حاورها: أسامة الشعلالي
نناقش في هذا الحوار صحبة الأستاذة "هديل الزير" المقيمة في فرانكفورت بألمانيا، وهي كاتبة سورية مختصة في الشريعة، بعض المسائل والمواضيع التى تشغل بال المسلمين في الغرب وارتباطها بشهر رمضان المعظّم. وسنحاول التطرّق لقيمة هذا الشهر الفضيل وأهمّيته عند المسلمين في الدول الأوروبية، كما سنسلط الضوء على دور الأسرة والتحديات الكبيرة التي تواجهها في تربية وتهيئة الناشئة على قيم الإسلام ومعاملاته في بيئة غير اعتياديّة، وكيف أنّ شهر رمضان فرصة جيّدة جدا لذلك، مع البحث في إمكانية استغلال هذا الشهر وحسن توظيفه على عديد المستويات الاجتماعية والتربوية والدعوية.
أستاذة هديل، رمضان شهر استثنائي بكل المقاييس سواء في دول العالم الإسلامي وغير الإسلامي، ما هي قيمة وأهمية هذا الشهر للمسلمين في الغرب، وما الذي يجعله مختلفا ومميزا بالنسبة لهم، ربما أكثر من المسلمين في الدول العربية والإسلامية؟
كما تفضلت رمضان شهر استثنائي ومهم للمسلمين، عموماً كونه فريضة وشعيرة إسلامية لها خصوصيتها، لكن المسلمين في الغرب أكثر حاجة من غيرهم للالتجاء لهذه الشعيرة الدينية في ظل غياب جو تدين عام وفقدان للروح الإسلامية الجماعية، اضافة لما يحمله العيش في هذه البيئات من تحديات جمة على الصعيد الفردي والجماعي للوجود المسلم، تحديات تودي به للغفلة والتبلد حيناً وللتفلت والتهاون أحياناً كثيرة، يأتي رمضان ليعيد حالة التوازن فيدفع بالمسلم للصحوة الإيمانية وينتزعه من عجلة الحياة المادية، ثم يهبه جرعات إنعاش تحي فيه ما مات من وجدانه وتغسل عنه ما علق في قلبه من أدران متراكمة، رمضان بالنسبة للمسلمين في الغرب فرصة لإثبات الذات المتميزة القادرة على الصبر والانتصار على رغبات النفس في مجتمع يدور حولها حد التأليه، وهو تعبير شديد الوضوح عن فكرة التقوى والتي توجه سلوك المسلم وتدفعه للامتثال لأمر ربه والالتزام بتشريعاته وقوانينه دون رقابة أو تدخل قانوني من أحد، اضافة لما يخلقه وجود هذا الشهر في البيئة الأوروبية من حالة اهتمام وفضول حول الإسلام وكنهه نتيجة التساؤل عن الحالة الروحية التي تدفع المسلمين للامتناع عن ملذات الحياة بكل سعادة ورضا وثبات.
كيف نحاول أن نستغلّ هذه الفرصة على مستوى الفرد حتى نحقق العديد من مقاصد الصيام وخاصة أنّ تماسك المجموعة يبدأ من تماسك الفرد؟
في وقت طغى فيه التسويق والتسليع لكل شيء، فإن أول ما يجب أن يفعله المسلم ليحقق مقصد الصيام هو مقاومة ما يجري من تحويل رمضان لسلعة للتجريب والتفكه والاستهلاك والاستمتاع بما لذ وطاب حتى "لا يتجرد الشهر من مغزاه الديني" على حد تعبير المفكر الألماني مراد هوفمان حين وصف سلوك كثير من المسلمين في التعامل مع الشهر الفضيل، لكن المرء ضعيف بنفسه قوي باخوانه لذلك لابد من الالتفاف حول الجماعة المسلمة التي تمارس نفس الشعائر والمظاهر هذا الالتفاف يكسب المسلم مساندة عاطفية وروحية تعينه على تذوق لذة الشهر الفضيل، وتصبح قضايا المسلمين وهمومهم وتحدياتهم سواءً في المهجر أو في البلدان المسلمة أكثر حضوراً في وعيه وكيانه وتنعكس على سلوكه.
