يتضمن هذا الموضوع جزئين:
- أولا – هل كانت معركة طوفان الأقصى ضرورية؟
- ثانيا – تقدير الموقف إلى الآن.
أولا– هل كانت معركة طوفان الأقصى ضرورية؟
هل كانت العملية البطولية “طوفان الأقصى” ضرورية وتتطلب كل التضحيات الجسيمة التي يقدمها الشعب الفلسطيني في غزة منذ وقوعها يوم 07 أكتوبر/ تشرين الأول 2023؟
لو كنا نريد للجيل الذي يسكن الأرض الفلسطينية المباركة في هذا الزمن أن يعيش مهينا تحت سيطرة الاحتلال وأن يكون مبلغ علمه تحسين ظروفه المعيشية وأن يُورّث الذل والاستكانة لجيل بعده سنقول أن هذه هذه العملية خاطئة وقد جرّت على أهل غزة الويلات وهي تنقل الويل بالتدرج إلى الضفة الغربية.
ولكن إذا كان طوفان الأقصى هو عزمة شعب أبي أراد أن يضحي بكل شيء وأن بتحمل كل المآسي والآلام من أجل تحرير بلده فذلك هو الصواب وتلك الحكمة والشجاعة والعمل الصالح الذي يكتبه الله لهم في صحائفهم ويسجله التاريخ لصالحهم.
لا تذكر الشعوب المحتلة تضحياتها الجسام بعد قهرها المحتل وإخراجه من أرضها إلا بالعزة والمجد والفخار.
فهل ندم الفيتناميون على قتلاهم في حربهم ضد فرنسا، ثم ضد أمريكا الذين بلغ تعدادهم أكثر من ثلاثة ملايين في ثمان سنوات، وجرحاهم ومفقوديهم بأضعاف ذلك؟! وهل يندم الجزائريون على المليون والنصف من الشهداء في السنوات السبع في الثورة التحريرية النوفمبرية والملايين السبع من الشهداء وأضعاف ذلك من الجرحى والمفقودين طيلة سنوات الاحتلال كلها!؟
ألم تتحول تضحيات الشعوب أثناء محاربة المحتلين إلى ذكريات مجيدة تدل على ثباتهم وعظمتهم وشموخهم. والله ما الفلسطينيون إلا من هذه الشعوب الأبية، بل هم أفضل من ذلك إذ ذكر النبي الكريم ثباتهم وخلّده في حديثه الشريف في مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.
إن الذي يفهم المآل الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية من خلال الكيد الصهيوني والغربي والخيانة العربية سيدرك بأن هذه المعركة كان لا بد منها إذ لم يبق لفلسطين وللأمة الإسلامية شيء تخسره بميزان المبادئ والمصالح الحقيقية لعموم الناس، لا بميزان المكاسب الشخصية والمصالح الذاتية.
فصفقة القرن التي فشلت سياسيا صارت تقترب إلى التجسيد الفعلي على الأرض بالأمر الواقع. ومن ذلك أن كتائب المقاومة في غزة تحولت إلى جيش دفاعي لحماية غزة وحدها، فإذا توفر الجيش والسلطة والشعب والإقليم فقد باتت غزة دولة قائمة بذاتها لا ينوي الاحتلال إعادة احتلالها أبدا وما عليه إلا أن يضيف لها جزء من سيناء ليكون ذلك هو الوطن البديل للفلسطينيين، وفي انتظار توفر شروط ذلك يبقى قطاع غزة يعاني ويلات الحصار الظالم الدائم، وحتى وإن عملت المقاومة على ضرب الصواريخ انتصارا للقدس دون تقدم بري فإنها لن تغير المعادلة إلا قليلا.
