يُصوِّر الغزالي الإنسان في كتابه "إحياء علوم الدين" على أنّه مزيج من (الخنزير والكلب والشيطان والحكيم) وكلَّ إنسان طبيعي لا يخلو من هذه الأربعة مجتمعةً، فالخنزير الحاجة البهيمية للإنسان وتمثلُّها الشهوة، والكلب الحالة السبعية ممثلةً بردات فعل الغضب وغيرها، أما الشيطان فهو الوهم أصل التهييج للخنزير والكلب الذي يغريهما ببعضهما ويحثهما على ما هما مجبولان عليه، أمّا الحكيم فهو صورة العقل أو الذات الحقيقية التي تبطل كيد الشيطان فيقوم بضرب جشع الخنزير بغضب الكلب، وضراوة الكلب بحرص الخنزير فيخضعهما تحت سياسته فلا يجعل أحدهما فوق الآخر، وإن عجز عن قهرهما قهروه واستخدموه لينشغل بتفكيره ووقته بإرضائهما فيصبح عبداً لهما لا هما عبدان له.
إنَّ حياة الإنسان صراع داخلي ممتدٌ من المهد إلى اللحد على دفة القيادة، إمّا أن يقوده هواه خنزيره وكلبه أو يقوده الحكيم، من يمسك بدفة السمع والبصر والأفئدة، حساسات المعرفة قنوات الوصول إلى الحق والتي هيأها الله بعد نفخة الروح لتصير أدوات الإدراك (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)[سورة السجدة الآية: 09]
وبين من يقودها إلى الختم: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية الآية: 23] وبما أنَّنا نعيش بعالمٍ مليئ بالشهوات غارقٌ بالملذات، لا يكاد الإنسان يسمع صوت الذات! تنقسم أحوال الناس في هذا إلى ثلاث فئات:
- الفئة الأولى: الإنسان العادي والذي طوال حياته يترنح بين نفسه وذاته، بين هواه والحق، يغفل تارةً ويصحو تارةً أخرى، ويصور الرومي لنا هذه الفئة بقصة عن مجاهدة العقل للنفس فيروي حال مجنون يريد أن يسوق ناقته بالإتجاه الصحيح متوجهاً نحو محبوبته بينما تريد الناقة في كلِّ مرَّةٍ أن تعود إلى صغيرها.
- الفئة الثانية: الإنسان الغافل والذي اتخذ إلهه هواه يعبده ساجداً لشهواته لا يكاد يرى أبعد من جسده، والذي أينما وجدت الملذات وُجدْ وسعى لها وهو من خُتم على سمعه وبصره وأفئدته فلا يرى الحق لأنَّه نزل بنفسه مقام الجسد وفي مقام الجسد يُصمُّ على ذاته الحقيقة ليصبح بمنزلة الأنعام في التكليف: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية الآية: 23]
- الفئة الثالثة: فهم من خاضوا غمار التجربة، وعرفوا أنَّ الطريق إلى الداخل، فانشغلوا بمعرفة ذواتهم كي يصلوا للحق، يقول الإمام علي رضي الله عنه: "من عرف نفسه عرف ربه" أولئك الذين رعوا قلوبهم عن الغفلة ونفوسهم عن الشهوة وعقولهم عن الجهل، الفالحون "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"
ولكن كيف أفعلها! أخلع ماذا؟! أخلع نعلي… هل بخلع نعلييَّ أصل إلى الله! اخلع نعليك يعني شهواتك، نجاحاتك، شهاداتك، ممتلكاتك حتى ترى.. لا أقول اتركها ولكن هي لا تمثّل حقيقتك فكفَّ عن تعريف ذاتك بها.
من هنا تبدأ البصيرة ويعلو صوت الفطرة، الخالع لنعليه يؤلمه الإفراط بالسير فلن يسير إلا لقضاء حاجته، لن يفرط بإشباع ملذاته، الخالع لنعليه يسير ببطئ لذلك يسأل نفسه هل ما أهمُّ به يستحق المضي؟
الخالع لنعليه يملك ما يملك ولكن لا يتماهى مع ما يملك، فإن سُئل من أنت؟ لن يجيبك مفتخراً بمهنته ونجاحاته وما يملك بل يصمت. "أي أحداً لا يعلو حتى يخلع نعليه"