نرى في أوروبا غياب لكثير من قيم ومفاهيم الأسرة وضعف في الروابط الأسرية، ونلاحظ انعكاساتها السلبية على النسيج الإسلامي في الغرب. كيف يمكن لرمضان أن يكون فرصة لمقاومة هذه التحديات؟ وخاصة أنت كأم ما الذي تنصحين به الامهات المغتربات في تربية أبنائهم ومحاولة التمسك بدينهم وقيمهم الحضارية، أي ما هي أحسن الطرق لذلك وما هي أهم النصائح حسب رأيك؟
تتعمق مشاكل التفكك الأسري في أوروبا بسبب عوامل كثيرة، أهمها غياب تأثير التقاليد الإجتماعية فيما يخص العلاقات الأسرية إضافة لطبيعة المجتمعات الأوروبية التي تحض الأبناء على الاستقلال وغيرها من عوامل، مع غياب هذه الثقافة المجتمعية ينتقل العبء بشكل أساسي لكاهل الأم والأب لخلق الحب والتفاهم والترابط بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذا الأمر لا يوجد فجأة في رمضان بل لابد له أن يكون منهج حياة وسلوك مستمر طيلة أيام العام ثم يأتي رمضان ليكون مؤثر فاعل بشكل تلقائي وعفوي لإصلاح الخلل الذي يعرض للعلاقات العائلية بسبب منغصات الحياة المختلفة، لكن العفوية قد لا تكفي لوحدها لذا لابد من السعي لهذا الاصلاح بما يشد الأبناء ويشعرهم بالدفء، من خلال تقديم القيم الدينية والثقافية في جو ودود هادئ عبر ممارسات الأسرة في الشهر الفضيل حتى ترتبط هذه المفاهيم الدينية بوجدان المسلم وتحفر في أعماقه وعاطفته ثم تنعكس على سلوكه مع أسرته.
ايجاد أجواء البهجة والفرح والاحتفال أمر جداً مهم في استقبال الشهر الفضيل وذلك من طريق الحديث عن هذا الضيف العزيز المقبل، وتزين البيت ببعض المظاهر الإسلامية دون مبالغة أو اسراف، وتقديم القيم الإسلامية مع هدايا تحفزية بسيطة، اضافة لمساعدة الأبناء على التدريب على فكرة الصوم بشكل تدريجي كل حسب طاقته البدنية والنفسية دون جبر أو إلزام، وقبل ذلك كله يجب أن يتعلم الطفل أننا في عبادة ثوابها مؤجل وتحتاج منا للصبر للننال رضوان الله تعالى وجنته.
كيف نجعل رمضان أكثر من محطة إيمانية وروحية ونجعله فرصة لتربية الناشئة وتكوينهم وتعليمهم اللغة القرآن والصلاة؟ هل يمكن لموائد الإفطار وشهر رمضان أن تكون حصنًا منيعا وتقويتهم ضد التحديات التي يعيشونها خارج بيوتهم أو لنقل بيئتهم غير الإسلامية.
سلوك الأهل يتحول آلياً لقناعات راسخة في أذهان الأطفال تترجم هذا القناعات في تصرفاتهم وتظهر مع تقليد الطفل لممارسات أهله، لذلك فإن أي مظهر من مظاهر الإهتمام بالشهر الفضيل وأي ممارسة للشعائر الدينية مهما كانت صغيرة فإن لها أكبر الأثر في تربية الناشئة، لكنها بالطبع يجب أن تكون أصيلة قديمة بالتربية وتختلف تمظهراتها وزخمها في رمضان، أما عن موائد رمضان فعلى أهميتها وعظيم أثرها في وعي الطفل إلا إنها لاتكفي لتكون لوحدها حصناً منيعاً للتحديات التي يواجهها الأبناء في الخارج، من المهم جداً قبل ذلك شد أزر الأبناء وتقوية ثقتهم بأنفسهم والحديث المستمر معهم عن همومهم وأشجانهم ومعالجتها بشكل دوري وفوري دون اهمال أو تراكم، ولو نظرنا بشكل واقعي فإنه ليس بالإمكان قلب سلوك الطفل وتعليمه كل شيء في رمضان أو النظر له على أنه وصفه سحرية يمكن فيه تعليمه اللغة والقرآن والصلاة وغير ذلك خصوصاً وأنه يأتي في وقت تطول فيه ساعات الصيام إضافة لالتزام الأهل والأولاد بالدوام للعمل أو الدراسة خارج المنزل وهو ما يجعل الوقت يضيق عن تحقيق كل ما تصبو إليه النفس، لذلك فإن بعض الإشارات الخفيفة اللطيفة تكفي بحيث يستطيع الطفل استيعابها باقبال دون أن نسبب له ملل وإرهاق.
كيف نستغل شهر رمضان علي تربية الناشئة المسلمة علي مفهوم الاندماج الايجابي بعيدا عن التفسخ واندثار الهوية ما الذي تنصحين المغتربين أيضًا بتجنبه، ما رأيك في مشاكل أو لنقل أزمة الهوية التي يعيشها الشباب العربي في الغرب؟ وهل يمكن أن يكون شهر رمضان فرصة لمعالجتها؟
أهم ميزة في المجتمعات الأوروبية أنها مجتمعات متنوعة ثقافياً ودينياً وعرقياً وهذه الميزة تجعلها غنية ثرية تتلاقى فيها الثقافات وتتلاقح في حالة أخذ وعطاء متبادل، ووجود رمضان في هذه البيئات لايخرج عن كونه جزء من هذا التنوع، وهو فرصة مهمة لاثبات الذات المسلمة وأنها جزء من النسيج المجتمعي الأوروبي، لا يمنع المسلم صيامه في رمضان من أن يكون فاعلاً مهماً في الوقع بل على العكس فإن الدراسات الأخيرة دلت على أثر الصيام الايجابي على الأداء الدراسي للشباب في عدد من دول أوروبا، رمضان بما يحمله من مظاهر وممارسات هو تعبير صارخ عن الهوية الإسلامية بما تحمله من خصوصية وانفتاح في نفس الوقت.