وأما الضفة الغربية فإن اتساع المستوطنات وطرد الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم قد قضى نهائيا على حلم الأنظمة العربية في التصالح الشامل مع دولة الاحتلال إذا قبلت حل الدولتين، ومع مرور الزمن وتعمق الهوان العربي سيُحيي الصهاينة مشروع الترحيل إلى الأردن لسكان الضفة من الفلسطينيين، ومن بقي منهم سيكون كثير منهم مندمجا في المشروع الصهيوني نفسيا وفكريا وربما ثقافيا لا يفكر في بلد اسمه فلسطين مطلقا، تماما كما وقع للسكان الأصليين في الأمريكيتين، وتؤكد صعوبةُ تجذر المقاومة في عموم الشعب الفلسيطيني في الضفة الغربية خطورةَ المآل إن لم يقع ما يغير ذلك.
وأما القدس فقد طمس معالمَها الإسلامية العربية مشاريعُ التهويد المستمرة، والمسجد الأقصى – عنوان معركة الطوفان – قد توصّل المحتلون إلى فرض التقسيم الزماني الذي كان يبدو مستحيلا في سنوات مضت، والسعي إلى مرحلة التقسيم المكاني جاريا وربما التوصل يوما إلى هدمه كلية لإقامة “الهيكل” المزعوم على أنقاضه ما لم يُحدث الله أمرا.
وأما الفلسطينيون في فلسطين التاريخية المحتلة سنة 1948 فهم يعيشون ضمن نظام التمييز العنصري الأكثر قسوة ووفق مخططات إفساد الأجيال الشابة فكريا وأخلاقيا وصحيا وثقافيا، وقد يأخذون هم كذلك نصيبهم يوما ما من الترحيل إلى الأردن أو غزة وسيناء ضمن مشروع صفقة القرن.
وفي العالم العربي كان التطبيع قبل طوفان الأقصى يتسع اطّرادا وتتسارع إليه الأنظمة الحاكمة الواحدة تلو الأخرى، في السر والعلن، بين خائن عميل، أو خائف ذليل، أومنصرف عن القضية الفلسطينية قد شغله الكرسي والعرش يخاف على مصيره من شعبه، وجميعهم في صراع بيني نكد يدّخرون لبعضهم البعض ميزانيات جبارة لشراء سلاح لم يشأ أبدا أن يتجه الوجهة الصحيحة ضد الكيان الصهيوني.
إن هؤلاء الحكام المتخاذلين لا يدركون بأن غفلتهم ستعيد لليمين الإسرائيلي الحاكم رغبته في إحياء مشروع أسوء من مشروع صفقة القرن، وهو مشروع إسرائيل الكبرى فيذهب جزء كبير من بلدانهم ثم نكون جميعا- لا قدر الله – أغلبية عربية مهينة تقودها أقلية يهودية عاتية.
أما التيار الإسلامي المعول عليه لتحرير الأمة وتحقيق نهضتها فقد بات معطلا لا يقدر على التغيير، إما مهشما بالاستئصال أو مجمدا سياسيا بالإدماج في منظومات الحكم الفاسدة، أو عاجزا لا يقدر على شيء ذي تأثير فعلي في الموازين في بلدانه.
حقيقة لم يكن ثمة شيء يخسره الفلسطينيون، أو تخسره الأمة في هذه الحلقة المفرغة التي توحّلت فيها، فكان طوفان الأقصى هو محرك المياه الراكدة المتعفنة، المحرر من الركود القاتل، الفاتح لعهد جديد، أي شيء مستجد فيه أفضل مما نحن عليه، بميزان مصير المشروع لا مصائرنا الشخصية، ولعل الطوفان يدفع بإذن الله إلى بداية نهضة الإسلام والمسلمين، وستبقى القضية الفلسطينية هي بوصلة الأمة نكون بخير ما كانت بخير، ونضل ونشقى ما شقت وضلت الطريق.
