ما زال الموسم العظيم مفتوحاً بهذا الطوفان، فليس أمامك إزاءه إلا أن تغزو، أو تَخْلُف غازياً، أو تجهّزه، أو تحدِّثَ نفسَك بغزو، وأحسب أن سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه من كثرة بعوثه وسراياه لم يكَدْ يَبيت في المدينة إلا على تدبير سريّة أو غزوة، ولا يستيقظ إلا على التخطيط لمعركة.
وحديث النفس بالغزو يعني أن تلحّ عليها وتقنعها بقصد المشاركة بالقتال بنفسك أو مالك أو محل قدرتك وخبرتك، وتعظيم أدوارك.
وحديثك مع نفسك لا يعني أن تأتيك الخاطرة ثم تدفنها بسلوك لا ينتمي إليها، بل يعني أن تستعد للمستقبل وتخبر نفسك بجدّيّة أنك تحب القتال والمقاتلين، وتتشوّق إلى مشاركتهم والانخراط في صفوفهم، وتدافع عنهم وتذبّ عن أعراضهم.
وحديثك لنفسك يعني أنّه يتعين عليها اعتقاد وجوب الغزو، وأنّك جاهز للدخول فيه إذا انفتحت أسبابه ببحثك الدائم عن مداخله، وهذا كله استعداد نفسيّ وتوطين روحيّ.
وهذا الحديث يتضمّن النية على فعل ذلك، وظهور علامات هذه النية بإعداد الآلات، يقول تعالى: ( ولو أرادوا الخروجَ لأعدّوا له عُدّة)؛ ومن شؤم المرء ونَحسِه أن يتوفّاه الله وهو محروم من هذه النية، وينتظره حساب عسير عند ربّه.
ولا يظهر صدق المرء وبراءته من النفاق إلا بتجريد نفسه للحرب على العدو سرّاً وجهراً، وإذا لم يقاتل ولم يحدّث نفسه بقتال فإن شعبة النفاق عنده ستنفتح على واديه، وسينغمس في لجّة النفاق، ففي الحديث الصحيح : "من مات ولم يغزُ، ولم يحدّث نفسَه بغزو، مات على شعبة من النفاق".
ومن شعائر النفاق تجنّب الحديث للنفس في قضية وجوب الغزو والخلافة فيه وجمعِ الناس على استدامة الشحن به؛ وإذا لم يكن المرء غازياً ولا قائماً مقام الغازي فلينتظر قارعةً داهية تحلّ عليه فجأة وتهلكه، وتهلك من اشترك معه في عظيم جرمه، وفي الحديث الحسن: " من لم يغزُ، ولم يجهِّز غازياً، أو يخلُف غازياً، في أهلِه بخيرٍ أصابَهُ اللَّهُ بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامة".
فإذا كان مَن لم يحدّث نفسه بغزو على شُعبة من النفاق، فإن تاركه منافق، وأما الداعي إلى تركه والمعادِي لأهله بلسانه وإعلامه وسِنانه فإنه في درك مُستفِلٍ عميق من هذا النفاق، فبرِّؤوا أنفسَكم بحديث النفس هذا، ولا تنكثوا الميثاق، فالموسم العظيم ما زال قائماً !