لما قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر وعزم على ذلك، أخذ يرتب ويعد لهجرته، وقد حرص صلى الله عليه وسلم على الأخذ بجميع الأسباب المتاحة والاحتياطات الأمنية حتى تتكلل هجرته بالنجاح في الوصول إلى المدينة المنورة في أمنٍ وسريةٍ تامة.
فعن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكرٍ أحد طرفي النَّهار، إمَّا بُكرةً وإمَّا عشيَّةً، حتَّى إذا كان اليوم الَّذي أُذِن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكَّة من بين ظهري قومه؛ أتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعةٍ كان لا يأتي فيها، قالت: فلـمَّا رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السَّاعة إلا لأمرٍ حَدَث.
قالت: فلـمَّا دخل؛ تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا، وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أخْرِجْ عنِّي مَنْ عندك»؛ فقال: يا رسول الله! إنَّما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمِّي! فقال: «إنَّه قد أُذن لي في الخروج والهجرة». قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصُّحبة يا رسول الله! قال: «الصُّحبة». قالت: فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحداً يبكي من الفرح، حتَّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، ثمَّ قال: يا نبيَّ الله! إنَّ هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأْجَرَا عبدالله بن أريقط - وكان مشركاً - يدلُّهما على الطَّريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما (ابن كثير، 1398ه، ص 2/233 -234).
وروى البخاريُّ عن عائشة رضي الله عنها في حديثٍ طويل، وفيه: «... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر، في نحر الظَّهيرة؛ قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنِّعاً؛ في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمِّي! والله ما جاء به في هذه السَّاعة إلا أمرٌ! قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ رضي الله عنه: «أخْرِجْ من عندك»، فقال أبو بكر: إنَّما هم أهلك. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصُّحبةَ بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، قال أبو بكر رضي الله عنه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بالثَّمن»، قالت عائشة رضي الله عنها: فجهَّزناهما أحثَّ الجهاز، وصنعنا لهم سُفرةً في جِرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمِّيت ذات النطاقين، ثمَّ لحق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكرٍ رضي الله عنهما، وهو غلامٌ شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فيُدلجُ من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريشٍ بمكَّة كبائتٍ، فلا يسمع أمراً يُكتادانِ به إلا وَعَاهُ، حتَّى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظَّلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه منحةً من غَنَم، فيريحها عليهما حين تذهبُ ساعةٌ من العِشاء، فيبيتان في رسْلِهما - وهو لَبَنُ مِنْحتِهِما ورَضِيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بَغَلسٍ يفعل ذلك في كلِّ ليلةٍ من تلك اللَّيالي الثَّلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رجلاً من بني الدَّيْل، وهو من بني عبد بن عديِّ - هادياً خِرِّيتاً - والخرِّيت: الماهر بالهداية، قدغمس حلفاً في آل العاص بن وائل السَّهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِناهُ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدَّليل، فأخذ بهم طريق السَّواحل»[البخاري (3905)، وأحمد (6/198 - 199)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/473 - 475)، وعبد الرزاق في المصنف (5/388)، والطبري في تاريخه (2/375 - 378)].
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج إلا عليُّ بن أبي طالبٍ، وأبو بكر الصِّدِّيق، وآل أبي بكرٍ.أمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف؛ حتَّى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع؛ الَّتي كانت عنده للنَّاس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكَّة أحدٌ عنده شيءٌ يُخشى عليه إلا وضعه عنده؛ لما يعلم من صدقه وأمانته (ابن كثير، 1398ه، ص 2/234)، وكان الميعاد بين الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ رضي الله عنه، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظَهْرِ بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء؛ حتَّى لا تتبعهما قريشٌ وتمنعهما من تلك الرِّحلة المباركة، وقد اتَّعَدا مع اللَّيل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثوربعد ثلاث ليالٍ (جزولي، 1996، ص 334).