فلو ركزنا على القضية الفلسطينية فقط، لأدركنا بأن من خطط ونفذ لمعركة طوفان الأقصى كان يدرك أن القضية الفلسطينية في مأزق، في غزة والضفة والقدس وفي الداخل الفلسطيني، وأن هذه القضية المقدسة آيلة لما هو أسوء بتخطيط أمريكي صهيوني ودعم عربي كما بيناه أعلاه، وبتعطيل مهيكل لأي وثبة فلسطينية وطنية أوقومية أوإسلامية من قبل السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني مع الصهاينة.
وقد نجحت هذه الحسابات المباركة إلى نقلنا جميعا إلى وضع جديد نكون فيه أكثر حرية وطموح وإنجاز لصالح بلداننا ولصالح أمتنا، وإنها لخطوة ثابتة في الاتجاه الصحيح نحو تحرير فلسطين وستثبت الأيام القادمة ذلك بإذن الله.
ثانيا – تقدير الموقف إلى الآن
حينما أعلن القائد الأعلى لكتائب عز الدين القسام عن بدء عملية طوفان الأقصى يوم 07 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وجّه نداءه إلى الأمة كلها، وركز على الفلسطينيين جميعهم، في غزة والضفة الغربية والقدس وفي الأرض المحتلة سنة 48، وقصد بلدان الطوق بمصر والأردن ولبنان وسوريا، ثم المسلمين جميعا في كل بلدانهم من طنجة إلى جاكرتا.
لا أظن أن الضيف كان يعتقد بأن غزوة أكتوبر ستكون هي الحاسمة وحدها فورا في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى، لا أظن إلا أنه أدرك بأن القضية الفلسطينية تراوح مكانها، وأن الأمة الإسلامية لا تأخذ وجهتها نحو مجدها وسؤددها واستنهاضها الحضاري، وأن الأمر يتطلب نفيرا عاما في الاتجاه الصحيح نحو تحرير فلسطين وتحرير الأمة كلها، تحرير العقول والنفوس والإرادات، لينظر كل عربي ومسلم، وكل جمعية وجماعة ومنظمة وحزب ومؤسسة، وكل حكومة وكل دولة إلى الأمور على حقيقتها، بعيدا عن الأهواء والأوهام، بميزان المبادئ والمصالح الشرعية.
لا شك أن تجاوب الأمة لم يكن كما أراده قادة المقاومة، فلا الفلسطينيون في الضفة الغربية تحركوا في مجملهم لمواجهة الاحتلال وتغيير المعادلة الفلسطينية المتحكم فيها من قبل عباس وسلطته وتنسيقه الأمني، ولا تحركوا بما كان منشودا في القدس والخط الأخضر.
كما أن التحركات الشعبية في الأردن لم تتوصل إلى إجبار السلطات لإنهاء اتفاقيات وادي عربة أو الاقتراب من الحدود، ولا حدث شيء في مصر، من داخل النظام أو على المستوى الشعبي، يحرج الحكام لينهوا التطبيع الرسمي أو على الأقل يهددون بذلك، أو على أقل الواجب يفتحون معبر رفح ويتحملون مسؤولية نجدة المدنيين وإدخال المساعدات، وبقيت الساحة المصرية للأسف الشديد، من أهدأ الساحات في العالم العربي والإسلامي تجاه ما يحدث في فلسطين.
وللإنصاف يمكن أن نعتبر الدور القطري هو أهم الأدوار من الناحية الرسمية من خلال تحمل مسؤولية التغطية الإعلامية المستمرة التي تقوم بها قناة الجزيرة والتي تفضح أمام العالم كله الحقيقة الإجرامية للصهاينة وتنقل بالصور وتحليلات المختصين منجزات المقاومة، خصوصا ما يؤديه الضابط المتقاعد الشهم فايز الدويري.
وخلافا لما يقوله أصحاب الحسابات السياسية والطائفية، ما فعلته الصور التي تبثها الجزيرة – رغم ما تنشئه من ألم لا يُتحمل – ساهمت أكثر من غيرها في قلب الرأي العام العالمي لصالح فلسطين وضد الاحتلال الصهيوني، وذلك مكسب استراتيجي كبير سيُحدث فرقا كبيرا في القضية لاحقا بحول الله، علاوة على ثقة المقاومة فيها في المفاوضات القائمة من أجل تبادل الأسرى.
