يقول الله جل وعلا: (والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر) [الفجر:1-5] وقد ذكر المفسرون، أبو جعفر الطبري وأبو عبدالله القرطبي وابن كثير وغيرهم أن المقصود بالليالي العشر من سورة الفجر هي ما نحن مقبلون عليه من العشر الأوائل من شهر ذي الحجة. وقد قيل غير ذلك نعم، ولكن أرجح الروايات وأثبتها إنما هو هذا المعنى، أي أن قسم الله جل وعلا بالليالي العشر من سورة الفجر إنما هو قسم لهذه الأيام المقبلة، العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، شهر العيد.
وحينما يقسم الله جل وعلا بشيء، فإنه من المعلوم جدا في علوم القرآن أن ذلك دال على خصوصية المقسم به وعظمته عند الله. حينما يقسم رب العالمين سبحانه بشيء في القرآن إلا ويكون في ذلك المقسم به سر من الأسرار ومن العظمة أو الفضل، تتصور العظمة - من حيث القوة أو الضخامة- في الذوات والأشياء كالكواكب والنجوم حينما يقسم بها الله عز وجل، ولكن حينما يقسم بالزمن كقسمه بالعصر مثلا، يدل على أن ذاك الزمن فيه فضل عظيم جدا ولذلك قسمه بالعصر كما هو معلوم دال على عظمة صلاة العصر، ومعلوم ما فيها من النصوص الحديثية.
نتحدث عن هذه العشر الأوائل من ذي الحجة، التي هي تفتتح بفاتح ذي الحجة وتنتهي بالعاشر منه، الذي هو عيد الأضحى، عيد المسلمين، هذه الرواية مروية عن ابن عباس وعبدالله بن الزبير وكثير من التابعين قتادة ومجاهد وغيرهما كثير، على أن المقصود بهذا القسم (وليال عشر) ما ذكرنا.
يثبت ذلك حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الصحيح المليح الوارد في صحيح البخاري وفي غيره، ويكفينا تثبيت البخاري له رحمه الله، يقول عليه الصلاة والسلام:
[ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ . قالوا : يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ].
هذا الحديث من العظمة بمكان، مما يدل على تميز هذه الأيام القلائل من السنة التي يعيشها المسلم، عند سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي أخبرنا في معنى هذا الحديث أنه لا توجد شي أيام أعظم عند الله ولا أحب العمل فيهن ويعني العمل التعبدي من عمل الخير والبر والإحسان ومن سائر أنواع العبادات لا يوجد أي وقت عند رب العالمين العمل فيه أفضل من هذه العشر الأوائل من ذي الحجة، تعجب الصحابة فقالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال لهم صلى الله عليه وسلم حتى الجهاد في سبيل الله! إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وبماله ولكن بشرط أنه استشهد فلم يرجع بماله ولا بنفسه، ذلك وحده فقط يكون أفضل ممن عمل عملا صالحا في العشر الأوائل من ذي الحجة، أما ما دون ذلك فلا يفضل أحد العامل العابد المتصدق أو الصائم أو الذاكرة أو الصانع للخيرات والفاعل لها في هذه العشر الأوائل من ذي الحجة.
السبب في ذلك أن هذه العشر الأوائل من ذي الحجة هي تمهيد ليوم عظيم عند الله جل وعلا، وهو يوم عيد الأضحى، وإن شئت تعريفه، ما معنى عيد الأضحى؟ هو عيد التوحيد هكذا يمكنك أن تفسره وأن تشرحه وأن تعرفه، عيد التوحيد وعيد الإخلاص لله جل وعلا، سماه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأحياه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وصار عيدا ومنسكا لهذه الأمة إلى يوم القيامة، تذبح فيه الذبائح ويهرق الدم لله، حينما يهرق الدم لغير الله، ففي هذا اليوم يوحد الله وحده دون سواه ولا يهرق الدم إلا له، تعبيرا عن فناء النفس في الله جل وعلا، رغبا ورهبا، محبة وإخلاصا.
