طبعا، فإن الموقف الأخلاقي والمنطق الحقوقي يقتضيان التعاطف التام والغير مشروط مع كل من يعتقل من الفاعلين في الشأن العام. خاصة حينما تصبح استقلالية القضاء ومدى الانضباط لمبادئ دولة المؤسسات والقانون موضع لبس واستفهام، فإن كل سياسي يعتقل يتحول آليا الى مُعتقلٍ سياسي حتى تخرج البلاد من مناخات الريبة ومربّع انعدام الثقة.
ولكن هذا لا يلغي كذلك، ضرورة الحديث عن الارتدادات السياسية والتنظيمية والاستراتيجية لاعتقال رئيس البرلمان المنحلّ وزعيم الحزب السياسي الأكبر في تونس، وعضوين من المكتب السياسي/التنفيذي (محمد القوماني وبالقاسم حسن) والمسؤول السابق للعمل الطلابي لحزب حركة النهضة التونسية (محمد شنيبة). اضافة الى ما صدر بعدها بساعات عن وزير الداخلية، من تحجير للاجتماع في مقرات الحركة في كامل التراب التونسي. وفي هذا الإطار لعلّه من المفيد التوقف عند الملاحظات التالية:
أولا، اعتقال السياسيين ليس مستجدا على تونس ما بعد 25 جويلية 2021. حيث لم يخرج الصراع السياسي فيها، من دائرة الإيقافات والوقفات. بما يغذي السردية القائلة، بأن كليهما مجرّد أدوات للتعبئة النفسية والتجييش العاطفي، يستهدف بها كل طرف استبقاء أنصاره في حالة استنفار، دون الإفصاح عن أهداف سياسية واقعية وقابلة للقياس. ويصعب استشراف خروج قريب من هذه الدائرة المغلقة، في ظل غياب التنافس البرامجي وضمور المضامين المتمحورة حول سبل تصريف النفع العام، في الخطاب السياسي عموما.
ثانيا، اعتقال الشيخ راشد الغنوشي، ليس بأهم مما سبقه من ايقافات، الا في حجم انعكاساته. حيث يمكن القول، بأن موجة الإيقافات قد بلغت بذلك منتهاها على مستوى النوع، فلم يعد بالإمكان - في تونس كلها - اعتقال من يوازن الغنوشي في قيمته الاعتبارية وحجم تأثيره. ولكن ذلك يثير جملة من الأسئلة؛ هل ستتطور بعد ذلك الإيقافات على مستوى الكمّ لتستهدف هياكل الأحزاب وقواعدها بعد أن بقيت الى حد الآن مقتصرة على النخب القيادية تقريبا؟ وهل ستقابل الذروة النوعية للايقافات بذروة أخرى في الوقفات؟ أم أن ادارة الأزمة في تونس ستطعّم بجرعة من العقلنة في الخطاب والسلوك السياسيين؟
ثالثا، اعتقال الغنوشي يضع حركة النهضة أمام شغور قيادي وتحديات تنظيمية غير مسبوقة. خاصة مع ما سبقها/تزامن معها من اعتقالات طالت نائبيه (علي العريض، نور الدين البحيري) وقيادات أخرى وازنة في الصفّ الأول من ناحية. ولما تشهده الحركة منذ البداية من ترهّل تنظيمي نتيجة الاستقالات والانسحابات الصامتة التي لم تتوقف منذ سنوات في صفي القيادة المركزية والهياكل الشبابية من ناحية أخرى. ولكن وقبل كل شيء، لما شهدته عملية صناعة القرار داخل الحركة، من مركزة مكثّفة في يد زعيمها منذ مؤتمرها العاشر سنة 2016. وهنا يبقى السؤال التالي مفتوحا؛ هل سيكون العقل التنظيمي للحركة قادرا على ترميم قدراته التعبوية واستعادت النهج المؤسساتي في صناعة القرار السياسي وصياغة الخيارات الاستراتيجية للحزب، على غرار ما كان في الانكشاف الأمني الأول سنة 1981؟
رابعا، إن ما حمله 25 يوليو/تموز من استبعاد لحركة النهضة من فضاء الحكم، فضلا عن الإقامات الجبرية والاعتقالات أو الإجراءات الحدودية التي طالت عددا من قياداته، يغذي بكل تأكيد مركّبات المظلومية والدونية في عقلها الجمعي. وهذا ما يعيد الى الأذهان مقاربة الادماج والاعتدال، كواحدة من أهم ما أنتجته الأكاديميا من نظريات لفهم تطورات الإسلام السياسي. إذ قطعت حركة النهضة - فعلا - منذ انخراطها في الحكم بعد ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي، خطوات مرموقة في مسار الإصلاحات الداخلية أو ما تسميه العلوم السياسية بمسار الابتعاد عن الراديكالية (Deradicalization). وقد تمثّلت هذه النوايا الاصلاحية جليّة في مخرجات المؤتمر العاشر، تحت 3 عناوين كبرى متناسلة من فلسفة التوافق؛ التخصّص، التونسة والانفتاح. فيما بدا أشبه بالسير نحو تسوية تاريخية، تستهدف القطع مع فلسفة التنظيم الشمولي وإزالة ما يترتّب عنه من مساحات توتر بنيوية مع كل من؛ الدولة الوطنية، النخب التونسية والوسط المجتمعي العريض.