هكذا كان الإعداد النبوي للهجرة، وإنَّ مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدِّماتها إلى ما جرى بعدها؛ يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التَّخطيط جزءٌ من السُّنَّة النَّبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلهيِّ في كل ما طولب به المسلم، وأنَّ الَّذين يميلون إلى العفوية بحجة أنَّ التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة؛ أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين (البر، 1997، ص 199-200).
فعندما حان وقت الهجرة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشرع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في التَّنفيذ، نلاحظ وجود التَّنظيم الدَّقيق للهجرة حتَّى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعابٍ وعقباتٍ، وذلك أنَّ كلَّ أمرٍ من أمور الهجرة، كان مدروساً دراسةً وافيةً؛ فمثلاً: جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدَّة الحرِّ - الوقت الذي لا يخرج فيه أحدٌ -؛ وذلك حتَّى لا يراه أحد، فمن عادته أن لا يأتي في ذلك الوقت.
كما أخفى صلى الله عليه وسلم شخصيته في أثناء مجيئه للصِّدِّيق، وجاء إلى بيت الصِّدِّيق متلثماً؛ لأنَّ التلثُّم يقلِّل من إمكانية التعرُّف على معالم الوجه المتلثم. وقد أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخْرِج مَن عنده، ولما تكلَّم لم يبيِّن إلا الأمر بالهجرة، دون تحديد الاتجاه. وكان الخروج ليلاً، ومن بابٍ خلفيٍّ في بيت أبي بكرٍ.
وقد بلغ الاحتياط مداه، باتِّخاذ طرقٍ غير مألوفةٍ للقوم، والاستعانة في ذلك بخبيرٍ يعرف مسالك البادية، ومسارب الصَّحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، ما دام على خُلُقٍ ورزانةٍ، وفيه دليلٌ على أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها (الصلابي، 2021، ص 371-400).
وقد أحسن النبي صلى الله عليه وسلم انتقاء الشخصيات العاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، كعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وعبدالله بن أريقط، ويلاحظ أنَّ هذه الشَّخصيات كلَّها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، ممَّا يجعل من هؤلاء الأفراد وحدةً متعاونةً على تحقيق الهدف الكبير. وقد وضع كلِّ فردٍ من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب الذي يجيد القيام به على أحسن وجهٍ؛ ليكون أقدر على أدائه والنُّهوض بتبعاته.
فإن فكرة نوم عليِّ بن أبي طالب مكان الرَّسول صلى الله عليه وسلم فكرةٌ ناجحةٌ، قد ضلَّلت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، حتَّى خرج في جنح اللَّيل، تحرسه عناية الله، وهم نائمون، ولقد ظلَّت أبصارهم معلَّقةً بعد اليقظة، بمضجع الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فما كانوا يشكُّون في أنَّه ما يزال نائماً، مُسجّىً في بردته، في حين أنَّ النَّائم هو عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه (سبع، 1973، ص 393 - 397).
فهذا تدبيرٌ للأمور على نحوٍ رائعٍ دقيقٍ، واحتياطٌ للظُّروف بأسلوبٍ حكيمٍ، وَوَضْعٌ لكلِّ شخصٍ من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدٌّ لجميع الثَّغرات، وتغطيةٌ بديعةٌ لكلِّ مَطالب الرِّحلة، واقتصارٌ على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادةٍ، ولا إسرافٍ.
لقد أخذ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة، أخذاً قوياً حسب استطاعته، وقدرته؛ ومن ثمَّ باتت عنايةُ الله متوقَّعةً.وإنه صلى الله عليه وسلم مع أخذه بكلَّ الأسباب، واتَّخاذه كلَّ الوسائل؛ لكنَّه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلِّل سعيه بالنَّجاح، وهنا يُستجاب الدُّعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض، ويكلَّل العمل بالنَّجاح (الشامي، 1992، ص 148).
ونستخلص من ذلك كله أنّ اتخاذ الأسباب أمرٌ ضروريٌّ وواجبٌ؛ ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة؛ ذلك لأنَّ هذا أمرٌ يتعلَّق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكُّل أمراً ضروريّاً، وهو من باب استكمال اتِّخاذ الأسباب.