عادة ما تكون عمليات الانتقال من مرحلة إلى أخرى، معقدة وعسيرة، إذا كان التعامل معها جزئيا بوصفها "حدثا" لا أكثر.. ونلاحظ صعوبة مراحل الانتقال في مختلف المستويات والمجالات، السياسي منها والاقتصادي والتعليمي أيضا. إن الانتقال بين المراحل والمستويات لن يكون بكل ما نراه من الصعوبة والعسر، إن استطعنا النظر إلى "الصورة الكاملة" وعملنا على وضع العناصر في إطار مترابط، بدلا من الاجتهاد في صناعة تقابل دائم بينها.
ويأتي الحديث عن اختيار التخصص الجامعي، في نفس السياق، حيث تبذل جهود كبيرة في لحظة "الحدث" لمساعدة الطلاب في انتقال سهل من الثانوية إلى الجامعة، بتقديم نصائح وإرشادات وبرامج وتقنيات، تبدو جيدة وإن كانت في توقيت غير جيد.
إن التعامل مع موضوع اختيار "اختيار التخصص"، كحدث مستقل يتطلب حلولا عاجلة، ليس غريبا في سلوكنا الاجتماعي؛ فإننا نتعامل بنفس الطريقة والأسلوب في معظم تفاعلاتنا الاجتماعية.
في هذه المقالة محاولة للنظر إلى "اختيار التخصص" ضمن دائرة أوسع، ودعوة للاهتمام بها في وقت أبكر، واقتراح أداة حديثة نسبيا من شأنها مساعدة الطالب في اكتشاف الخيوط الواصلة بين أنشطته الجارية، وما يناسبه من أعمال مهنية في المستقبل، ومن ثم ما تتطلبه تلك الأعمال من تخصصات جامعية.
وترجعُ عامة الصعوباتُ التي تواجه الطالبَ عند اختيار التخصص الجامعي، إلى سببين:
1- ضعف الأنشطة المعززة لهوايات وميول الطلاب في المدارس الثانوية على وجه الخصوص، والتي يفترضُ اهتمامها ببناء روابطَ جيدةً بين أنشطةِ الطالب وطموحاته المهنية، ووضع رؤيةٍ واضحةٍ تدعم هذا الاتجاه.
2- ما يحصل من تجاذب داخل الأسرة عند اختيار التخصص، كمظهر للفجوةِ النفسيةِ الكبيرةِ ومؤشرٌ لضعف التواصل المعرفي بين الآباء وأبنائهم. وعادة ما يتم اختيار التخصص دون استشارة الابن، ودون مراعاة رغباته وميوله وقدراته؛ مما يؤدي عادة إلى التعثر الدراسي، ومن ثم الفشل، أو التحطم والإحباط، وحرمان المجتمع من مبدعين يعشقون مجالاتهم الدراسية والمهنية فيما بعد.
وأرى أن يبدأ تعرف الأسرة على اهتماماتِ الابن وميولاته الدراسيةِ والمهنية منذ وقتٍ مبكر، وذلك عن طريق الملاحظة في المقام الأول، أو باستخدام بعضِ النماذج التربوية ذاتِ الصلة، مثل نموذج السيرة الذاتية للطالب ASC، وأن تعملَ الأسرة على رعاية هواياتِ الابن وتنميتها وتوجيهها؛ لتصبحَ رغباتٍ واعيةً وناضجةً، وذاتَ صلاتٍ حقيقيةٍ بواقعه الاجتماعي، وبفرصِ العمل المتوفرة.
عن نموذج ASC
نموذج آسك أداة لإعداد سيرة ذاتية للطالب، وتعد سيرة الطالب student cv أداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي في الجوانب المضمنة في الاستمارة.. وتتضمن سيرة الطالب حسب نموذج ASC ثلاثة عناصر رئيسة هي (المواهب والهوايات والطموحات).
تستخدم أداة آسك في اكتشاف مواهب الطلاب وهواياتهم وميولاتهم، وطموحاتهم المستقبلية، وتقوم فكرة النموذج على مفهوم جديد للهوايات (جميع الأنشطة المفضلة) وتمثل الهوايات أفضل وسيلة لاكتشاف العلاقات المتوفرة بين قدرات الطالب وملكاته من ناحية، وطبيعة ميوله الدراسية، وشكل مستقبله المهني وليس مجرد تخصص جامعي يختاره بعد الثانوية.
في نموذج آسك عرفنا المواهب بأنها (قدرات وملكات) للتفريق بينها وبين الهوايات التي ذكرنا سابقا أنها (أنشطة مفضلة). ويستخدم النموذج إلى جانب اكتشاف الهوايات والميول، في التخطيط لأنشطة الطلاب، والمقارنة بين مستوى أنشطتهم في الصف الدراسي، وفي تقويم البرامج والأنشطة المدرسية.
