رغم كلّ ما توصّل إليه الإنسان في ميادين العلم الحديث، إلاّ أنّه لا يزال يحبو في خُطواته الأولى على دروبها الشائكة. فالبحث العلمي اليوم لم يعد ترفًا تمارسُه بعض الأمم المتقدّمة ولكنّه في واقع الأمر ضرورة مُلحّة تحتاجُها البلدان النّامية والمتقدّمة على حدّ سواء، وهو عمليّة تعاونيّة تنهض بها الجامعات والمؤسسات والمراكز البحثيّة العامّة والخاصّة، كما يتم تفعيله وتطويره من خلال تبادل المعرفة والوصول إليها في إطار التّواصل المعرفيّ بين الباحثين في مُختلف الدّول.
لكن وفي خضم كلّ هذا، ما يزال المواطن العربيّ يقف حائراً، إن لم نقل عاجزاً، يتمتّعُ بثمرات العلم ويشاهدُ منجزاته الجبّارة وتطبيقاته العمليّة المُذهلة، دون أن يستوعب أو يُدرك كنهها وكيفيّة التوصّل إلى نتائجها الباهرة. تحول بينه وبين ذلك أزمات مختلفة، بَيدَ أنَّ التغيُّـرات التي تطرأ على العالم اليوم أَشدَّ وأسرعَ وتيرةً من أن تنتظر استيقاظه من غيبوبته، حيث يقطعُ التقدُّمُ العلميُّ والتقـنيُّ خلال عقْدٍ من الزمان ما كان يقطعُه خلال ألف عام قبل القرن العشرين أو أكثر. بل إنّه لا يزال يستورد غذاءَه وكساءَه ودواءَه من الغرب، فضلاً عن حاجته من الأجهزة والمعدَّات الحديثة التي أصبحت من الضروريَّات في كلِّ الأوساط.
ومن خلال هذا المقال سيتم طرح أهم التحديّات التي قد تواجه العالم الإسلامي في سبيل صياغة مستقبله وفق رؤية علميّة ومعرفيّة متوازنة لما يعيشه العالم اليوم، وحتّى يلتحق بالرّكب، خاصّة وأنّ سبيل اكتساب المعرفة مستقبلاً يكون عبر ثلاث طُرق، هي: التعليم والتعلّم والبحث العلمي والتطوّر التقني، كما سنقوم بطرح بعض التصوّرات والسبل لمواجهة تلك التحديّات، ويُمكن تقسيم هذه الأخيرة كالتّالي1:
تحدّيات العولمة: حيث أدّى ظهور العولمة إلى تغيّر كثير من المفاهيم في العلاقات الإنسانيّة باعتبارها مجموعة معاني وليس معنى واحد في مضمون انتقال التكنولوجيا والاقتصاد والمعارف والنّاس والقيم والأفكار بلا قيود عبر الحدود، وأصبح العالم كلٌّ لا يتجزّأ من حيث الترابط والتأثّر والاندماج ما يشكّل صعوبة في مجال معالجة المشكلات البحثيّة نتيجة التداخل بين مختلف المتغيّرات المحليّة والدوليّة.
والْمُلاحَظ أنَّ الأزمات في عصر العولَمة تنمو نُموًّا مُتسارعًا غيْرَ طبيعي، تتداخل فيه مؤثِّراتٌ متعدِّدة، بما لا يدَعُ الفرصة لأيِّ انتباه، خاصَّة عندما يسود جوٌّ من المشاحنة، وتبَلُّدِ الإحساس، والانتصار للمصلحة على حساب المبدأ، والعاجلِ على حساب الآجل، فإنْ وقَع ذلك سيكون مضاعفًا على الفِكر، الذي يُمثِّل حلقة الوصْل بين الواقع والمثال، وبين الممكن والْمَأمول.
تحدّيات تقنيّة وإعلاميّة: من حيث التّسارع المذهل للثّورة العلميّة والتقنيّة المعلوماتيّة وتطبيقها في البلدان الصّناعيّة، وأهم تداعيات هذه الثّورة حدوث تطوّرات هائلة في أدوار وسائط الإعلام حيثُ تلعب أجهزة الإعلام ووسائل الاتّصال دورًا أساسيًّا في نشر المعرفة وتوظيفها.
تحدّيات اجتماعيّة وثقافيّة: فمعدّلات النّمو في مجالات التنمية الاقتصاديّة والتجهيزات الأساسيّة أفرزت تأثيرات سلبيّة على جوانب ثقافيّة واجتماعيّة، وتنوعت وتعددت المشكلات في صور عديدة ومعقدة مع تشابك وتداخل بين المتغيّرات من حيث الأثر والتأثّر.
تحديّات معلوماتيّة: وتمثّل قدرة العقل البشري على الإبداع والاختراع وقلب موازين القوى ولم تعد الثروة هي ما تملكه الدّولة من ذهب أو مواد خام وطبيعيّة بقدر ما أصبحت تمثّل القدرة على الإبداع والتّنظيم والاختراع وامتلاك المعلومات، وأصبح الاعتماد الأكبر في العمليّة الإنتاجيّة والتوزيعيّة على العقل البشري والإلكترونيات الدقيقة والكيمياء الحيوية والذّكاء الإصطناعي، اتساع الفجوة بين العالم العربي والدول المتقدمة في الجانب العلمي ونوعيته ناهيك عن حجم الإنفاق، مما ينعكس على مختلف جوانب الحياة حيث لا يزال ضعيفا ودون المستوى المأمول والمقبول، في حين نجدُ أغلب الدول المتقدّمة كاليابان والولايات المتحدة وبريطانيا... تنفق ما لا يقل عن 20% من الدّخل القومي الإجمالي على البحوث والتطوير باعتبارها الإستثمار الأكبر للشّعوب المتقدّمة.
