إن من رتب الدين الرفيعة ومقاماته العالية وقيمه السامية، قيمة الصبر والمصابرة في سبيل الله تعالى، فالصبر يرتبط بالإيمان ارتباطاً محورياً وجوهرياً، فقد روي عن علي رضي الله عنه قوله: "الصبر من الإيمان بمنزلة الجسد من الرأس، ولا إيمان لمن لا صبر له"، وتكرر ذكر الصبر في القرآن الكريم في مواضع كثيرة جداً، وذلك للدلالة على أهمية هذا الخلق الإيماني والسلوك الإسلامي، كانت معظمها في سياق الحض على الصبر والأمر به، وبعضها في سياق ثناء الله تعالى على الصابرين وما أعده لهم من الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 – 157].
وهذا الصبر الذي طالب الله تعالى به عباده على ثلاثة أنواع، صبرٌ على طاعة الله والالتزام بأوامره والمداومة على عبادته كما أمر، وصبرٌ على اجتناب المعاصي والإقلاع عن الذنوب ومقاومة رغبات النفس الأمارة بالسوء، وصبرٌ على أقدار الله تعالى المؤلمة من المصائب والمحن الدنيوية، والأذى الذي يتعرض له المؤمنون من الكافرين والمنافقين وأعداء الدين. ولذلك جاء الأمر بالصبر والمصابرة على جميع ما ذكر بصيغة عامة في عدة آيات من كتاب الله تعالى، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، وأمر الله تعالى بالاستعانة بالصبر، فقال سبحانه: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[البقرة: 45]، وقال عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].
إن أداء عبادة الصبر على أكمل وجه صعبٌ وشاق على النفس البشرية، فالصبر يتطلب الإيمان الصادق واليقين بالله عز وجل، وقبل ذلك كله الاستعانة بالله تعالى على الصبر، فلا صبر لمن لم يصبره الله !
ولأن الصبر يتطلب من العبد صدق الإيمان ومجاهدة النفس، فكان للصبر الأجر العظيم الذي وعد الله به عباده الصابرين في الدنيا والآخرة، وما ذكر في باب أجر الصابرين وثواب الصبر كثير جداً في القرآن الكريم والسنة النبوية، فالصبر طريق لنيل رضا الله عز وجل ومعيته، وكسب الحسنات وتكفير الخطايا والسيئات، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]. والصبر على البلاء خيرٌ للعبد من التذمر والشكوى والسخط، فهو إن صبر كان البلاء له خير في دنياه وآخرته، قال تعالى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل: 126]، وقال صلى الله عليه وسلم: " عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ " (مسلم: 2999)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة: " ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ " (الترمذي: 2399).
على العبد المسلم أن يعلم أن الصبر هو خير عطاء يمكنه أن يحوزه في حياته ويستعين به على نوائب الدهر.
فقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: " أنَّ ناسًا مِنَ الأنصارِ سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، حتَّى إذا نَفِدَ ما عِندَه قال: ما يكونُ عِندي مِن خيرٍ، فلَنْ أدَّخِرَه عنكم، ومَن يستعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ، ومَن يَصبِرْ يُصبِّرْه اللهُ، وما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسَعُ مِنَ الصَّبرِ " (النسائي: 2587).
إن فضيلة الصبر تحيط المسلم بمنافعها في دنياه وآخرته، فبالصبر يخف المصاب ويهون الخطب، بينما يشتد بالجزع الكرب، ويعظم الهمّ والغم بالسخط والتذمر. وبالصبر يعظم الأجر والثواب، بينما يحبط الأجر بالجزع وربما يحل العقاب. ويجب على المسلم أن يوقن بالفرج بعد الكرب ويحسن الظن بالله تعالى، فيصبر ويتصبر، فهو بقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:٥-٦]. فالصبر ضرورة ملحة في حياة المسلم في كل عمل من أعماله، فلا طاقة للعبد على المداومة على طاعة الله تعالى واجتناب نواهيه وتحمل الآلام والصعاب إلا بهذه الخصلة العظيمة، ولنا في أيامنا هذه في إخواننا أهل غزة خير مثلٍ ونموذج واقعي يتجلى فيه الصبر بأعظم معانيه وأسمى صوره. فنسأل الله تعالى أن يعينهم ويصبرهم ويفرج كربهم وينصرهم على عدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.