عبادات ذات طلائع مختلفة تجتمع في نسك واحد! كيف يُفرحُ الله عباده بفرحتين؟
هذا المعنى العظيم لا يمكن لأي فعل أن يعبر عنه التعبير الصادق غير النسك، أنواع العبادات كثيرة: الصيام، الزكاة، الصدقة، العمرة، الحج، ولكن كل هذه الأعمال لديها طلائع مختلفة إلا هذا العمل وهو الذبح لله، إهراق الدم لله، هذا عمل متميز لا يوجد مثيل له، ولذلك حتى تسميته في الكتاب والسنة سمي نسكا وأُفرد وحده بالذكر رغم أنه عبادة من العبادات (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [الأنعام: 162-163]، ذكر عملين عظيمين ثم أجمل بعد سائر الأعمال!
- (قل إن صلاتي) الصلاة عماد الدين.
- (ونسكي) ذكر الصلاة وذكر الذبيحة لله.
- ثم أجمل فجعل كل شيء في حياة الإنسان ومماته، الصلاة والنسك داخلان في قوله (ومحياي ومماتي) فكل ما أعمله في حياتي وكل ما يؤول إليه أمري بعد مماتي هو لله رب العالمين.
ولكنه ميز عملين بالذكر: ميز الصلاة والنسك الذي هو الذبح لله الواحد القهار، ولهذا رب العالمين جعل قبيل عيد الأضحى يوما هو عرفات، يوم المغفرة لكل المسلمين الذين استغفروا الله بصدق، فالواقفون بعرفة لهم ما لهم من الفضل العظيم، لا حرم الله مسلما منهم من يوم المغفرة لكل من وقف بعرفات، ومن صام ذلك اليوم كان كصيام الدهر إن لم يكن واقفا بعرفات، فجعل الله في يوم عرفات عجبا، لأن الله جل وعلا يفرح بعباده فغداة يومهم عيد الأضحى، يوم الفرح بالله توحيدا وإخلاصا، ولذلك رب العالمين سبحانه الرحمن الرحيم يُفْرِح عباده في هذه الأيام، كيف؟ شيء عجيب حقيقة في هذا الدين ولا يوجد مثله بهذه الصورة إلا في عيد الأضحى، يفرحهم في الدنيا ويفرحهم في الآخرة.
يجمع لهم بين فرحتين عظيمتين بصورتين لا مثيل لهما، تقصر العبارات والكلمات عن بيانهما، بحيث أن رب العالمين يغفر للمسلمين ويتيح لهم فرصة التعبد بأيسر الأعمال في العشر الأوائل، ما من عمل تعمله، بعض الناس يظنون أن الصغير عليه أن يصوم، الصيام ليس مطلوبا لذاته، من صام فهو حسن ولكن لم يثبت وجوب صيامها كلها، المطلوب أن تعمل الأعمال الصالحة بصفة عامة: التصدق أعلاها، أن يتصدق الإنسان بالمال أعلاها وأفضل في هذه الأيام من الصيام، فمن لم يجد شيئا، ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: [فأكثروا فيهن التسبيح والتهليل] فالفقير الذي لا مال عنده يسبح الله ويحمد الله ويكبر الله ويذكر الله.
وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان في الأسواق في هذه العشر الأوائل ويكبران بملء أصواتهما فيكبر الناس بتكبيرهما في الأسواق، يرفع الذكر توحيدا لله وتكبيرا لله وإخلاصا لله.
في دين الأمل ودين الحياة.. عليك أن تعبد الله بالفرح والسرور والانشراح!
العمل في هذه الأيام عمل عظيم جدا، ولذلك جمع الله للمسلمين فيه بين فرحتين، فرحة الآخرة، لأنها مغفرة عظيمة تعمل عملا قليلا في العشر الأوائل ويجعل الله منه البركة والخير والتيسير الكبير من الأجر والحسنات، ثم أيضا ندب المسلمين إلى إفْرَاح أهلهم وذويهم والفقراء جميعا، ولذلك ورد في الحديث أيضا أن الأيام التي تلي العشر الأوائل، أي يوم العيد والأيام الثلاث التي تليه، أيام التشريق. قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: هي أيام أكل وشرب، وهذه هي الدنيا! يحسن بالناس أن يأكلوا ويشربوا في أيام العيد ويفرحوا ويتمتعوا، ولا يوجد بينهم الجائع أو القانط أو الحزين أو من لديه بؤس، فليكن الأمر كذلك.