كما لا يستهان في ما حققته الصور الفضيعة في كشف الوضاعة الأخلاقية السحيقة للمطبعين والمتخاذلين العرب، البادين والمتخفين.
أما عن “محور المقاومة” كما يسميه أصحابه فقد ظهر بأنه محور سياسي – أكثر من أي شيء آخر – لخدمة مشاريع سياسية لإيران وحزب الله، ورغم خيبة الأمل في موقف هؤلاء – بالنسبة لمن كانت توقعاتهم عالية في دخولهم المعركة – فإن ثمة وجه إيجابي في الأمر حيث بدا جليا بأن المقاومة الفلسطينية ذات قرار فلسطيني سيادي وأنها لا تتحرك إلا في إطار المصلحة الفلسطينية ورؤية التحرير.
ومؤسف أن نقول أن الأمة لا تزال بعيدة عن مفهوم وحدة المصير، وأن أجزاءها الأقرب لبعضها البعض في مقاومة الكيان الصهيوني لا تعرف مفهوم عبارة ” أكِلت يوم أكل الثور الأبيض”.
وقد بين تفرد المقاومة الفلسطينية في الانخراط الكامل في المواجهة المسلحة ضد الصهاينة في هذه الواقعة المصيرية أن من يقود المعارك التاريخية في الأمة ضد أعدائها – وليس في المعارك البينية بين المسلمين – هي طائفة مؤمنة تمثل الأغلبية السنية في الأمة، وأن القوى الشيعية التي اعتبر بعض قادتها الكبار – الذين يتوفرون على مكانة عسكرية لا يستهان بها – بأن الكيان الصهيوني هو أهون من بيت العنكبوت قد ضيعوا فرصة التموقع في الطليعة القيادية لإنهاء وجود هذا البيت الهش حسب تعبيرهم، ولن يكون لهم ذلك في المستقبل، إذ أصبح واضحا بأنه لم يصبح يُنظر إليهم لدى غالبية المسلمين إلا في مستوى القوة الثانوية المشاركة مع جسم الأمة الكبير في معركة إنهاء الاحتلال، وهم في كل الأحوال أفضل من الحكام العرب العملاء والمتخاذلين جميعهم، من حيث مساعدتهم الفعلية للمقاومة الفلسطينية طيلة السنوات بغض النظر عن مقاصدهم.
وفي كل الأحوال – وبكل صدق – يُشكر حزب الله على ما يقوم به من إشغال لجزء من القوة الإسرائيلية في جنوب لبنان، كما يُشكر الحوثيون البعيدون عن أرض المعركة على مبادراتهم ومحاولاتهم لإيذاء الاحتلال، دون الدخول في النقاش العقيم حول النوايا الذي يفضّله بعض المنشغلين بالكلام عن العمل في زمن احتدام المعركة.
وبالنسبة للأتراك فإن خيبة الأمل فيهم كبيرة كذلك، إذ لم يستجيبوا هم بدورهم لهذه الفرصة التاريخية العظيمة لإنهاء التطبيع والانخراط في حركة التاريخ المؤدية حتما إلى إنهاء الكيان، خلافا لما يريدونه ولما يُصرّون عليه بشأن حل الدولتين رغم الوضوح البيّن القطعي بأن قادة الاحتلال المتحكمين في المؤسسات الرسمية والمجتمعية الصهيونية لا يؤمنون بذلك ويعملون بشكل منهجي على الإبادة الجماعية وتهجير الفلسطينيين وبناء المستوطنات ليأخذوا فلسطين كلها، بدعم أمريكي أوربي وتواطئ خفي من بعض العرب، بما جعل المعادلة صفرية ستنتهي إما بدولة إسرائيلية واحدة أو دولة فلسطينية واحدة، وأن الشعب الذي سيبقى على الأرض الفلسطينية هو الشعب المتمسك بها الذي ليست له إلا جنسية واحدة هي الجنسبة الفلسطينية.
