أَلاَ مَا أثقَلَ الجِدَّ على النفس لو أَلِفَت العجز والكسل، وما أشقى طريق الاجتهاد لو اعْتَادَت النفس البشرية السُّكُون والدَّعَة والخُمُول. إن الكَيِّسَ الفَطِن من دَانَ نفسه لنفسه، وشَغَلهَا وَرَمَّم جوانب القُصُور فيها، وأكْمَلها وَحَلاّهَا بالتّعزيز مِن قُدُرَاتها، مُجَنِّبًا نفسه في إطار كلّ ذلك العجز القاتل، والكسل المُمِيت. أمّا المَغبُونُ فمَنْ حُرِمَ كُلّ هذا، وَضَيَّع لحظات عمره، فلم يستغلها ولم يَلتفِتْ لنفسه طرفة عين، وتَدَثّرَ بِرِدَاء العجز والكسل، وأقام في أيامه سُبَاتا عميقا، عَبّأ رصيد العَجْز لديه، وزادَ من مِقدَارِه ومَنسُوبِه إليه.
إنّ مَنْ يَلبَسُ اليوم جُبَّةَ العَجْز لا زال يَنْتسِبُ تاريخيا إلى المجتمعات البدائية، التي عَطّلَتْ بِعَجْزِها كل الأسُس التي تُساعِدُها على بناء الحضارة والتقدم، فشعوب الأرض لمَّا اسْتفَاقت بعد أن كانت مُتَدثّرَة بِرِدَاء العجز، ولَبِسَتْ لباس الهِمّة والعزم، والجِّد والحَزم؛ انتقلتْ وقتئذٍ إلى المَدَنِيّة والحضارة، يقول المُؤرِّخ توينبي: " إن الأساس الذي تقُومُ عليه المَدَنيّة هو الكَدْحُ والشقاء والمعاناة، فالمناطق التي يَسهُلُ فيها اكتساب القُوت، أو يُلتقَط فيها التقاطا، لا تستطيع أن تُنْتِجَ مدنيّة؛ إذ هي تُعوِّدُ الإنسان على الكسل والتّسْليم بالقَدَر والتّلذّذ بالأحلام "، فلا تستطيع أن تُنْتِج مدنيّة أو حضارة، لأنها وأفرادَهَا غارقَة من أخْمَص قَدمَيْهَا إلى رأسها في داء العجز؛ عَجْزٌ في عَجْز، ومعه تأخُّر عميق، وتَخَلفٌ حضاريّ سحيق.
إنّ بموت الأفراد عَجْزا وهم أحياء، تموتُ معهم مجتمعاتهم في التخلف والجهل والرّكُودِ الحضاريّ، فالمجتمعات البشرية اليوم بحسب حالة أفرادها؛ إما مجتمعات قضى أفرادها على العجز وقَطَعُوا معه كل العلائق والصِّلات، أو مجتمعات وليدة العجز لا زالت تعيش في كَنَفِهِ، وتُحْيِي معه كل الصِّلات؛ فهي مجتمعات عاجزة: يعيش أفرادها حالة قُصْوَى من العجز والرُّكُود؛ هي مجتمعات تَرْكنُ إلى الطمأنينة - بالمعنى السلبي للكلمة - ولا تستعجل، تَسِيرُ الهُوَيْنَى، ويُعَبِّرُ الفردُ العاجز فيها على أنّ الربح والتطور والتقدم أيامه طويلة، متى جاء خَيْرُهُ ينفع، ويرفعون شعارات هَوْجَاء - فُهِمَتْ في غير سِيَاقِهَا ومِنْ غير مُرَادِهَا - مِن قَبِيلِ قولهم: " العَجَلة من الشيطان "؛ و قد دَهَسَتْهُم عَجَلة التأخر كثيرا، ولا زالت عَجَلة التقدّم والرَّكْبِ الحضاريّ مُتخَلِّفَة عنهم، لا تعرف إليهم طريقا ولا سبيلا. بينما المجتمعات في الجهة المقابلة، مجتمعات متحركة؛ لا تستريح، لا يعرف أفرادها إلا العمل المتواصل، إذ ليس في قامُوسِهم العجز أو الاستسلام، شعارهم الدائم؛ المحاولة ثمّ المحاولة؛ فهذه المجتمعات وأفرادُهَا إذن، في حالة دَأبٍ متواصِلة، وفي حالةٍ من القلق تَعتَرِيهِم لِحَلِّ المُشْكِلات، فالنّفس البشرية في هذه المجتمعات لا تَعْرِفُ للسكينة والطمأنينة والدَّعَةِ عنوانا؛ النفس البشرية فيها شُمُوعٌ تحترق لكيْ تُنيرَ بإحراقها سبيل الشهود والتطور الحضاري؛ فلا تَمُتْ عَجْزا !