وعلى المسلمين أن يجروا المعروف والتواد فيما بينهم، ولذلك الصدقة أفضل الأعمال في هذه الأيام لأن الله تعالى لا يحب أن يتمحن الناس في معيشتهم في هذه الأيام، يجب أن يفرحوا فهي أيام أكل وأيام شرب وأيام عيد، ومعنى العيد الفرحة.
جعل الله لنا من عبادتنا فرحة، إنه لشيء عجيب! تعبد الله بالسرور تعبد الله بالفرح تعبد الله بالانشراح، مما يدل فعلا على أنه دين الأمل ودين الحياة وليس دين الموت والجمود.
إذا عظم المؤمن شعائر الله جل وعلا حقا فعليه أن يهتم بهذه العشر الأوائل من ذي الحجة ويعظم حرمتها عند الله، وأقل ما ينتظر من العبد المؤمن ألا يقارف فيها محرما.
عيب كبير جدا أن هذه الأيام يهيأ الله فيها الأرض للإسعاد في الدنيا والآخرة، وأنت تجاهر فيها بالمعصية! انظر كيف يلتفت الله سبحانه وتعالى إلى عباده بالرحمة والمودة وكيف كثير من الناس مع الأسف يغضبون الرحمن في الأيام التي أحبها هو جل وعلا بنص الحديث المذكور، وفضلها على غيرها من سائر الأيام، وفضل من عمل فيها خيرا على سائر العاملين (قال: ولا الجهاد في سبيل الله).
هلال ذي الحجة إيذان لتفنى الأنفس في الله محبة ورغبا ورهبا وخوفا ورجاء
قد أخبر الصادق المصدوق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في حديث يرويه الإمام مسلم وغيره، فقد رواه أيضا مالك في الموطأ وغيره كثير. يخبرنا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام آمرا كل مؤمن هيأ أضحية أو ذبيحة قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة فمن هيأ ذبيحة فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يذبح أضحيته). يأمر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أمر ندب، الإمام مالك حمله على الندب ولم يقل بوجوبه، وغيره يقول بوجوبه ولكنه قول ضعيف، هو أمر ندب في حقيقة الأمر. مندوب للإنسان المسلم أنه لما يشتري الأضحية ومع طلوع اليوم الأول من العشر الأوائل لذي الحجة فعليه ألا يقص أظافره ولا يأخذ من شعره حتى يذبح كما يصنع الناس في موسم الحج، فحينما يكون اليوم الأول يمسك عن ذلك.
ما الدلالة الرمزية لهذا الحديث؟ ما هو المقصد التعبدي من هذا؟ نفسه المقصود الموجود في الحج، لماذا الحاج ليس له الحق أن يقص شعره وأظافره وغيره مما هو معلوم؟ لأنه آنئذ فيه انشغال عن ذاته بالله جل وعلا هذا.
يعلم الله جل وعلا العبد كيف ينشغل به وحده ويتبتل إليه وينقطع إليه انقطاعا كليا، فلا يهتم الإنسان بشعره ولا بأظافره ولا بذاته الظاهرة، هو منشغل مع روحه التي تتعلق آنئذ بالله، هذا المعنى الذي يربي عليه الإسلام الأنفس لتتعلم كيف تفنى في الله محبة ورغبا ورهبا وخوفا ورجاء.
مما يدل فعلا أن سيدنا محمد يعلم الناس في هذه العشر الأوائل أنها تسعى إلى تحقيق مقصد العيد لأنك من اليوم الأول وانت تسعى وتسير إلى اليوم الثاني ثم الثالث إلى الرابع إلى التاسع إلى العاشر، والله جل وعلا آنئذ يعطيك رخصة أن تعود إلى أصلك من نظافتك وقص أظافرك وتطهير بدنك إلى كل ذلك مما هو مطلوب يوم العيد من النظافة والاغتسال والتعبد لله.