ورغم ما حققه هذا المسار التجديدي من تقدّم خلال السنوات الاولى، الا انه كبا كبوته الاولى مع تعثر سياسة التوافق مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (رحمه الله) في خريف 2018. ومن ثمة بدأ في التراجع على إثر الاستخلاصات الخاطئة لانتخابات 2019، وما ولّده وهم "ثورة الصندوق" من انتعاش لتيارات الردّة الثورية والايديولوجيّة على حسب النفس الوطني الإصلاحي داخل الحركة. كما لعب الصعود المفاجئ لمكوّن سياسي شعبوي على يمين الحركة (ائتلاف الكرامة) دورا رئيسيا في إعادة جرّها بأقدار نحو اطروحاتها القديمة، بعيدا عن تموقعها الجديد في وسط الخارطة السياسية. ومن المؤكد أن اعتقال الغنوشي بكل ما يحمله من رمزية لدى أبناء الحركة، سيساهم أكثر فأكثر في تأجيج مشاعر الغبن الجماعي لديهم، خاصة إن واصلت قيادتهم في خطاب الشحن والتعبئة النفسية. بما يجعل من الانتكاس النهائي لمسار الإصلاح والاعتدال داخل الحركة أو ما تسميه أدبياتها الرسمية ب "الانعطافة الاستراتيجية الكبرى" امكانية جدّ واردة. وتلك أكبر التحديات الاستراتيجية أمام حركة النهضة في سياق تفاعلها مع الانسداد الحالي للحياة السياسية في تونس. وقد يعود بها ذلك الى المربع الأول الذي انطلقت منه منذ قرابة الخمسين سنة، ولكن بحاضنة شعبية متآكلة - هذه المرة - وبدون وجود يذكر للشباب.
خامسا، لقد حمل اعتقال الغنوشي في ذلك التوقيت بالذات (ليلة 27 رمضان/ وفي الذكرى السنوية الأولى لتأسيس جبهة الخلاص) وبتلك الشاكلة، ومن ثمة تحجير الاجتماعات في كل مقرات حركة النهضة، رسالة شديدة اللهجة لبقية المكونات السياسية المعارضة للرئيس التونسي. إذ مثلت إعلانا صريحا عن انحسار كل ما بقي أمامهم مفتوحا من مساحات النشاط السياسي منذ 25 يوليو/تموز 2021. ومن جهة أخرى فإن الغنوشي واحد من أكثر الشخصيات الجدلية في الساحة السياسية التونسية، فقد اعتبرته العديد من الأحزاب طيلة عشرية التحول الديموقراطي عدوّها الأول، محمّلة اياه - مرارا وتكرارا - المسؤولية الرئيسية في كل ما حل بتونس من أزمات؛ سياسية، اقتصادية، اجتماعية، صحية وأمنية. وقد كان واضحا منذ البداية، أن تعاطف بقية الأحزاب المعارضة مع الغنوشي، سيضعها في احراج كبير مع هياكلها وأمام أنصارها من جهة، وسيزيد في توتير علاقتها مع السلطة من جهة أخرى. ولذلك فلم يوجد - الى حد كتابة هذه الأسطر - أي بيانات أو تصريحات مساندة للنهضة من خارج دائرة جبهة الخلاص الوطني، باستثناء بعض الشخصيات الوطنية (المنصف المرزوقي، ياسين العياري). وسيكون لهذا التردد والإعراض إن استمرّ، انعكاسات سلبية عميقة على أي جهود مستقبلية للتقريب بين مكونات المعارضة. ولكنها كذلك تكشف، عن أن نجاح حركة النهضة وزعيمها في كسر العزلة السياسية الداخلية التي وجدت فيها نفسها ليلة 26 يوليو/تموز 2021، بقي نسبيا وجدّ محدود.
