أذكت ترجمة الكتب المنطقية والفلسفية اليونانية نقاشاً حاداً بين الفقهاء، بين من يشجع على نشر الفكر الفلسفي، ومن يرفضه بداعي أنه ضرب من ضروب التزندق والتهرطق طبقاً للمقولة الشهيرة لابن تيمية: "من تفلسف فقد تمنطق ومن تمنطق تزندق"، وأن كل متفلسف إنما هو شيطان مبين يوسوس للناس للمروق والزيغ عن الدين، ولأن الفلسفة دخيلة على التراث الإسلامي، فإن الفقهاء الذين يشتغلون بعلم الفقه بحثوا فيها ونقبوا عن مناقبها ونبشوا عن مفاسدها، فرأوا فيها الجحود والفساد أكثر مما رأوا فيها الحكمة والسداد، فنصبوها عدوة للدين ومهددة للملة ومزلزلة للعقيدة ومنزاحة عن الطريق المستقيم.
فكان الحكم عليها قاسياً، والهجومات عليها ضاريةً والطعنات في أصولها غائرةً والدعوات حولها ماكرة، وانتهى ذلك إلى تحريمها أشد تحريم، وتجريمها أشد تجريم، وتكفير آخذيها، وتكسير طموح ممثليها، ونتج عن ذلك أن انتكست الفلسفة في العالم الإسلامي وتنكب المنطق بسبب الأحكام الجائرة التي صدرت إزاءها، وارتكست الحكمة بحكم التسفيه والتأثيم الذي لحق أصحابها، فهذا ابن الصلاح يرى الفلسفة رأس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال وكل من تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعلمًا وتعليمًا قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأن السلطان لا يجب أن يكون بالبرهان، بل يكفي البيان، ذلك أن البرهان يقتضي النفاذ خارج المقدسات والبحث عن الحقيقة في التأملات، وأما البيان فيحث على اتباع ما ورد في النص دون زيادة أو نقصان، فالبرهان عقل، والبيان نقل، وبين هذا وذاك برزخ لا يلتقيان.
ثم إن الانتصار للدين على الفلسفة، أو الانتصار للفلسفة على حساب الدين، أو المواءمة بينهما، هي قضية شكلت ابستيميا العصر القروسطي، خصوصا في العالم الإسلامي، حيث كان التفكير منصبا من قبل الفلاسفة والفقهاء على العلاقة بين الدين والفلسفة، و الحامل لهم على ذلك سببان: الأول هو أن الفلسفة ليس إنتاجا اسلاميا خالصا، ولا تدخل ضمن الرافد، بل ضمن الوافد، والوافد يحترس من آثاره، ويحترز من أصوله، بل إن البيئة الإسلامية قد لا تتوافق مع البيئة التي أبدعت فيها الفلسفة، وهذا بديهي لا يتنازع حوله اثنان. الثاني هو أن سمعة الفلسفة التدميرية قد لحقتها أينما حلت وارتحلت، فقد ارتبطت في نشأتها بهدم التفكير الخرافي والأسطوري هدما، و كنس المعتقدات المتخشبة كنسا، وتدمير الجاهز من الأفكار تدميرا، وسحق العامّي من الآراء سحقا.
وهذا كله على حسب الاعتبار ضار بالدين في جهة من الجهات، فإن لم تكن في الأساطير فستكون في المعتقدات، لذلك تهافت علماء الدين على فحصها وتمحيصها وتشذيبها وتقليمها، ومن ثم دحرها ومحقها وطردها.
والحقيقة أن فحصهم لها هو فحص من بعيد، كالعالم الذي يرصد ويراقب الحيوانات من بعيد بواسطة عدسة الكاميرا دون أن يترصدهم ويقترب منهم، وبين القرب والبعد مسافة عامرة بالأوهام العقلية، مغمورة بالأورام النفسية، محفورة بالأقدام الدينية، فالقرب ينم عن معرفة كاملة، والبعد يوحي بمعرفة فاشلة، ذلك أن في الحكم على الفلسفة دون الاطلاع على منجزاتها تسرع، والحكم المتسرع محكوم عليه بالتصدع، وإن ذاع صيته وتفشى بين القوم ونجح مفعوله، فإنه يؤول لا محالة إلى التضعضع.