لكن الصيام في البيئة الأوروبية ليس بالأمر السهل بسبب طبيعة الحياة التي تجعل المرء مثقلاً بالضغوط وهموم العمل وملاحقة الواجبات المختلفة مما يتطلب منه مزيداً من قوة الإرادة وضبط النفس عن الانفعال والغضب، كي لا تنعكس صورة المسلم بشكل سلبي في رمضان المبارك، إضافة لذلك فإن نفس المسلم تتنازعه للتفرغ للعبادة وتركن لترك العمل فيه ولو علم أن عمله هو أيضاً جهاد وعبادة ونوى به رضا الله تعالى لأقبل عليه اقباله عليها ولكتب الله له ما لا يعلم من الأجر والمثوبة.
كيف نحاول استغلال شهر رمضان لمحاولة ترسيخ عادات جيدة للناشئة؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب؟
أهم ما يمكن أن يتعمله الطفل في شهر رمضان هو المرونة والقدرة على التغيير والتدريب على الصبر وترك ما يشتهيه حباً وطاعة لله تعالى، إضافة لفكرة تعظيم شعائر الله تعالى والاهتمام بها وأنها بمكانة عظيمة لديه. لكن المسلم في الغرب يفتقد للمظاهر المرتبطة برمضان، ترانيم الفجر، الأذان، الاجتماعات الأسرية الكبيرة، الجو العام في الشوارع والساحات وفي وجوه الناس وحركتهم التي تتصاعد قبل أذان المغرب في حركة احتفالية وتهدأ في سكون مهيب مع ضربات المدفع وصيحات الله أكبر، وغير ذلك من أمور تثير أشجانه وتطير بروحه في الشهر الفضيل، يحاول المسلم المغترب البحث عن ما يسد هذا الفراغ الكبير، وأول ما يلتفت له هو المكون الإسلامي العام والذي يمثله بالدرجة الأولى المسجد أو المراكز الإسلامية.
هذا المكون الإسلامي خارج الأسرة ينمي في وجدان المسلم الأخوة الإيمانية، ويرسخ في اعتقاده مرونة الإسلام و عالميته وقدرته على استعاب كافة الثقافات والفئات على اختلاف منابتها ومشاربها فيجد في المسجد لوحة فنية بديعة يرى خلالها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والسهل والطيب كتراب الأرض كلهم أتى طائعاً لله تعالى، تلعب المراكز الإسلامية في الغرب دوراً كبيراً في رمضان في سد هذا الفراغ من خلال إقامة الموائد الرمضانية التي تهدف بالدرجة الأولى لخلق بيئة إسلامية تلتف حولها الجالية المسلمة على الرغم من كلفتها المادية والجسدية إلا أنها مهمة جداً سواءً للفرد الأعزب الذي يجد فيها أونسه وكفايته أو للأسرة فالطفل الذي يرتاد المسجد مع عائلته ويصلي فيه ويتناول طعامه فيه تتعمق صلته به ويصبح بالنسبة له جزء من تاريخه وحاضره ومستقبله.
في الأخير، هل هناك رسالة أو نصيحة أستاذة هديل تريد التوجه بها إلي المسلمين عامة ومسلمي أوروبا خاصة؟ ونحن في هذا الشهر الفضيل المعظم أو نقطة ترين أنها هامة جدا ولم نتطرق لها في الحوار وشكرا لكم على هذا الحوار ونفع الله بكم وبعلمكم.
لعله من الجيد الإشارة إلى أنه طبيعي جداً كمسلمين مهاجرين للغرب أن نشعر بمشاعر الفقد والاغتراب والحنين للأوطان خصوصاً في شهر رمضان المبارك لكن من المهم جداً أن لا ننقل مشاعر الاغتراب هذا ومشاكله و تحدياته لأولادنا حتى لا يعيشو أزمة هوية، هذا لا يعني أن علينا أن نقطع صلتهم بأوطانهم الأصلية لكنه يعني أن علينا أن نمكنهم من التأقلم مع بيئاتهم و موطنهم الحالي والعيش فيه ومعه كجزء لا يتجزء منه وأن يمارسو شعائرهم الدينية بكل ثقة ومرونة متكيفين مع الواقع الأوروبي قادرين على ابداع الآليات التي تساعدهم على التمسك بهويتهم الدينية والأوروبية في آن معاً.
نحن نعيش في مجتمع يحترم كرامة الإنسان وحريته ودينه، أول مادة في الدستور الألماني أن كرامة الإنسان غير قابلة للمساس بها، وهذا ليس مجرد شعار بل نعيشه ونعاينه، نعم هناك تحديات وهموم وشجون وأوجاع لأسباب كثيرة، لكن لابد لنا أن نزرع في أطفالنا الثقة بالنفس والقوة وندفعهم ليتعاملو مع المجتمع من حولهم بكل حب وانسجام وتناغم دون ذوبان وانصهار مطلق.