانقلابات: تبقى الانقلابات العسكرية جزءا أساسيا من الأسلوب الفرنسي الأقل تكلفة في الغالب من اجل التغيير أو الحفاظ على المصالح في إفريقيا، و التي تنتهي بإقامة انتخابات رئاسية تمكن الانقلابي من حيازة الشرعية المدنية وقد شهدت القارة الإفريقية أكثر من 200 محاولة انقلابية خلال الستينات، وكانت فرنسا حاضرة في أغلبها تخطيطا ورعاية ودعما ومنها على سبيل المثال، انقلاب العقيد جان بيدل بوكاسا في جمهورية إفريقيا الوسطى وقد تحول هذا العقيد مع الزمن في نظر الإعلام الفرنسي إلى ديكتاتور وحشي يأكل لحوم البشر، ونُسجت حول وحشيته عشرات القصص المروعة، قبل أن تتدخل فرنسا مجددا وتطيح به في انقلاب عسكري نهاية الثمانينات، أما في بوركينافاسو فقد رعت فرنسا انقلاب جنديها السابق النقيب سانجو لاميزانا على الرئيس المنتخب مويس باماجو، كما رعت انقلاب النقيب ماثيو كيركو وهو كسابقه ضابط سابق في الكتيبة الفرنسية الإفريقية؛ حيث أطاح بالرئيس هوبرت ماجا، وفي مالي كانت باماكو على موعد مع انقلاب فرنسي التخطيط والوجهة، حينما أطاح العقيد موسى تراوري بالرئيس الاشتراكي موديبو كيتا وألقاه في السجن إلى حين وفاته، وفي موريتانيا كانت فرنسا حاضرة بقوة في سلسلة الانقلابات التي شهدتها البلاد سنوات 1978-1984-2005-2008، تخطيطًا ورعاية ودعمًا، وأخيرًا كان الانقلاب العسكري في غينيا كوناكري مرسوما بملامح فرنسية، بداية بتنفيذه من ضابط سابق في الجيش الفرنسي ليعيد بذلك مصالح فرنسا بعد أن هددها الرئيس المطاح به ألفا كوندي.
و إلى جانب الانقلابات العسكرية، ففقد تحولت فرنسا إلى نظام العمليات العسكرية الموسعة، و قد نفذت سبع عمليات عسكرية خلال العشر سنوات الماضية كان من أبرزها عملية برخان سنة 2014 في شمال مالي، إضافة إلى عمليات في التشاد مالي مثل سيرفال و ايبرفييه، و عملية سانغاريس في إفريقيا الوسطى و عمليات أخرى في ليبيا و كوت ديفوار، و ينتظم في هذه العمليات ألاف الجنود الفرنسيين و المعسكرات الثابتة في المجالات الإفريقية دون رقيب.
-
الانقلابات عاصفة تهدد النفوذ الفرنسي
شهدت بوركينافاسو إحدى مستعمرات فرنسا السابقة في 30 سبتمبر 2022 انقلاباً أطاح برئيس المجلس العسكري الحاكم الذي وصل إلى السلطة إثر انقلاب في 23 جانفي 2022، وكان هذا الانقلاب الذي أطاح الرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري الذي فشل في احتواء العنف الجهادي في البلاد، ليفقد الجيش البوركينابي السيطرة على نحو 40% من أراضي الدولة، و خرجت التظاهرات الشعبية قبل ساعات من الانقلاب للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من بلادهم ما أظهر أن الوجود الفرنسي لا يحظى بقبول البوركينابيين الذين تظاهر المئات منهم أمام السفارة الفرنسية في واغادوغو ، وهو تقريباً نفس ما حدث في مالي المستعمرة الفرنسية السابقة أيضاً، إذ كانت مالي قد شهدت انقلاباً في أوت 2020، أطاح خلاله العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة في 2022، لكن في شهر ماي 2021 قام الكولونيل آسيمي غويتا الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، وتم احتجازهما في قاعدة عسكرية ليمسك بمقاليد الأمور في البلاد، كما أن القائد العسكري الجديد يعتبر فرنسا القوة الاستعمارية السابقة حليفاً للرجل الذي أطاح به.
وقد شكل الرأي العام المالي المساند للانقلاب والحكومة الجديدة والرافض للوجود العسكري الفرنسي سببا لانقلاب مفاجئ في موازين القوى الداخلية في مالي لم يكن بحسبان باريس وحلفائها، ووضعها أمام تحد مباغت جعل أقل الخيارات خسارة بالنسبة لها هو الانسحاب العاجل من بلد فقدت فيه السيطرة على مفاصل الدولة بعد فقدان القدرة على حشد رأي عام موالٍ لها.
والانقلاب الفاشل في غينيا بيساو كان آخر حلقة في سلسلة الانقلابات التي تضرب منطقة إفريقيا الفرانكفونية.