سادسا، حتى التضامن الخارجي مع الغنوشي فقد ظل إلى حد الآن خافتا ومحدودا. وقد اقتصر تقريبا في مستواه الإقليمي على بعض الشخصيات والفواعل السياسية - من دون الدول - المحسوبة على التيار الإسلامي؛ على غرار جماعة الإخوان المصرية، حزب العدالة والتنمية المغربي والدكتور عبد الرزاق مقري من الجزائر. اضافة الى تعبير الرئيس التركي عن قلقه، ليكون بذلك الموقف الرسمي الوحيد في المنطقة. وأما على المستوى الدولي فقد وردت بعض التعليقات المحتشمة؛ فالاتحاد الأوروبي ينتظر المعطيات الرسمية حول أسباب الإيقاف، والخارجية الفرنسية تدرج الاعتقال ضمن موجة من الاعتقالات المقلقة، أما الخارجية البريطانية فقد كان موقفها أكثر وضوحا نوعا ما. وهذا يدل على أن ما راج على امتداد السنوات الفارطة حول ثقل الغنوشي وتشعّب علاقاته على الساحتين الدولية والإقليمية يحتاج الى كثير من التنسيب. فضلا عن أن العلاقات الدولية تخضع الى معطيات أكثر صلابة وبراغماتية من الأوزان الاعتبارية للأشخاص او علاقاتهم الشخصية.
سابعا، فإن الشرائح الأوسع من الرأي العام التونسي، تعاملت مع خبر الاعتقال إما بالترحاب، اللامبالاة، أو بشيء من التعاطف الإنساني الذي يحرص على التنصيص على تقييمه السلبي لمسيرة الغنوشي السياسية. وأما المساندة فكادت تنحصر في جزء من أنصار الحزب ودوائر جبهة الخلاص. ويمكن تفسير ذلك بما تعرض له الرجل من استهداف اعلامي على امتداد السنين الفارطة، أو يمكن رده الى تفشي مشاعر الخوف بين الناس وعوامل أخرى. ولكن مهما كانت الأسباب، فإن النتيجة الماثلة للعيان تشير الى أزمة حقيقية في علاقة الغنوشي - ومن ورائه حركة النهضة - مع الشارع التونسي.
الخاتمة
على المستوى الشخصي فصحيح ان كل ما يمكن أن يلحق بالغنوشي من إهانة أو تنكيل لن يصب إلا في رصيده المعنوي/النضالي الذي استنزفته سنوات المشاركة في السلطة. إلا أن القضية قضية وطن لا أشخاص والأمر يتعلق بمكون سياسي عريق يعيش مأزقا حرجا. إذ أن حركة النهضة وبعد عشر سنوات من المشاركة في السلطة مازالت تعاني فراغا مضمونيا اتجاه سؤال الدولة، ومن الواضح أنها مازالت حبيسة البعدين الاحتجاجي والايديولوجي في خطابها السياسي، وكأنها تحولت الى مضخة تعيد إنتاج ماضيها. وهي منغمسة إلى حد النخاع في صراع غير متكافئ، دون أن تحدد له أهدافا سياسية دقيقة وواقعية وقابلة للقياس، ودون أن يظهر له أفق مستقبلي واضح. وكأنها عادت لاعتبار النضال الميداني هدفا في حد ذاته، لا مجرد أداة من أدوات السياسة. ولم تزدها أزمة اعتقال زعيمها الا عزلة شعبية واقدارا من العزلة السياسية في الداخل والخارج. ورغم كل ما هي بصدد دفعه من تضحيات وأثمان باهظة، فإنها ترفض قبض عائدات ذلك خبرة وتجربة من خلال اعراضها عن مسار التقييم والمراجعات لعلها – على الأقل - تنقذ مستقبلها من أخطاء ماضيها. كما أنها بصدد خسارة كل ما كابدت من أجل تحقيقه من إصلاحات، فالهروب المستمر من تحمل المسؤولية والاحتماء في المقابل بالتعبئة العاطفية اللامسؤولة للأنصار، تدفع بهؤلاء الطيبين الى إعادة تشييد الدفاعات والحواجز السيكولوجية العالية بين حركتهم ودولتهم، بل وبينهم وبين مجتمعهم.
وبغض النظر عما إذا كان اعتقال الغنوشي سيطول أم لا، فما هي الآثار التي سيتركها فيه السجن هذه المرة يا ترى؟ لقد دفعته تجربته السجنية الأولى سنة 1981 الى الشروع في تحبير أهم إضافاته للمدونة الإسلامية. إذ اعتبر كتاب "الحريات العامة" - الذي بدأ في كتابته حينها - خطوة رائدة في مسار تطبيع الإسلام السياسي مع فلسفة الحداثة ومبادئ الديموقراطية. فهل ستدفعه فسحة السجن مرة أخرى في اتجاه مراجعة الذات وتصميم تصورات أكثر مرونة وبراغماتية؟ أم أنها ستنزلق به أكثر في منطق الاستعصاء؟