في المبحث الثالث من دراسته الطويلة عرّج أبو يعرب إلى فحص جدل الطبيعة والثقافة في المقدمة الخلدونية، ومفترضا أنها الجدلية الضمنية في المقدمة، التي تقابل الجدلية التي صرح بها ابن خلدون، وهي جدلية البداوة والحضارة، حيث أشار أبويعرب إلى أنه اضطر لاستنباط الجدلية الضمنية "بتحليل شديد التعقيد"، وذلك لاستكمال مبادئ تفسير العمران بمؤثرات التاريخين الطبيعي والحضاري.
والواضح أن المبدآن الضمنيان يرتبطان بالمبدأين الصريحين، حيث البداوة تتقابل مع مبدأ الطبيعة، لكون البداوة هي الحالة الأولية للعمران البشري، فهي طبيعية لكونها "غير مصنعة"، أي لم تتدخل فيها يد الإنسان، فهو في الحالة البدوية قد تلقى محيطه الخارجي كما هو ولم يتدخل فيه، ومر مباشرة للتعامل معها كما هي لتحقيق أسباب العيش بطريقة طبيعية.
إشارة: الصحراء ومشمولاتها من الموجودات الطبيعية كالجمال والرمال، وظروفها كالحرارة وقلة المياه فضلا عن قلة البشر، وهو ما يحدد طريقة عيشه، بحيث يكون الإنسان في كل شيء تابعا للظروف التي وجد فيها دون أن يقوم بتغيير طبيعة الطبيعة إلى ليصنع طبيعة جديدة كما هو الحال في المدينة، والتدرج في التبدي، أو الظعن بحسب التعبير الخلدوني، يكون وفق صعوبة العيش، إذ حسب درجة الصعوبة يكون التوحش من جهة والقرب من الفطرة الأولى من جهة أخرى حسب ابن خلدون، وحاليا يمكن اعتبار درجات التحضر المتجلية في تصنيف المدن حسب الكثافة السكانية ومدى الرفاهية المتوفرة فيها، فضلا عن حجم التأثير الاقتصادي والسياسي.
فصيغة الميتروبول اليوم وهي "المدينة الكبرى" تعتبر الحجم الأوسط بين المدن في العالم اليوم، تأتي بعد صيغة الميغابول (الميغالوبول مجموع ميتروبولات ممتلاصقة تقع على خط جغرافي واحد)، ومن دون الميتروبول نجد المدن الحضرية الصغرى، ثم المدن شبه الحضرية، ثم بعدها المناطق الريفية والبدوية، وهي المجالات التي تنمط حياة المجتمع الذي درسه ووصفه ابن خلدون ثم قسمه إلى قسمين من حيث درجة العمران، على أن درجات التصنيف هي درجات الاقتراب من الطبيعة الفطرية والتوحش أو البعد عنه، ويبقى المجال البدوي الصحراوي -على الأقل في إقليمنا- هو الدرجة الطبيعية القصوى التي يقاس إليها الوجود الطبيعي للإنسان.
والمعلوم أن علماء الإنسان والاجتماع الحديثين ابتكروا الانتروبولوجيا ووظفوها بغرض أساسي هو استكشاف "الحالة الطبيعية" للوجود الإنساني والاجتماعي، باعتبار أساسي هو أن المجتمعات الحديثة التي استحدث لدراستها علم الاجتماع، والمجتمعات الشرقية التي استحدث لدراستها الاستشراق-كنزعة أو كعلم-، قد ابتعدت أشواطا مختلفة عن الطبيعة الفطرية، لذلك استحدثت الانتروبولوجيا لدراسة المجتمعات البدائية باعتبارها الأكثر تعبيرا عن الحالة الأصلية للوجود الإنساني والاجتماعي للبشر، حسب اعتقاد أصحابه، وهو ما نجد أنه يجانب الصواب، فطريقة عيش الجماعات البدائية اليوم ليس بالضرورة هو النمط الأول الذي كانت عليه منذ سحيق الأزمنة، وأن ما غاب عنها هو فقط "الطابع الصناعي" لوجودهم الاجتماعي، أما التغير فهو ممكن ومتاح وتتحكم فيه ظروف داخلية للجماعية تنتج أما عن تغير البيئة أو صراع الإرادات.