لقد كنت حاضرا في صبيحة اليوم السابع من أكتوبر في مؤتمر العدالة والتنمية كضيف حينما بدأت تصل أخبار الأحداث الجارية في فلسطين، وسمعت بنفسي الموقف الباهت للسيد أردوغان، ولم يتغير خطابه إلا بعد استفحال قتل النساء والأطفال في غزة وتحرك المعارضة وبعض حلفائه.
ولا شك أن تصريحاته الحالية أقوى بكثير من تصريحات كل الحكام العرب، وأجرأ وأشجع، تنم عن عِزّة شامخة وسيادة في القرار، ولكنها إلى الآن لم تتجاوز مستوى الخطاب، وكل ما تصرح به القيادة التركية بخصوص الشحنات الكبيرة للمساعدات لا ترفع تركيا إلى مستوى ما توقعته الأمة من قادتها إذ دول كثيرة تستعد لإرسال طائرات وبواخر.
ولو أرادت الحكومة التركية أن تستدرك فعلا في هذه الأيام فلترسل، أو تسمح بأسطول حرية آخر تحميه ببوارجها العسكرية لإغاثة أهل غزة والمساهمة في كسر الحصار ، أو على الأقل تسمح للبواخر بالانطلاق من موانئها، وفي العالم ناشطون غير مسلمين كثر لهم الاستعداد للتضحية بحياتهم من أجل الحرية والإنسانية، وفي العالم الإسلامي أعداد لا حصر لها من مشاريع الشهادة الذين يتوقون أن يموتوا في سبيل الله فداء لفلسطين.
ولو حدث ذلك بأعداد كبيرة من السفن والناس ثم قام جيش الاحتلال باقتراف جريمة أخرى في حقهم لزاد ذلك في تسارع انهيار هذا الكيان المجرم.
كما أن تحركات الشعوب في البلاد العربية والإسلامية الأخرى ليست بالمستوى الذي يتناسب مع أهمية وعمق وأبعاد معركة طوفان الأقصى إلى الآن، رغم اتساعها وانتشارها في العديد من الدول.
وقد تأكد، خصوصا في العالم العربي، بأن الأنظمة قد توصلت إلى تحجيم أثر القوى الحية، ومنها التيار الإسلامي.
ومن ذلك ما نراه في دول مطبّعة كان المفروض أن تكنس فيها الشعوب سفارات العدو، أو الدول غير المطبعة التي بقي الحراك فيها محدودا، كما هو الحال في الجزائر، وفق ما أراه بنفسي، إذ أغلِقت الساحات أمام المحتجين على جرائم الكيان الصهيوني، ولم يجرأ حتى النواب المحصّنون قانونا أن يقفوا وقفة احتجاج أمام السفارة الأمريكية، وبقي الطلبة في سكون مطبق في جامعاتهم، خلافا لما كنا نقوم به خلال سنوات طويلة من قبل.
إن كل هذا الوضع المزري الذي أصفه دون مواربة لا يشير إلى فشل أهداف طوفان الأقصى، بل على العكس من ذلك يؤكد الانتصار المتعاظم، إذ لو لا الطوفان لاستمر هذا المسار الموصوف الخطر على الأمة في الاتساع.
ربما لم يحقق الطوفان على الفور ما أراده “الضيف”، وذلك مراد الله، ولكن ستُحدث موجاته المتلاحقة أثرا عظيما مع الوقت بصور أخرى غير التي تمناها أبطال المقاومة، ولن يكون العالم بعد الطوفان كما كان قبله.
