كلّ مذكورٍ بعلمٍ تخصص فيه، وذُكر بتمكّنه واختصاصه بين أهله المعروفين به فإنه أهلٌ للنظر والفتوى في الأمر الذي تكاملت له المعطيات فيه، وتوفّرت لديه المعلومات عنه، وحضرت بين يديه الاجتهادات.
ولا ينبني نظر ولا رأي إلا بالاستناد إلى معطيات راجحة موثّقة من مصادرها المباشرة، وأمّا بذلُ الأحكام واستسهال إطلاقها استناداً إلى هوى متمكّن أو معلومات تذيعها دكاكين الإعلام أو خلاف قديم ما زال يؤثّر فيه فإن ذلك جهل يفضي إلى خيانة.
وأهلُ الذكر إنما ينظرون إلى الأحداث بعين الدليل، وإشارة الوحي، واتجاه النصّ، وفهم السياق ومطابقته على الواقع، ولا يتبعون هواهم الغالب ولا هواهم المغلوب، ولا يقعون في حفرة الظرف الشديد الذي يتمّكن من نفوسهم إذا ضاق الوسع، وقلّت الحيلة، وانضغط الحال.
وأهل الذكر ينظرون إلى الأمر بين أيديهم من كل جانب سواء كان مضيئاً أو مظلماً، ولا ينطلقون من زاوية واحدة في تنظيرهم، ولا يغلبون المفاسد على المصالح ولا المصالح على المفاسد إلا باجتهاد جماعيّ يحرّر الآراء ويرمم نواقصها.
وأهل الذكر يدركون أن أمر هذا الطوفان مختلف تماماً عن كل ما بحثوه من قبل، وأنّه نازلة شديدة قدَحت كل شرارات الوعي والفهم والإدراك، كما شحنت المشاعر والعواطف إلى الذُّرَى في كل اتجاه، وركّبت مسارات مستقبليّة غير متوقّعة، وغيّرت بيئة القضية وملابساتها إلى حدّ كبير، وهي كما فَرضت الكثير من التحديات فإنها منحت الكثير من الفرص، ولا ينبغي للاجتهاد الفقهيّ أن يتخلّف عن إدراك هذه التحولات الكبرى ويدخلها في مجال الاعتبار أثناء النظر.
ولا ينحبس أهل الذكر في دائرة الأحكام المسبقة التي اعتادوها أو قلّدوها ودرّسوها لتلاميذهم، ولا يقعون في خطيئة المرايا عندما يقررون أحكامهم متأثرين بخصومتهم مع من قاد هذا الطوفان أو كرهوه من تدابيرهم وسياستهم.
وأهل الذكر يراعون خصوصية الزمان وظرف الحال في تقدير الأحكام وتحديد أوزانها، ولا يكونون سبباً في تعقيد الحال، ولا يدعون إلى انفلاته، و لا يكونون فأساً يضرب ما تبقى من حصونه .
وأهل الذكر في أزمنة الشدّة وقوّة البأس وتحزّب الأعداء لا يجادلون في علم لا يُنتفع به، أو رأيٍ لا ينبني عليه عملٌ، ولا يفتحون مقالةً تصرف الناسَ عن أولوياتهم، وتردّهم عن واجباتهم، فكيف إذا كان ما صدَر عنهم يسرّب الريبة إلى أفئدة العامّة، ويزرع التهمة في أهل الولاية عليهم، ويحرّض الناسَ على الخروج عليهم وهم في ميدان الاشتباك واستعار المعركة، بل يدفع بالشك في نفوس المقاتلين فيظنّون السوء في جدوى معركتهم وعظيم جزائهم عند ربهم فيها؛ فضلاً عمّا ينتج عن ذلك من فضّ حشود المقبلين على الانخراط فيهم أو احتضانهم وكفاية أمرهم وسد الثغرات المفتوحة عليهم.
وحتى لو كان لكلامكم وجه من وجوه النظر والاعتبار فإنه بيان في غير ميقاته ولا في زمان الحاجة إليه، ولا يفيد في تقديم الأمر ولا تأخيره ولا في وقفه ولا ديمومته، وليس له نظر محترم في اعتبار الحرب وأدوار الأطراف المتصارعة فيه، فثمّة مقدمات تتأسّس كل يوم، واعتبارات تتجدد مع كل حدث، ومحطات تقوم في غير سِكّة، وما تظنونه صدراً اليوم يصبح ظَهراً غداً، وما يكون وجهاً عندكم يكون قدماً عندهم في التقدير، فاتقوا الله، ولا تَفْتنوا الميدان!