تحدّيات أخلاقيّة: تشكّل العوامل الأخلاقيّة هاجسًا كبيرًا للمعنيين به مع تطوّر التقنيّة ووسائل الاتّصال وصعوبات الحماية الفكريّة، ما جعلها عائقًا أمام الإبداع الفكري، وحجرة عثرة أمام استفادة البشر مما وصل إليه العقل البشري من ابتكارات في مختلف الميادين، وكذا ضياع الحق المالي، والأدبي للمؤلف، وبالتبعية الإحجام عن الإبداع الفكري.
تحديّات إداريّة وأكاديميّة: تتمثّل في قلة مراكز البحوث الخاصّة والعامّة إضافة إلى قلّة الإمكانيات الماديّة ومصادر المعرفة وقواعد البيانات والإصدارات الدوريّة وصعوبة الطّباعة والنّشر وقلّة اهتمام أعضاء هيئة التدريس بالبحث العلمي. زد على ذلك عدم إعتماد وإختيار التكنولوجيا المناسبة لها وضعف مقصد الحريّة الأكاديميّة، وعدم إعتماد برامج مبتكرة للبحث العلمي، ناهيك عن ضعف الإنتاجيّة العلميّة والمخصّصات الماليّة، وغياب القطاع الخاص عن المساهمة وغياب التسويق والتّعاون والتّنسيق وهجرة العقول أو إستثمارها2.
تحديّات تطبيقه في مجال التنمية: ويمكن حصرها في وجود خلل هيكلي في منظومة العلاقة بين البحث العلمي والقطاعات والإنتاجيّة في الدّول العربيّة ممّا ساعد في إيجاد فجوة تتّسعُ وتضيق بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى وترجع أسباب الاختلال إلى غياب المنهج الاستراتيجي مع غياب الاستراتيجيّات والخطط الإنمائيّة القائمة على العلم والبحث والتكنولوجيا إضافة إلى ضُعف استراتيجيات الترويج بسبب ضُعف الرّوابط بين المؤسسات البحثيّة والقطاعات الإنتاجيّة والقصور في ممارسة النشاطات الإبتكاريّة، وأيضًا غياب رؤية واضحة للتنمية وقصور الأهداف والإستراتيجيات العلميّة ووجود فجوة بين هيئات البحث والبيئة المحيطة وعدم ربط نتائج البحث بالتنمية.
إنّ تحليل هذه التحدّيات العلميّة وما تلاها من ظواهر معاصرة على مجال البحث والصّناعات المعرفيّة يُلزم ضرورة تشجيع إقامة مراكز البحوث، وتعزيز الشراكات البحثيّة ودعم عمليات التطوير للتكنولوجيا وصولاً إلى مرحلة الإستيعاب والإبداع وترجمة البحوث وتسويقها وتهيئة التشريعات.
زد على ذلك زيادة الإنفاق على الجانب العلمي وإنشاء مرصد عربي يتضمّن مصداقيّة البيانات حول البحث والنشر العلمي. وكرؤية جديدة لدور الجانب العلمي، من الضروري وضع إستراتيجيّة واضحة في مجال البحث ونقل التكنولوجيا وتوظيفها وإقامة شبكة معلومات متكاملة لمركز تعارف بحثي وتشجيع البحوث المشتركة بين الباحثين ومراكز البحث وإصدار الدوريات العلميّة المتخصّصة وربطه بخطط التنمية.
ومن الضروريّ أيضًا توطين ونقل التقنية الحديثة والمشاركة في تطويرها وربط البحث العلمي بأهداف الجامعة وخطط التنمية وإعداد كوادر البشريّة المتميّزة في إجراء البحوث الأصليّة والإرتقاء بمستوى الدراسات العليا في الجامعات، علمًا بأنَّ عددَ هذه الأخيرة في البلدان العربيَّة أصبح يقارب 200 جامعة3، خرَّجت ما يزيد على اثني عشر مليون خِرِّيج، منهم حوالي مليونَين من حَمَلة شهادة الدكتوراه و/أو المتخصِّصين في مختلف الفروع العلميَّة والهندسيَّة والتـقـنيَّة. ومع ذلك، لم يُقدِّم هذا الجيشُ العظيم من الخِرِّيجين إلى الإنسانيَّة أيَّ إنجاز علميّ أو فكريّ خارق، كما لم يـُـقـدِّم، على الصعيد الوطنّي، أيَّ عمل مُـتميّـِز يُحقـِق إنجازاتٍ عمليَّة يفيدُ منها العربُ على النطاق الإقليميّ أو القُطريّ4... ثمّ إنّ الواقع اليوم يفرضُ دعم القطاع الخاص لدعم البحث العلمي التطبيقي، وتحديد أولويات البحث عن المستوى الوطني بما يتفق مع متطلبات وضرورات التنمية وزيادة نسبة الإنفاق على الجانب العلمي وتقوية العلاقات بين الجامعات والمراكز البحثيّة.