إياك أن تنكسر يا بني فتسقط وتنحدر إلى المنعطفات الخطرة، قم واصنع من الأزمات والأحزان صباحا مشرقا، وبدد الظلمات الحالكة، ومزق السحب الداكنة وأطلع منها شمسك التي تكاد تكسف، وأضئ نجمك الذي يكاد يهوى.
فالحياة قسوة ورحمة، والمعركة لما تنطلق، ثق بنفسك، وتوكل على الله، وتوسل إليه بكل ما تمتلك من العدد والعتاد، فليمت من يمت، وليذهب من ذهب، وليودع من يودع، لكن لا تسقط ولا تتعثر، ولا تلعن القضاء المحتوم، ولا تسمع قصص الآهات التي تمتص منك الطاقات وروح المعاني، ولا تنظر إلى المأسات التي لا تورق فيك نجاحا ولا جمالا، ولا تقرأ تلك الدروس التي تميت عقلك وتفني روحك السامية.
اقرأ تلك الإنتصارات التي فتحت الأمصار والقلوب، قصص الأبطال التي تثمر فيك الأمل والتحدي، واسمع عن الذين بدأوا حياتهم من الصفر، ثم وصلوا إلى مداهم بالصبر..
يا بني، حياتنا نحن مجمع التناقضات التي لا مفر لنا منها، وهي نقطة تلتقي حولها الأزمات والآمال، والأحلام والعراقيل، وكأننا نحن ضحايا الزمن، يلدنا الدهر لنكون حراسا له، وحماة في سوره وثغوره، وقد رأيت ما رأيت رغم قلة تجاربي ومساهماتي في كراسة الحياة، صورا بعضها قاتمة، وبعضها جميلة نقية، فيها الحزن الثقيل والصبر الجميل، وفيها... وفيها الموت الأسود والحياة السعيدة...
يا بني، قم وقاوم كل تحد يواجهك بالحسد والحقد والشحناء، ولا تبال من يأتيك بقول معسول لا معنى فيه ولا روح، ولا تهتم بأشياء بسيطة لا فائدة لك فيها، ولا تجعل سلاح علمك نارا تحرق الأشياء بأكملها، وإجعلها نورا على نور، يضيء الظلمات ويكشف المدلهمات، فإن نور العلم وحده طريق النجاة الأخيرة، وهو وحده القشٌة الذي يتطلع إليها الغرقى في لجج المادية الزاخرة..
يا بني، لماذا نعيش هنا؟
بين قدر يهاجمنا و قدر يسرنا ويسعدنا، فإن للحياة أقدار لا ندري الكوامن تحتها، ولا ندرك عمق المعاني التي إختفت تحت هذه التراكيب الواسعة، فالحياة دائما كلمة مدح وكلمة جرح، فإما تلهمك آلافا من الأحلام الجميلة، وإما تقضي عليك بأنيابها الثقيلة، فعش أنت في هذه الدنيا، شامخا، لا خاملا، رافعا رأسك لا مطرقه، فإن الرأس العالي يخيف كل الأعناق المتطاولة عليك، وعش بعين مفتوحة لا تعرف الكرى وقادة في كل ظلام، ونفاذة في كل زمان...
يا ابني العزيز، اصنع حياتك من الأحزان التي ألمت بك، وكن أنت الطبيب، والأستاذ، والمهندس، والصانع والصائغ، وكن أنت المجدد والبطل والزعيم. أرى فيك أمالا كبيرة، وتحتاجك الأمة أكثر من نفسك، فالأمة لا تصنع البطل في مهد الرفاهية والسعادة، فإنما ينبت الياسمين في الحديقة الغناء بعد معاناة طويلة وصراع في ميدان الحياة.
يا بني، يا صانع المعجزات، فإن الدرب الموصل إلى النهاية الكبرى مفروش بالأشواك. وربما بالألغام التي تتفجر لضغطة بسيطة عليها، فكن على حذر، حتى لا تنساق إلى لجة الأوهام التي لا تزودك بالحلم الجميل، ولا تسعدك بالأمل الكبير، فكم رأينا أرواحا تصارع من أجل أنفاس تعيد إليها الحياة، وتجود لها بالأمنيات، وكم رأينا في هذه المرآة المتعكرة المتشظية صورة رسمت على أنقاض اليأس والسقوط المزري، وفي ثناياها حظينا لرؤية أبطال لم يستسلموا لتلاعب الدهر، ولم يسلموا عزتهم إلى راحتيه بالخضوع والخنوع..
أجل يا بني، فإنك أنت السفينة التي تخرق الأمواج المتلاطمة، وفي كفيك تلك القوة التي تهدم بها جبال الهم والحزن، وفي عينيك تلك النظرة الإكسيرية التي بها تكافح كل جراثيم السلبيات والرجعيات.
في روحك تلك المنارة الموقدة التي لم تزل تنير الطرقات رغم هياج الرياح العاتيات، ورغم كل الإعصارات التي تسعى جاهدة إلى إخماد ثورتك الفائرة...
أجل يا بني، أطلع شموسك وضاءة من ثنايا السحب التي تستر هالتك، وأزهر نوارك وريحانك من تلك الطفيليات التي تمتص طاقتك، وتزعج سلامتك، ووجه رسالتك الأخيرة إلى كل من تربصوا بك.
فالحياة إما فناء في سبيل المجد، وإما حياة مع رايات السؤدد، فكل خطوة تتلوها خطوة تخبرنا بأن طريق اليأس سيطوى عن قريب.