لست أدري متى سنبصر طريقنا إلى التخلص من أدوائنا القديمة التي حولتنا من أمة تقود الأم إلى أمة تستجدي الشعوب في لقمة عيشها وفي أمنها وفي تنظيم شؤونها؟ ولعل من أدوائنا القديمة الاستسلام للحظة الراهنة، فنحن تستمتع ونهجع ونأكل ونلعب كلما أتيح لنا ذلك غير آبهين بما يأتي به الغد، ولا مكترثين بما يتطلبه ما بعد الغد!
إن القرآن الكريم حين أمرنا بإعداد العدة كان يستهدف إخراج المسلم من ضغوطات الساعة الحاضرة، لتنفتح له آفاق المستقبل. والتخطيط في حقيقة الأمر يعني الحصول على شيء من هذا؛ حيث إنه يساعدنا على توظيف إمكاناتنا الحاضرة في مشروعات تستهدف تحسين أوضاعنا في المستقبل. وهذا يستوجب ألا نهدأ حين يتاح لنا الهدوء، ولا نغفل في أيام الرخاء. وهذا ما تفعله الدول العظمى والأفراد المتفوقون..
قد أثبتت كل الأحداث التي وقعت في العقدين الماضيين أن أعداء هذه الأمة ومنافسيها يعتمدون في الكيد لها واستغلالها على عقدة النسيان لديها وعلى كون تحركاتها لا تنبثق من رؤيتها للمستقبل، وإنما من مواجهة مشكلاتها الآنية.
ولذا فإننا أصبحنا ألعوبة في أيدي الآخرين؛ إذ ما عليهم حتى ينسونا ما نحن منهمكون فيه إلا أن يخترعوا لنا مشكلة جديدة، فننسى القديمة، وننطلق نحو معالجة الجديدة بالحماسة نفسها التي كنا نعالج بها المشكلة القديمة، وبذلك ننسى الذين ورطونا في المشكلة القديمة والذين ورطناهم أيضا؟
إنّ كثيرا من مشكلاتنا الفردية والجماعية ناشئ من قصور في المفاهيم لدينا؛ فنحن كثيرا ما نظن أن توفير أكبر عدد ممكن من الأفكار والرؤى والطروحات يكفي للإصلاح والتقدم. ومع أن مثل هذا شرط لا يستهان به، لكنه ليس الشرط الوحيد، فنحن إذا عمقنا النظر في تجاربنا، وفي تجارب الأم من حولنا، وجدنا أن أكثر ما يرتقي بالأمم أمران:
النماذج والمؤسسات؛ فعقولنا تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به والتفاعل معه ما لم نره مجدا في نموذج بشري، فينتقل ما كان ينظر إليه على أنه مثالي جدا أو صعب التحقيق من حيز غير العملي إلى حيز الممكن الذي يقع ضمن المكنة والطاقة.
ولعل هذه هي الحكمة من وراء عصمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتجسيدهم لما يدعون إليه في سلوكهم. وهكذا المسلمون اليوم يحبون أن يروا نماذج راقية تتحرك على الأرض في كل اتجاه من اتجاهات الحياة: العلم والخلق والإدارة والسياسة والإنتاج والعلاقات الاجتماعية... وعلى مقدار ما يتوافر من نماذج راقية يندفع الناس في طرق الصلاح والإصلاح، وإن لم يكونوا مفكرين أو مثقفين أو فقهاء...
أما المؤسسات فإنها تشكل أطرا لتخريج النماذج، كما أنها تنسق الجهود المبعثرة، وتتيح لكثير من المشروعات أن يستمر فترات طويلة. وإن في شباب الأمة الكثير الكثير من الرغبة في الخير والعمل، ولكنهم لا يجدون المؤسسات التي ترسم الأهداف، وتمهد الطريق، وتوفر لهم التدريب، وتعينهم على أنفسهم. إذا أردنا لهذه الأمة أن تنهض فلنزکز على إيجاد أكبر عدد ممكن من النماذج الرفيعة والمتفوقة، وأكبر عدد ممكن من المؤسسات ذات الاهتمامات الجزئية والمتخصصة، فبذلك وحده نتعلم العمل في أيام الرخاء لأيام الشدة، وبذلك تتحول العواطف النبيلة من كونها فورة مؤقتة إلى وقود لإنجاز الأعمال الجليلة.