إن الآثار الإيجابية العميقة التراكمية المؤكدة لمثل هذه المعارك البطولية تشهد بها مثيلاتها في ثورات الشعوب، فهي ليست عملا جنونيا غير محسوب، بل إنها عمل ثوري عاقل ومدروس، ولنا على رشده شواهد من تاريخ ثورات الشعوب ضد الاحتلال، وسعي الأمم لقومتها، وحركة التاريخ لتحرير الإنسان، ويمكن أن نضرب في ذلك مثالين، مثال من الثورة التحريرية الجزائرية ومثال من الثورة الفيتنامية.
لقد دفعت نفس الظروف التي شكلت إرادة الطوفان الفلسطيني في 07 أكتوبر 2023 قادة الثورة التحريرية الجزائرية، على رأسهم الشهيد زيغود يوسف رحمه الله، إلى القيام بعملية مشابهة في 20 أوت 1955 بعد ما لاحظوا تركيز ضربات جيش الاحتلال الفرنسي على مركز قوة الثورة في منطقة جبال الأوراس، وقلة التجاوب الشعبي في عموم الجزائر مع الاندفاعة الثورية الأولى بعد عام من اندلاعها في الأول من نوفمبر عام 1954 ، فقرروا توسيع العمليات في مناطق واسعة في قرابة مائة منطقة بين مدينة وقرية في الشمال القسطنطيني بالشرق الجزائري، استهدفوا من خلالها المنشآت والمراكز العسكرية ومزارع المعمرين وتمكنوا من السيطرة المطلقة المؤقة على العديد من المدن والقرى.
وكان رد فعل سلطات الاستعمار شن حملة قتل وتوقيف وحشية لا مثيل لها أحرقت فيها قرى بكاملها برجالها ونسائها وأطفالها ودوابها، ودكتها بالمدافع جوا وبرا لعدة أيام وذهب ضحية تلك الحملة الانتقامية قرابة 12000 جزائري أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، تماما مثلما يقع اليوم في غزة، بل ثمة أعداد كبيرة من الجزائريين دفنوا أحياء بالجرافات في قبور جماعية، ومن أراد التوسع في الاطلاع أكثر فليكتب على محركات البحث عبارة “هجمات الشمال القسنطيني”.
ولكن رغم هذه التضحيات فإن النتيجة لصالح الثورة كانت عظيمة رغم الحرج الشديد والذهول الذي أصاب عموم الجزائريين في بداية الأمر إذ أدت جرأة المجاهدين التي كسرت جدار الخوف، وجرائم الاحتلال التي رسمت القطيعة التامة مع الاحتلال، إلى انخراط كامل للشعب الجزائري في كل البلاد في صف الثورة النوفمبرية المباركة، وعلى إثر ذلك تأكدت مرجعية جبهة التحرير في قيادتها الثورية وتراجع نهج المفاوضات مع الاستعمار من أجل الحقوق، وانهارت اطروحة ” الجزائر الفرنسية” التي كان يتمسك بها المعمّرون، ودُولت القضية الجزائرية وأصبح لها أنصار في كامل المعمورة وفي داخل فرنسا ذاتها.
ومنذ ذلك اليوم تسارع العد التنازلي للاحتلال الفرنسي إلى أن اندحر ستة أعوام بعد “هجومات الشمال القسنطيني” فعُدّت هذه الهجومات عند المجاهدين الجزائريين وكثير من المؤرخين الانطلاقة الثانية للثورة التحريرية، ولذلك سمي هذا اليوم بعد الاستقلال رسميا ب”يوم المجاهد” وبقينا نحتفل به إلى اليوم.
وهكذا سيكون يوم 07 أكتوبر اسمه “يوم المقاومة” في فلسطين المستقلة بحول الله.
وفي الفيتنام شن الثوار الشماليون “الفييت كونغ” في يناير 1968 هجومات بقيادة الجنرال جياب شبيهة إلى حد بعيد بهجومات طوفان الأقصى، وتُعرف تلك الهجمات باسم “هجومات تيت”، لأنها وقعت في أيام الاحتفالات برأس السنة القمرية الفيتنامية المسماة “تيت” وكان هدفها كما بينه الثوار الفيتناميون هو كسر الجمود الذي أصاب الكفاح ضد الاحتلال الأمريكي قبلها.