إن الكون كله في حركة دَؤُوبَة وعَملٍ مُسْتمِر، لا اسْتِكانَة فيه ولا ثبَات، فليس هناك ثمَّة فراغ في الطبيعة، كُلٌّ يقومُ بِدَورِه وعمله بدون عجز، " كلٌّ في فلكٍ يَسْبَحُون "، فقد أودَعَ الخالق في الكون الحركة والتّغْيِير، وجعلهُما من سُنَنِهِ الثابتة في الكون وَبَنَى عليهما أصْل العالم. تأسيسا عليه إذن، فَكُلُّ من ألِفَ السُّكُون والعجز والدَّعَةَ والثبات فهو مُخالِف لسنن الله في الكون، وَاقِفٌ أمَامَها وقفة تضادّ، كَمَنْ يَسْبَحُ ضد التّيار، غارق لا مَحَالة.
تَمُوتُ الأشجار حينما تعجز أغصانها عن الإيرَاقِ والإثمَار من جديد، وتتساقط أوراقها خريفا حينما يعجز غُصْنُها عن إمساك كل تلك الأوراق، فكذلك جسم الإنسان إذا أصابه العجز؛ إنّ العاجز يسمَحُ لعجزه المُمِيت وكَسَلِهِ المَقِيت، بإرسالِ إشارَاتٍ وذَبْذَبَات إلى كُلّ عُضوٍ من أعضاء الجسم بأكمله بأن وظائفه قد انْتَهَتْ، فهو بعجزه يَحْكُمُ على أعضائه بِتَوَقُّفِ وظائفها، فكلما تَسَللَ العجز إلى أعضاء الإنسان أصَابَهَا بالوَهَن وعَطل وظائفها رُوَيْدا رُوَيْدا، وأعَادَهَا كأنها إلى أرْذَلِ العُمُر، ومن هذا المنظور حُقّ للإنسان ألاّ يعجز، وإلاّ صارَ في خَريفِ العُمر، ومِنْ ثمَّ المُبَاشَرة على مَوْتِ الأعضاء والجسم بِبُطء شديد. إن العجز سُمّ زُعَاف يَنْخَرُ جسم الأفراد والأمم رُوَيْدا رُوَيْدا، ويَقِفُ حَجرَ عَترَة أمام تقدُّمِهَا، فالعجز في عَدْوَاهُ شبيهٌ بِعدْوَى الفيروسات الفتاكة؛ العجز أفْيُونُ الشعوب، يحتاجُ فعلا إلى تِرْيَاقٍ فَعَّالٍ لمُحَارَبَته والقضاء عليه.