يصنف النموذج مواهب الطلاب إلى ثلاثة أقسام “ذهنية ونفسية وبدنية”، ويأخذ البرنامج منحى جيدًا في الاهتمام بأنشطة جميع الطلاب، بخلاف برامج الموهوبين التي عادة ما تهتم بصفوة تتوفر لديها قدرات نمطية حسب أدوات ومقاييس الذكاء الشائعة. إن الاهتمام بجميع الطلاب، واكتشاف ما لدى كل منهم من ميول منشطية، يسهم في زيادة فاعليتهم ويعزز درجة تواصلهم البيني وارتباطهم بالمدرسة.
في نموذج آسك تصنف هوايات الطلاب إلى أربعة أقسام تستوعب عامة أنشطتهم تقريبًا، وهي (المعرفة والرياضة والعمل والتطوع). في قسم الأنشطة المعرفية المفضلة، يتعرف النموذج على جملة الميول الدراسية للطالب، وتتضمن المواد المدرسية، والثقافية العامة، والبرامج التلفزيونية والإذاعية ونحوها من قوالب المعرفة. وفي الرياضة يتعرف البرنامج على الأنشطة الرياضية المفضلة للطالب متضمنة المشي، وركوب الدراجات، وغيرها من ضروب الرياضات المفيدة. وفي القسمين الثالث والرابع للهوايات يتعرف الطالب باستخدامه للنموذج، على هواياته المهنية والإنتاجية، سواء كان ممارسًا لها بمقابل وأجر، أو متطوعًا.
في الجزء الثالث من النموذج، يتعرف النموذج على طموحات الطلاب، ويرى البعض أن النموذج يركز على الطموحات المهنية بشكل أكبر؛ لعلاقتها المباشرة بالدراسة الجامعية، وبوصفها نقطة انطلاق لمختلف النجاحات الاجتماعية والمعرفية التي قد تتحقق مستقبلًا. ويعمل النموذج على مساعدة الطلاب في قراءة العلاقات بين أنشطتهم الفعلية الجارية، ورغباتهم الدراسية والمهنية المستقبلية، لا سيما وأن النموذج أكثر ملاءمة لطلبة المرحلة الثانوية على وجه التحديد.
اختيار التخصص الجامعي أم اختيار المجال المهني؟
جدير بالذكر هنا، أنني أكتب في شؤون التعليم والمعرفة، وفي رصيدي الشخصي نحو عشرين عاما في مهنة التعليم، تخللتها سنوات في التحرير الصحفي، بينما كان تخصصي الجامعي الأساسي في (الدراسات المصرفية). إن طلابنا في المرحلة الثانوية، بحاجة إلى من يمنحهم رؤية أبعد مدى من مجرد (التخصص الجامعي)، ويمنحهم فرصة للتعرف على (المجالات المهنية) قبل اختيار التخصص. في استخدامنا لنموذج ASC نعمل على توجيه الطالب إلى التركيز على المجالات المهنية الملائمة لميولاته، ومن ثم اختباره في تحديد أي التخصصات أكثر صلة بها.
العناوين الكبيرة للمجالات المهنية
برأينا أن الدراسة الجامعية الأولى، ليست سوى إبحار عام في مجال مهني واسع، وتملك لمفاتيح العلوم الأساسية في المجال المعني، مما يتطلب منح الطالب فرص أكبر في المراحل الدراسية والمعرفية التالية. وحسب تجربتنا في حقل التعليم فإن حاجة طالب الثانوية لرؤية وفكرة، أكثر من حاجته لتوجيه وإرشاد. في جلسة تدريبية مع طلبة جامعيين خلال فترة كورونا الأولى، طرحت سؤالا عن العناوين الرئيسية للأنشطة المهنية في المجتمع، لتأتي الإجابات مفاجئة حتى لأصحابها؛ فقد اكتشف كثير منهم أن تخصصاتهم الدراسية فروع متكاملة في "مجال مهني واحد". فما هي هذه العناوين المهنية الكبيرة دون اعتبار للترتيب؟ كان ملخص جلسة الحوار أن أنشطتنا المهنية تتلخص في:
1- التجارة.
2- الصحة.
3- التعليم.
4- الإنشاءات.
5- الصناعة.
6- الزراعة.
7- التوجيه.
8- الأمن.
9- القضاء
10- الترفيه.
عندما يكتشف الطالب ملكاته وميولاته المعرفية والمهنية في وقت مبكر، ويتعرف على طبيعة المجالات المهنية نفسها في ذات التوقيت، فإن عملية اختيار التخصص الجامعي ستصبح إجرائية، ولا تعدو كونها خطوة لتحصيل معرفي منتظم في مجال مهني تم اختياره مسبقا، بناء على قدرات وملكات وميولات شخصية، من شأنها أن تقدم للمجال المعني هواة قادرين على العمل والإبداع والتطوير، لا سيما وأن المؤسسات قد أصبحت أكثر ميلا للهواة والمبادرين وأصحاب الإنجازات الشخصية.