كان الفيتناميون الجنوبيون وحلفاؤهم الأمريكانيون منغمسين في حفلاتهم معتقدين بأنهم في هدنة ضمنية بسبب الاحتفالات لا يقع فيها القتال، فإذا بهم يفاجؤون بهجومات مسلحة كاسحة منسقة ضدهم استهدفت مائة موقع شمل المراكز والقواعد العسكرية والبعثات الدبلوماسية الأمريكية، مثلما كان الهجوم الفلسطيني بمناسبة احتفال كبير كان يقام في غلاف غزة يسمر فيه العسكريون والمعمرون.
ومثلما قام الفلسطينيون بالتمويه وإشغال الإسرائيليين بضربات صاروخية بعيدة عن المواقع المستهدفة، قام الفييت كونغ قبل الهجومات البرية بشن قصف مدفعي ضخم على منطقة خه سانة استقطب القوات الأمريكية مما ساعدهم على الانتشار في عدة مناطق واحتلالها مؤقتا.
وقد كان رد الفعل الأمريكي عنيفا جدا، خصوصا في مدينة “هوي”، اعتمد على التفوق الجوي والمدفعي وراح ضحيته 14300 مدني وجرح 24000 وأجبر 630000 على الفرار من ديارهم.
يؤكد المؤرخون بأن الجيش الأمريكي المحتل والجيش الجنوبي الفييتنامي التابع له ألحقوا ضررا كبيرا في الثوار الشماليين كاد يشل قدراتهم، ولكن تلك المعركة كانت هي بداية نهاية الوجود الأمريكي وانتصار الثورة الفيتنامية وتوحيدها للبلاد تحت راية الاستقلال.
كان الثوار الفيتناميون يتوقعون أن تقع، على إثر معارك “تيت” ثورة شعبية ضد الأمريكان وضد الحكومة الفيتنامية الجنوبية الموالية لهم، كما اعتقد المقاومون الفلسطينيون بأن طوفان الأقصى سيؤدي إلى ثورة الفلسطينيين ضد الاحتلال الصهيوني والحكومة الفلسطينية المتعاونة معها سياسيا وأمنيا، ولكن لا “هجومات تيت” نجحت في ذلك ولا الطوفان انفجر في الضفة الغربية.
ولكن الذي وقع بسبب تلك الهجومات هو الخسارة السياسية والإعلامية الكبرى للحكومة الأمريكية والتغيّر الجذري للرأي العام الأمريكي ضد التدخل في فييتنام، وقد تجند عدد كبير من الصحفيين الأمريكيين لأجل ذلك.
كما كان من نتائج الهجومات انهيار معنويات الجنود الأمريكيين وانتشار المخدرات والتسكع وقلة الانضباط في صفوفهم، وكذلك توسع كراهية الفيتناميين في الجنوب ضد حكومتهم العميلة رغم عدم ثورتهم عليها، وانخراطهم الكلي في الشمال مع الثوار، وقد كانت من نتائج تلك الأحداث التخلي المفاجئ للرئيس جونسن عن الترشح لدورة موالية في عام 1968 ودخول الشك وسط المسؤولين الأمريكيين في عدالة وجود جيشهم في فييتنام وفي إمكانية بقائه هناك إلى أن حسم الأمر نهائيا بعد سبع سنوات من معركة “تيت” التاريخية باستقلال فيتنام.
يمكننا أن نقول بذكر مثالي “هجمات الشمال القسنطيني” عام 1955 في الجزائر، و”هجمات تيت” عام 1968 في فيتنام بأن التاريخ يعيد نفسه في طوفان الأقصى هذا العام 2023، وأن النتائج الإيجابية ستُكرر نفسًها بحول الله، رغم وجود العديد من الفروقات، من حيث الوضع الدولي والواقع المحلي الفلسطيني.