كل هذه مؤشرات من الانقلابات في مالي و بوركينا فاسو ، أبرزت ملامح تحول من الحضن الفرنسي إلى الحليف الروسي، فالدعم الروسي الضمني للانقلابيين في إفريقيا يمنحهم الحماية من العقوبات الأممية، كما يوفر لهم السلاح والذخيرة بشروط ميسرة، ناهيك عن إرسال مرتزقة فاغنر لدعم أنظمتهم الهشة، ما قد يغذي طموحات العسكريين في غرب إفريقيا للاستيلاء على السلطة مثلما حدث مؤخرا في غينا بيساو.
كما إن الشعوب الأفريقية تفطنت إلى ازدواجية المعايير التي تستعملها فرنسا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها. ففرنسا التي تدين الانقلابيين في مالي وغينيا وبوركينا فاسو هي نفسها التي تبارك الانقلابَين في تشاد، وبالنسبة لهذه الطبقة العسكرية المشبعة بمشاعر القومية الرافضة للهيمنة الفرنسية، فإن حكومات بلدانها خاضعة لنفوذ باريس وتنازلت عن جزء من السيادة الوطنية لصالح المستعمر القديم.
هذا التنافس الروسي الفرنسي على النفوذ في إفريقيا، ينعكس سلبا على الصراع بين العسكريين الأفارقة الذين لهم ميول قومية اشتراكية معادية لفرنسا، والسياسيين البراغماتيين الأكثر قربا من باريس.
-
الاختراق الروسي للنفوذ الفرنسي
بدأ تعزيز روسيا لحضورها في أفريقيا منذ نحو عقد، بعد الأزمتين السورية والليبية وما مثلته من تهديد لروسيا بخسارة آخر مواطئ القدم على البحر المتوسط لصالح أعداءها التاريخيين الناتو وأوروبا، تربط روسيا بالعديد من بلدان القارة السمراء علاقات عسكرية أهمها صفقات التسليح مع الجزائر، مصر، كاميرون، تنزانيا، نيجيريا، كما ربطتها بمصر اتفاقات بناء محطات لإنتاج الطاقة النووية.
ويبرز الصراع الروسي الفرنسي في إفريقيا بقوة في ليبيا ووسط إفريقيا؛ حيث انحازت موسكو إلى خصوم باريس، كما أن دعمها القوي للانقلاب العسكري في مالي قد أضاف عامل تأزيم قوي إلى الوجود الفرنسي في الساحل.
وما من شك في أن الوجود الروسي في إفريقيا بشكل عام مرشح لمزيد من التمدد، وان قوات فاغنر ستتحول مع الزمن إلى عنصر مستقر وفعال في المشهد الأمني الإفريقي، حتى وإن أصرت فرنسا على اعتبارها عامل توتر وإثارة للنزاعات العرقية في القارة الملتهب بحسب الرؤية الفرنسية.
وبعد الإطاحة بداميبا، سيتيح ذلك لروسيا التوغل أكثر في بوركينا فاسو، على غرار ما فعلت في مالي، من خلال إرسال مدربين وعناصر من فاغنر إليها، وتزويدها بأسلحة خفيفة وثقيلة، بما فيها الطيران الحربي (المستعمل)، مقابل الاستفادة من حقوق استغلال مناجمها المعدنية، خاصة أنها خامس أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ناهيك عن الفوسفات والزنك.
وقد دفعت سياسة فرنسا لخفض عدد القوات الموجودة في منطقة الساحل اعتبارا من فيفري 2022 حكام مالي العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني، حيث كان من المرجح أن تحاول روسيا استغلال الفراغ الناجم عن خفض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، مما سيؤدي إلى تغيير بنية التحالفات مع الجماعات المسلحة وفيما بينها، هذا الوجود الذي سيعزز النفوذ الروسي في الساحل وفي إفريقيا بشكل عام، كما يربط الوجود العسكري الروسي في تشاد وليبيا بمنطقة الساحل، ويمد أيادي الروس أكثر إلى مناطق المعادن والثروات الهائلة في مالي والساحل بشكل عام في إفريقيا التي تدخلها روسيا من بوابات متعددة، أبرزها بوابتا الأمن والتجارة.
كما يبرز التنافس السياسي بين فرنسا و روسيا بقوة في مناطق التوتر، حيث تتهم فرنسا موسكو بالضلوع في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي ابوبكر كايتا سنة 2020، كما تدعم روسيا رئيس إفريقيا الوسطى فوستان توديرا في مواجهة معارضته المدعومة من فرنسا.
أما في المجال العسكري تعمل قوة فاجنر الروسية في مناطق متعددة من القارة الإفريقية، و أصبحت حليفا لعدد من الجيوش الإفريقية في مهام التدريب و التسليح، حيث وقعت اكثر من 30 اتفاقية عسكرية مع جيوش افريقية مختلفة.