هذا التصدع والتضعضع قد بدأ مع بزوغ نجم ابن رشد، هذا الفيلسوف الفقيه الذي اخترق معمعة النقاش من أوسع أبوابها، فهو الملم بعلوم اليونان والجامع لعلوم الفقه والقرآن، ويظهر هذا الإلمام والجمع جلياً في سياق حديثه عن حكم دراسة الفلسفة ضمن كتابه المقتدر: "فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، حيث طرح سؤالاً على جهة الشرع للحسم في حكم النظر في الفلسفة وعلوم المنطق، هل هي واجبة أو مستحبة أو مكروهة أو محرمة أو مندوبة، والحكم هنا يقتضي الإقرار بأحد هذه الأحكام الخمسة مع إرفاقها بأدلة وبراهين، هذه الأدلة يمكن أن تستمد من القرآن أو تستقى من السنة أو تستنبط بالقياس أو تمتحن من الإجماع، وتندرج هذه الأدلة في الفقه ضمن الأدلة المتفق عليها، أي يجوز الاستناد إليها، بالرغم من أن بعضها تظل محط جدل ما خلا القرآن والسنة، وإن هناك أدلة أخرى يمكن الاستناد إليها، بيد أنها لا تحوز على الاتفاق والإجماع، كالمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وعمل أهل المدينة وغيرها، وهذا هو علم الفقه كما عرفه الجرجاني: "العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية"، ويحصل ذلك عن طريق الاجتهاد والاعتماد، اجتهاد في الاستنباط، واعتماد للأدلة.
وقد تقمص ابن رشد دور الفقيه حكمًا، وتلبس بالقضاء حسمًا، وتقلد الفيلسوف حزمًا، ساعيًا إلى تحصين الفلسفة ضد الهجومات الضارية من طرف الفقهاء، وصون الحكمة من الطعنات الشرسة من قبل الجهلاء، استنادًا إلى حجتين: حجة عقلية، وحجة نصية.
أما الحجة العقلية البرهانية فتتجلى في تعريفه للفلسفة، حيث قال بأنها "النظر إلى الموجودات من جهة دلالتها على الصانع، أي بما هي مصنوعات"، ولأنها كذلك فهي فعل يمكن لكل إنسان ذو عقل وبصيرة أن يقوم به، بل والقيام بفعل التفلسف عن طريق التدبر والتأمل في الموجودات والمخلوقات كفيل بأن يحيل صاحب الفعل إلى صانعها وخالقها، فالمصنوع لا يمكن منطقيًا أن يوجد بدون صانع، والنتيجة أنه "كلما كانت المعرفة بصنعة المصنوع أتم، كانت معرفة الصانع أتم"، ويقصد بالصنعة عمل الصانع وحرفته، فإذا كان هذا العمل رديئًا قلت منزلة الصانع، وكلما كانت الصنعة أكثر إتقانًا وإجادة كلما دلت على عظمة وسمو صانعها، والحق أن الفظاعة والرداءة لا مجال لها في فسيفساء هذا الكون العظيم، وإن التأمل فيه لا يمكن أن يسوقك إلا الى الاهتداء إلى مبدعه وخالقه.
أما الحجة النصية أو الفقهية أو البيانية، فتكمن في استقاء ابن رشد للدليل من القرآن الكريم، في قوله تعالى في سورة الحشر الآية 2: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"، وهي دعوة صريحة إلى استعمال العقل، بل ووجوب استعماله، إضافة إلى حث الله عز وجل على النظر في الموجودات، انطلاقًا من قوله تعالى في سورة الأعراف، الآية 185: "أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ"، ففي النظر اهتداء إلى الحقيقة، وما الفلسفة إلا نظر وبحث عن الحقيقة، لذلك فالتفلسف سبيل لبلوغ معرفة الله تعالى بواسطة العقل والبرهان، وليس فقط بالتخندق في النص والبيان.
ومنذ الشريعة تنير طريق الضال لكي يسترشد ويهتدي، ومنذ الاسترشاد والاهتداء حقًا، فإن الشريعة حق، ولأن الحكمة والفلسفة تشاطرها الغاية، وتقود إلى الهداية والاستقامة، فإنها كذلك حق، ولا يمكن للحق أن يضاد الحق، بل يسانده ويشهد له، والمساند والشاهد لا يمكن أن يكون عدوًا وخصمًا، والأرجح أن يكون أخًا وصديقًا، والحكمة إذن هي أخت الشريعة، ولا تنفصمان ولا تنفصلان، بل تتلازمان وتتساوقان.