هذا المعنى الحقيقي يجعلنا نرجع إلى معنى التضحية والأضحية مما أفسده الناس في زماننا هذا مع الأسف،هذا الدم الذي نهرقه لله، وهذه الذبيحة هي عمل رمزي له دلالة تعبدية ليس مقصودا لذاته من حيث هو لحم ودم فقط! يقول الله عز وجل: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) هذا معنى الرمزية أي أننا حينما نذبح إنما نأكل اللحم وما يتعلق به الإنسان، فالعبادة في أصلها شعور يقع بقلب العبد تجاه ربه ومولاه الواحد القهار فأنت حينما تذبح الذبيحة تعبر عن إخلاص قلبك لله، وأنك إنما تتقدم بهذا الصنيع له وحده.
نتهيأ له بنسيان أبداننا، وحتى تصل لهذا المقام الإيماني عليك أن تنسى ذاتك لذلك لا تقص أظافرك ولا تأخذ من شعرك ولكن العكس هو الحاصل! الدليل على ذلك أن الأضحية صارت مقصودة لذاتها بل صارت وثنا، انعكس الأمر على التمام والكمال.
عيد التوحيد وصور الشرك في الأزمنة المقدسة
عيد الأضحى هو عيد التوحيد ولكن العادات الجارية جعلته وثنية خفية، صار لحمه مقصود لذاته، وصار للخيلاء والمفاخرة، وكل هذا شرك صريح، ولذلك يرتكبون الحرام من أجل أن تذبح الشاة، والله لا يعبد بالحرام، بل يزيدك إثما على إثم والعياذ بالله.
بالمقابل اللحظات المقدسة عند رب العالمين، العمل فيها مضاعف كما ذكرنا، والجريمة أيضا مضاعفة، من أجرم في مكان طاهر جريمته مضاعفة، كمن يقترف جريمة من شرب الخمر أو الزنا أو الربا في مكان آخر بعيد عليه العقوبة إلى أن يغفر الله له ولكن إن قصد المسجد واقترف جريمته فالعقوبة مضاعفة، هذا بالنسبة للمكان، وكذلك المسجد الحرام وغيره من الأماكن المقدسة.
وكذلك الأزمنة المقدسة فمن يشرب الخمر مثلا في رمضان ذنبه أعظم من شربه إياه في غير رمضان، ولكل ذنبه، فكذلك لما تظن أنك تمارس عبادة فهذا هو الظاهر ولكن الإحساس الباطن عندك أنك تشرك بالله جل وعلا، لأن الكبر والخيلاء من خصائص الشرك بالله.
توجد من الذنوب القلبية الوجدانية والمعنوية، ولكن منها ما هو شرك واضح قوي: الكبر والخيلاء، وهو واضح جدا في النصوص الحديثية الكثيرة المتواترة المستفيضة، ويكفيك من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر]، وما حرم إسبال الأزر إلا لهذا المعنى بما فيه من خيلاء وكبرياء، فلما يكون التفاخر بين الناس بالذبائح، إبليس لعنه الله وأخزاه وأعاذنا وإياكم منه سار بالناس إلى غير قصد الشريعة، لما شرع الله حكم الذبيحة ومنسك العيد قلبه إبليس لعباد الله في الاتجاه المعاكس تماما، لذلك يرتكب الناس الحرام لأجله، فدل أنهم ما يعبدون الله به إلا قليلا.
وجب على العبد أن يخلص نيته وأن يصفي سريرته، فلو كان فعلا منشغلا بالله، ناسيا نفسه كما أمر سيدنا رسول الله أن لا نقص الأظافر والشعر، بينما أنت لم تنس نفسك! ومن فعل فقد عبد أهواءه، فإن كان مطلوبا أن تنسى نفسك، فمطلوب من باب أولى أن تنسى اللحم والعادات الفاسدة، فالمؤمن الذي ينجذب فعلا لله وتعلق قلبه به لا يفكر نهائيا في ذلك، فإن وجد ذبح وإن لم يجد فهو في سيره إلى الله في العشر الأوائل يكفيه التسبيح والتهليل والتحميد والصيام والصدقة، وإذا عبد الله حقا بالذبيحة فليجعلها خالصة لله، وليراعي في ذلك قولا لقائل لا من الجيران ولا من الدار أو غيرهما مما يفسد عليه عبادته.