كما يشكل الدور الروسي محوريا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل و إحداث توازن في علاقة فرنسا بالأنظمة في المنطقة، وتمثل دعوة الرئيس البوركينابي لروسيا من اجل الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب سعيا حثيثا لتنويع شركاء الساحل.
و تستحوذ روسيا على 40% من سوق التسليح في إفريقيا، و هو ما يزيد من التخوف الفرنسي من التمدد الروسي في مناطق نفوذ المستعمر القديم.
لا يظهر في الأفق القريب تكامل للعلاقة بين روسيا و فرنسا في إفريقيا، بالرغم من التقاء المصالح الظرفية في ليبيا على سبيل المثال، ففرنسا تنظر في حضور مجوعة فاغنر الروسية سببا أساسيا في التوتر وتشجيع النزاعات في إفريقيا.
-
إعادة التشكيل الجيوسياسي لإفريقيا
دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب أفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد 19، وتصاعد المد الإرهابي في المنطقة، عددا من الدول الأفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية والتحوُل إلى شركاء خارجيين قادرين على تزويدها باستجابات عملية لمشاكل عاجلة و ملحة.
جسد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي برزت ملامحه في مالي، من جهة أخرى حدثت تصدعات في مناطق الفرنكفونية السابقة، وكذلك في منطقة الساحل التي تعاني من الانقسامات الداخلية والاختراقات الخارجية، بالإضافة على الأوضاع الأمنية الهشة.
تتلقى فرنسا في المدة الأخيرة ضربات متتالية في القارة الأفريقية، تمثلت في تصاعد النزعة الوطنية المطالبة بالتخلص من كل ما له علاقة بباريس، حيث أصبح الفرنسيين اليوم غير قادرين على مواجهة تطورات داخلية وخارجية جديدة بالقارة السمراء أسهم في تراجع نفوذها بأفريقيا الذي يظهر خصوصا في انهيار المنظومة الأمنية الفرنسية بالساحل حيث أصبحت المنظومة الأمنية التي وضعتها فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي سنة 2013 تتداعى بسرعة كبيرة، بعد انتقال المظاهرات المناوئة لتواجد فرنسا في المنطقة إلى تشاد، وانسحاب مالي من مجموعة الساحل، وإعلان رئيس النيجر موت هذا التحالف. فقرابة 10 سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل أثبت لشعوب المنطقة فشل باريس في جلب الاستقرار وتداول السلطة بالمنطقة، بعد أن تمددت الجماعات المُسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها قبل 2013.
الخاتمة
كل ما سبق ذكره من ترنُّح للنفوذ الفرنسي في أفريقيا، فإنه يبقى مرشحا لمزيد من الإخفاقات بسبب استمرار باريس في تعاملها مع القارة السمراء بنظرة أمنية استعمارية خالية من أي بعد اقتصادي، على عكس كثير من الدول الأخرى التي رأت في التنمية والشراكة التجارية المنفذ لولوج أفريقيا المرشحة لأن تشهد في السنوات المقبلة أكبر أعلى معدلات النمو الاقتصادي عالميا.
ما ساهم في اشتداد التنافس الدولي في إفريقيا خصوصا مع دخول لاعبين جدد لا يملكون مشتركات كثيرة مع فرنسا بل يعتبرون نفوذها عقبة أمام تمددهم في إفريقيا، و تزايد الإخفاقات الأمنية لفرنسا في إفريقيا وتمدد دائرة الإرهاب الذي يستنزف الجيش الفرنسي ويهدد حلفاءها التقليديين بل يدفعهم إلى طلب العون من خارج الحضن الفرنسي.
لكن يبقى عمق الولاء الثقافي للنخب العسكرية والسياسية والمالية في إفريقيا لفرنسا عملا مفسرا لامتداد النفوذ الفرنسي في قارة إفريقيا، فلا تزال باريس لدى كثير من الأفارقة نموذجا يحتذى به حيث يمكن أن نجزم أن أغلبية النخب المجتمعية في إفريقيا الفرنكفونية متأثرة ثقافيا بفرنسا، خصوصا أن فرنسا هي جزء من خارطة الوعي والوجدان وتدبير المجتمع في إفريقيا، سواء عبر الأنظمة السياسية،النظم التعليمية،المسارات الثقافية والمؤسسات الخيرية ،الكنائس والروافد والشركات القابضة...
ما يحتم على فرنسا الالتزام بانتهاج سياسة جديدة تجاه إفريقيا، تعتمد شراكة تنسجم مع تطلعات الأفارقة و تركز على الوضع الاقتصادي وبيئة الأعمال في أفريقيا، والتدريب المهني وتمويل المنشآت، والقطاعات الأكثر حاجة للاستثمارات على غرار الزراعة والصحة والتنقل الحضري والمياه والنفايات والحصول على الطاقة والاتصالات والتكنولوجيا والبني التحتية والمجال اللوجستي، والسياحة والفندقة، والموارد والصناعات الاستخراجية.