أبدأ شرح مقال تأسيس ابن خلدون للعلوم الاجتماعية بهذا المفتتح القصير الذي أعرض فيه لفكرة مقال طويل، كان الأستاذ قد شارك به منذ سنوات في ملتقى بالقاهرة، وكان حينها بعنوان: "البنية الكلية للتأسيس العلمي بين أرسطو وابن خلدون"، وهو الآن منشور في مدونته بعنوان: في تأسيس علم التاريخ والإنسان: بين أرسطو وابن خلدون "، وهو من الأهمية التي بها نستكشف لتأسيسية العلوم الاجتماعية كعلوم حقيقية، وبها أيضا نتجاوز ابتذالات كونت ودلثاي في التأسيس المجتزأ والسطحي للعلوم الاجتماعية، وأخير بها! نستعيد وهجها الذي خفت فأصبحت علوما يقذف إليها الضعفاء ويميل إليها المتكاسلون للحصول على شهادات خالية من المضمون. أقتطع له وقيتة من مشاغل الامتحانات على أن أستأنفه بعد الفراغ منها بحوله تعالى.
سعى أبو يعرب لتجاوز التوظيف المباشر لنظرية ابن خلدون عن البداوة والحضارة، التوظيف الذي اعتمده كل من اليسار العربي أيديولوجيا، ومفكّري النهضة من غير تعمّق، فقد بنى الأستاذ رؤيته للنظرية الخلدونية على فرضية أساسية مفادها أن ابن خلدون هو نظير أرسطو في تأسيس المعرفة العلمية، حيث تولى ابن خلدون تأسيس "المعرفة التاريخية" مقابل "المعرفة الطبيعية" التي كان أرسطو قد أسسها، وأقامها على أساسها، فكيف ذلك؟
تعود مركزية علاج ابن خلدون لظاهرتي البداوة والحضارة، والطبائع الإنسانية التي تنتج عنهما إلى ما يرتبط بهما من تمييز بين الطبيعي والتاريخي في الوجود، ذلك أن البداوة تحيل إلى الوضع الطبيعي للموجودات بما فيها الإنسان، أما الحضارة فهي تحيل إلى الوضع التاريخي للإنسان، بمعنى أن ظاهرة البداوة تحيل إلى القوانين الطبيعية، أي ما تسعى إليه علوم الطبيعة، أما الحضارة فهي تحيل إلى القوانين التاريخية، أي ما تحيل إليه علوم الإنسان، أو ما يسمى اليوم بالعلوم الاجتماعية والإنسانية.
فالأمر إذن متعلق بتمييز دقيق بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، حيث البداوة إشارة إلى الواقع الطبيعي والعلم به، أما الحضارة فهي الإشارة إلى الواقع الإنساني والعلم به، فإذا كان الأول قد خصص كتاب "ما بعد الطبيعة" لتأسيس العلوم الطبيعية، فإن الثاني قد خصص "المقدمة" لتأسيس علوم الإنسان؛ على أن الأخيرة تبنى على أساس الأولى، بلا قطيعة أو تجاوز، ذلك أن علوم الإنسان استمرار لعلوم الطبيعة وقوانينها التي هي موجودة في لبّ الاجتماع الإنساني والعمران البشري.
فإذا كانت البداوة والحضارة ظاهرتان متمايزتان صوريا فإنهما متداخلتان فعليا في الاجتماع البشري التاريخي، لذلك فإن أبا يعرب تجاوز الفرضية السائدة إلى فرضية جديدة كما يلي:
1- الفرضية السائدة: تقوم على منظور تداولي بين الحضارة والبداوة، من حيث اشرئباب الإنسان البدوي للانتقال إلى المدينة، أو من حيث انهيار الحضارة وتوحش أصحابها وعودتهم إلى السلوك الطبيعي.
2- الفرضية الجديدة: تقوم على منظور تفاعلي للبداوة داخل الحضارة، وللحضارة داخل البداوة في العمران، من حيث تطبّع الإنسان البدوي ببعض سمات الحضارة عند توثّبه، وتطبّع إنسان الحضارة لبعض سمات البداوة عند ترهّله.
فتصبح علوم الإنسان -الاجتماعية التاريخية- في أحد أوجهها أداة للتمييز بين الحالة الطبيعية للإنسان، حيث يغدو ككائن طبيعي محض خلو من أي دوافع وغايات متعالية، مرحلة الغريزة عند بن نبي، وبين الحالة التاريخية للإنسان، حيث يغدو ككائن تاريخي ذو تأثير جليّ على واقعه ومستقبله، مرحلة العقل عند بن نبي وما يسبقها من مرحلة الفوران الروحي الخالي من أية حسابات عقلية إلا الاشرئباب إلى تحقيق المثل والقيم العليا في التاريخ الفعلي، فتصبح ملاحظة الدالّة الحضارية أمرا ممكنا علميا من خلال واقع الاجتماع البشري بنيويا كان أو يوميا، وليس ضربا من تخمين وتنجيم قائم على خواطر انطباعية تجعل من أصحاب العلوم الاجتماعية قرّاء فناجين.