لذلك فإن الحالة الفطرية ليست هي أشكال طبيعية فقط بقدر ما هي أيضا مضامين أخلاقية أيضا، بمعنى يمكن أن نجد الإنسان الفطري في صلب المجتمع المتحضر كما يمكن أن نجد المبتعد عنها في صلب المجتمع البدائي، على أن ابن خلدون قال بالسمة الغالبة، ولم يشر إلى ما يمكن أن يحصل من شذوذ للقاعدة، رغم صعوبة تأثير الفرد الفطري في جماعته إلى حد الاستحالة.
إلا أن الشاهد هنا هو في تدقيق مفهوم الحالة الفطرية وإحالتها خاصة بعد بعدها الشكلي، المتمثل في العمران المادي، إلى بعدها المضموني الفردي وهو البعد الخلقي، الذي يجعل الفرد يجابه حالة الانشداد الجماعي العام إلى المعطى التاريخي: طبيعيا كان أو حضاريا، ذلك أن المقاومة الخلقية المتينة والمستمرة ستفرخ مجالا يتوسع بالتدريج نحو إخضاع الشكل للمضمون، وهذا هو معنى تفضيل الإسلام للبيئة الحضرية على نظريتها البدوية، بما هو حالة توتر بين فساد الفطرة التي تمليه البيئة الحضرية والمقاومة الخلقية الواعية، ليتحقق المجتمع المثال الجامع بين الفطرة الطبيعية واللطافة الحضارية..
الحضارة تتقابل مع مبدأ الثقافة
بينما الحضارة تتقابل مع مبدأ الثقافة، لكون الحضارة هي الحالة التي غير إنسانها وبدل وجوده الطبيعي، فهي حالة ثقافية لكونها "مصنّعة" بشريا، بفعل تدخل البشر فيها، فهو في الحالة الحضارية قد غير ما وجده في الطبيعة ولم يتركه على حاله، وأصبح يمتهن بل ويتفنن في كيفيات التدخل في الطبيعة الطبيعية لإخضاعها لرغبته، رغم أن نماذج التدخل في الطبيعة وإخضاعها لرغبة البشر سيكون محكوما دائما بالأطر الطبيعية ذاتها، أو قل ميتافيزيقا طبيعية، حسب مثال الرسام المحاكي الأرسطي، وهو ما يجب استكماله بالخطة اليعربية التالية في تلخيص الجهد الخلدوني في المقدمة المؤسس للعلوم التاريخية وميتافيزيقاها، بناء على منتجات.
هنا لابد من الإشارة إلى نتيجتين تحصلان عن تدخل الإنسان في الطبيعة التي يجدها معطاة أمامه، بمعنى التدخل المادي في الموجودات والوسائل المتاحة في الحيز الجغرافي:
- أولا: ما ينتج عن ذلك من تغير ثقافي، يطبع إنسان منطقة العيش بطابع من التفكير والسلوك مستجد عن الحالة الطبيعية، على أن الاختلاف في أنماط العيش تنتجه أيضا الطبيعة بين الشعوب البدوية أو البدائية لذاتها، فليس الاختلاف الثقافي مشروطا بالتحضر، أما العمومية السببية فتتعلق بشروط التأثير والتأثر المتبادل بين البشر والطبيعة، وما عدى ذلك فلا يدرس إلا على سبيل التفريد الخاص بكل جماعة بشرية على اختلاف حجمها ومدى تحضرها.
- ثانيا: ما ينتج عن ذلك من ظهور الحياة الرمزية والتنافس على خيراتها إنتاجا واستهلاكا، ذلك أن التنافس يقتصر في الحالة الطبيعية على الجانب المادي، خاصة ضروريات الحياة، لكن بعد التحضر يصبح التنافس المادي ذا خلفية رمزية، تتدخل فيها العقائد والتوجهات، أي تصبح الحياة المادية بما فيها ضروريات العيش أداة للتنافس الرمزي، لكن يمكن أن ينقلب سلم القيم الحضارة فيصبح الرمزي خاضعا للمادي، كما هو حاصل في الحضارة الرأسمالية الراهنة التي تميزت بظاهرة "التسليع" و "التشييء" لكل شيء بما فيها إخضاع الرمزي لمنطق المادي.
العمران بشقيه الفعلي والرمزي:
العمران الفعلي والرمزي الذي ينتج عنه:
1- أثر الطبيعة في العمران:
أ- فعليا: خارجيا بالبيئة عامة، وداخليا الإنسان بدنيا ونفسيا.
ب- ورمزيا: فلسفة الطبيعة القائمة على مقولة نسبية الضرورة في قوانين الطبيعة.