لا تَمُتْ عَجْزا ! فإنّ أسوء الموت أن يموت الإنسان موتا بطيئا، يَتَجَرَّعُهُ ولا يَكادُ يُسِيغُه، كأن الموت يأتيه من كل مكان وما هو بِمَيِّت، هكذا حالُ من أصيب بداء العجز، مَيِّتٌ قبل الأوان، وَعَالة على نفسه ومحيطه وأمَّتِهِ، وقد أحسَنَ مَن قال: " المَوتُ ليس الخسارة الكبرى؛ إنّ الخسارة الكبرى هي ما يَمُوتُ فِينَا ونَحنُ أحياء ". وَمِن أسوء اللحظات التي يموتُ فيها العاجز حَيًّا، حينمَا يَجِدُ نفسه وأمَّتَهُ في مَعْرِضِ المُقارنَةِ مع أصحاب الجدّ والاجتهاد، فَيُقَلِّبُ يَدَيْه يَمْنَة ويَسْرَة فيَجدهُما خَاوِيتيْنِ على عُروشِهِمَا صِفْرًا، فَيَعَضُّ أنَامِلَهُ حَسْرَة وغَيْضا. وحَالُه: وهل يُصْلحُ العطارُ مَا أفسَد الدّهر ! .
لقد كان نبيُّ هذه الأمّة الكريم يَتَعَوّذُ من العجز والكسل كثيرا؛ " اللهم إنّي أعُوذُ بك من العجز والكسل والبُخل والجبن " إيمَانا منه بأنه مَرَضٌ عُضَال، وَدَاءٌ فَتّاك يَنْخَرُ جسد الفرد أوّلا، ويُعَطّلُ معه حضارةَ الأمَّةِ ثانيا، ويُصبحُ حَالُ الأمَّة وجَسَدهَا نتيجة لكُلّ ذلك؛ كَهَشِيمٍ تَذْرُوهُ الريّاح، خَاوِيَة على عُرُوشِهَا أو كَبِئْرٍ مُعَطّلةٍ بأوصاف القرآن. ويَقِينا من الرسول الكريم بأنّ الأمَمَ تُبْنَى بِبِنَاء أفْرَادِهَا؛ أوْصَى مُعاذَ بن جبل وهو رمز الشباب؛ إذ الشباب هو عُمَدُ الأمَّة ولَبِنَاتُ بِنَائِهَا الذهبية، فقال: " اسْتَعنْ بالله ولا تعجز "، وبتقطيع هذه الوصية الذهبية، نجد أنه أوصاه بالتّشمِيرِ على سَاعِدِ الجدِّ بقوله: " اسْتَعِنْ بالله "، ودعاه إلى نَفْضِ غُبَارِ العجز والكسل: " ولا تعجز "، يقول مَالك بن نَبِيّ : - في كتابه شروط النّهضَة الحضارية للأمة - " إنّ الذي يَنْقُصُ الإنسان المسلم ليس منطقُ الفكرة، بل منطق العَمَل والحَرَكة "، فلا تَمُتْ عجزا !! فَتُمِيتَ مَعَك أمَّة وحَضَارة، وليكُنْ لك شَرَفُ المُحَاوَلة على الأقل.
هي دعوةٌ صريحة إذن، إلى مُحاربَة دَاءِ العجز وَعَدْوَاه، كما تُحَارَبُ عَدْوَى الفيروسات، قَاتَلهُ الله ما أشدّهُ من مِعْوَلٍ لِهَدْم الأمَم، وَبَثّ الكسل والتثبيط في تَقدُّمِهَا. إنّ الأمم التي تسعى إلى البناء و السيادة والريادة والحضارة، أمْرُهَا مُرْتَهنٌ بمحاربة أبنائها للعجز والكسل، والتّشمِير على سَاعِدِ الجدِّ وبَذْل الوُسْعِ بِنشَاطٍ وفَعَالية، والمُضِيِّ قُدُمًا نَحْوَ الشّهُودِ الحضاريّ والتّشيِيدِ العُمْرانيّ؛ إذ لم يَبْقَى معه مجال للشك، أنّ بِنَاءَ الإنسان طريقٌ إلى بِنَاءِ الحضارة والعمران.