2- أثر الإنسان في العمران:
أ- فعليا: من الفكر العفوي البسيط إلى الفكر القصدي المركب.
ب- ورمزيا: فلسفة التاريخ القائمة على مقولة نسبية الحرية في السلوك الإنساني.
إبعادا لشبهة الجبر والانتصار للاستبداد السياسي والكلالة الاجتماعية التي يتهم بها ابن خلدون، فإن نفي حرية الفعل الإنساني يراد به التنبيه إلى الشروط التي تخضع فعله إليها، فالإنسان لا يقدم على فعل إلا إذا كان ممكنا وحسب الخيارات التي تتوفر أمامه، ذلك أن الظروف المحيطة قد تضطر البشر للتخلي عن أفعال أرادوا بها غايات ما، كما أن الظروف المحيطة أيضا تحدد الخيارات الممكنة أمام الفعل الإنساني، فضلا عن قيم الجماعة والضمير الفردي للفاعل الذي يقيد الفعل، وهذا إبعادا للتصور الخرافي بالحرية المطلقة للفعل الإنساني -ولعل بارسونز عالم الاجتماعي الأمريكي من أفضل قام بتحديد الضرورة والحرية في الفعل الإنساني-
تماما كالتصور الخرافي الذي كان يتصور ظواهر الطبيعة تحدث بالضرورة السببية لا بالإمكان السببي، وعليه فإن الظواهر الإنسانية تحدث بذات المنطق الطبيعي أي أن تكرر الأفعال البشرية -على ما فيها من حرية ظاهرة للعيان- تقتضي أن يكون من ورائها قانونا ناظما لها وليست بالفوضى والاعتباط الذي يمكن أن تتصور بها، وأن تكرر القوانين الطبيعية -على ما فيها من جبر ظاهر للعيان- تقتضي أن يكون من ورائها إمكانا يجعل اختلالها ممكنا وليس بالحتمية والجبر الذي تتصور بها.
قراءة حركة العمران البشري والاجتماع الإنساني
إذ وبعد إضافة الجدل الضمني الثاوي في المقدمة الخلدونية تصبح قراءة حركة العمران البشري والاجتماع الإنساني تامة، وذلك من خلال الجمع بين القراءتين:
1- الفيزيقية: طبيعة وثقافة بوصفها المجال المادي المتعين. بما هي حقيقة فعلية ظاهرية يثمر اتباع أسبابها في تحقيق الاستعمار، بما هو نظر في أسباب وكيفيات حصولها.
2- الميتافيزيقية: حرية وجبرا بوصفها المجال الرمزي غير المتعين. بما هي اعتبار إنساني غير معلن للحقيقة يثمر في تحقيق الاستخلاف، بما هو نظر في دوافع وغايات الفعل البشري.
بينما المركز الذي فيه تلتقي القراءتان الفعلية والرمزية جيئة وذهابا هو المدينة، بما هي المجال الفعلي للجماعة الإنسانية، وهو المجال الذي يتجسد فعليا في كل من:
1- السياسة
2- الثقافة بما هما صورتا العمران
3- التربية
4- الاقتصاد بما هما مادته.
حيث التأثير المتبادل بين عناصر العمران الأربعة: الطبيعة والحضارة الفعليان، والطبيعة والحضارة الرمزيان، والتي ينتج عنها:
1- عناصر العمران الطبيعية:
أ- الفعلية: كيميائية وبيولوجية بما هي ثروات مادية حاصلة
ب- الرمزية: نظرية التكنولوجيا بما هي استثمار الرياضيات في المجال الطبيعي.
2- عناصر العمران الحضارية:
أ- الفعلية: نفسية وخلقية بما هي فواعل رمزية معطاة
ب- الرمزية: نظرية الأيديولوجيا بما هي استثمار للسيمياء في المجال الإنساني.
ثم يختم أبو يعرب التفصيل المتقدم القائم على فهم مركب لمسألة العمران البشري، بذروة الاستنباطات: الفكرة التي حكمت الاجتهاد الخلدوني على طول المقدمة، وهي أن شروط العمران المتقدمة تأثيرا وتأثرا، طبيعة وحضارة، فعليا ورمزيا، فيزيقيا وميتافيزيقا، هو ذاته الشرط الأصل في ثورة ابن خلدون المعرفية وهي "التطابق التام" بين موضوع فلسفة الدين وموضوع فلسفة التاريخ.333