الرسول صلى الله عليه وسلم خير من مشى على هذه الأرض، وهو سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين المبعوث رحمة للعالمين، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ومنذ بعثته صلى الله عليه وسلم التي مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرنا إلى اليوم أمته في ازدياد، والمُعتنقين للدين الذي جاء به في تكاثر ومن كل الأعراق والبلدان، وقد اعترف بنبوته ورسالته الكثير من العرب والعجم، وهذا جعل الحاقدين على الإسلام يتناولون شخصيته بالسخرية والإستهزاء، من خلال رسومات وتصْريحات تتطاول عليه صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة موجهة للمسلمين بالدرجة الأولى من خلال شخصه الكريم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده لا يكترث للإساءة التي تأتيه من الحاقدين والحاسدين والجهلة، فقد تعرض لأكثر من موقف إساءة وتعامل معها بحلم وأناة، وكيف لا وهو القائل عن نفسه "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقد كان له صلى الله عليه وسلم شأن عظيم في قبيلته وهو صغير، ولكن تغيرت المواقف هذه وتحولت إلى عداء شديد من قريش بعد الجهر بالدعوة، لأن الدعوة في البداية كانت سرية شملت آل البيت فقط من زوجه خديجة رضي الله عنها، وصديقه أبو بكر وابن عمه علي رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.
هذه أول فصول الإساءة.. مغادرة مكة مضطرا بعد الجهر بالدعوة
بعدما أمر الله عز وجل نبيه بالجهر بالدعوة، ونشر الدين الجديد في مكة أظهرت قريش عداء شديدا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورأت فيه العدو الأول وبدأت تجيش الجيوش ضده، وتكيد المكائد، والأمر الذي يجب الإشارة إليه هنا هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رغم أنه مؤيد من الله عز وجل، وكان يستطيع بدعوة أن يغير الأمور لصالحه، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن المعتاد، وعاش كبقية المحيطين به من إخوانه، يأكل ما يأكلون، ويعمل ما يعملون، وكان يعين زوجه ويلاعب ولده وأحفاده.
ومما يروى عنه أنه قبل أن يخرج من مكة مهاجرا إلى المدينة خطط للأمر بدقة وعناية، حتى يدحض مرامي أعداءه الذين كانوا يريدون قتله هو ومن معه، ومن جملة ما خطط له:
- اختار أبو بكر رضي الله عنه ليكون رفيقا له في هجرته هربا من كيد قريش.
- أمر ابن عمه علي كرم الله وجهه ورضي عنه بأن يأخذ مكانه وينام في فراشه، وطمأنه بأنه لن يحدث له شيئ، ولن يناله أحد بمكروه، أو يمسه بسوء.
- وهو في طريقه ليلا إلى غار حراء كانت جماعات المتربصين تملأ الطريق؛ فكان صلى الله عليه وسلم يحمل التراب ويذروه في أعينهم، فعميت أعينهم عن رؤيته. وهو في طريقه كان يردد قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [سورة يس الآية: 9].
- كما شملته رعاية الله طيلة تلك الليلة حيث سخر الله له العنكبوت لتُنسج خيوطها على مساحة فتحة غار حراء، والحَمامتين اللتين أقامت عشهما وفيه صغارهما عند فتحة الغار، وأقدام المتربصين تمر أمام الغار، وتقف أمامه وتستبعد وجود النبي داخله، وأبو بكر يهمس في أذن النبي ويقول له خائفا، لو تزل قدم أحدهم لرآنا فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا "لا تحزن إن الله معنا، فما بالك باثنين الله ثالثهما".
بهذه الخطة نجا النبي صلى الله عليه وسلم من كيد كبار قريش، وخرج من مكة قاصدا المدينة، ولكن حب النبي لمَكة وشعابها جعله يتحسر لفراقها، فلما اعتلى الجبل توجه نحوها وأفصح عن مكنون حبه لها بقوله إنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أنهم أخرجوني منك ما كنت لأخرج" وغادرها إلى المدينة فاستقبله أهلها بتِرحاب سجله التاريخ في صفحاته بكلمات من ذهب تبقى شاهدة عليهم إلى يوم القيامة.
الإساءة في هذا المشهد وبهذه القسوة لم تنل من النبي صلى الله عليه وسلم ولم تثنه عن نشر دعوته خارج مكة، وترك من تربصوا به لقتله يموتون بغيظهم، وهم في حيرة كيف فلت منهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد جيشوا له من الشباب والفرسان ما يكفي لفتح بلاد بأكملها.
من كان يحمل رسالة للعالمين تفوق في ثقلها الجبال، يعمل كل ما في وسعه لإيصال تلك الرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان له الشرف أن كلف بهذا الحمل من الله عز وجل، وهو من كفاه شر المستهزئين والمسيئين بقوله: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين) [سورة الحجر الآية: 94].
الإساءة اليوم وما تحمله من دلالات في ظل ضعف وتخلف المسلمين
من 2005 إلى اليوم شهدنا فصولا متتالية من الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، تبنتها صحف أوروبية وغربية حاقدة وعنصرية، تحمل من الكره للإسلام والمسلمين ما جعلها تصوب سهام غضبها وسخطها على سيد الخلق برسومات مسيئة، ففي 30 سبتمبر 2005 نشرت صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية 12 صورة كاريكاتورية مسيئة لرسولنا الكريم، وبعدها بأيام فقط قامت صحيفة نرويجية بإعادة نشر الصور، لتتبعها فيما بعد صحف ألمانية وفرنسية بنشر نفس الصور، وهذا أثار غضبا شعبيا جماهيريا كبيرا عَم كافة أقطار الدول الإسلامية.
وآخر فصل من مشاهد هذه الإساءة سجلناه مؤخرا فقط بحيث قامت صحيفة شارلي إبدو الفرنسية الساخرة بإعادة نشر الصورة المسيئة، وأعقب ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي خرج عن المعهود، وفاجئ الجميع بما قاله. لِتتوالى ردود الفعل الغاضبة على هذه الرسومات والتصريحات.
ومن أشهر ما قرأته عن مستشرقين شهدوا شهادة حق في رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشرققة الألمانية زيغريد هونكه تقول: "كان رسول الإسلام يعرف أن المرأة ستجد طريقها بجوار الرجل ذات يوم، لذا آثر أن تكون المرأة متدينة، لها لباس معين، حتى تقي نفسها شر النظرات وشر كشف العورات، ورجل بهذه العبقرية لا أستطيع أن أقول إلا أنه قدم للمجتمع أسمى آيات المثالية وأرفعها، وكان جديرا أن تظل الإنسانية مدينة لهذا الرجل الذي غيَّر مجرى التاريخ برسالته العظيمة".
الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم من الغربيين، وترك سنته وهجرانها من المسلمين اليوم، فرضت نوعا من العشوائية في ردود الأفعال وتقبلها من الجهتين، فالمسلم الضعيف لن ينتصر لرسوله حتى لو ادعى ذلك وبرره بتصرفات، والغربي الجاهل الحاقد المتعصب لن ينال من المسلم الحقيقي بنيله من رسولنا.
كمسلمين اليوم واجب علينا أن نتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتَمسكنا بسنته هو بمثابة ردٍ قوي على تلك الإساءات المتكررة، وما فائدة أن تخرج الملايين إلى الشوارع منددة بصور لا معنى لها، ومتنَاسية ومُتغافلة عن وصية تركها المصطفى صلى عليه وسلم للأمة كمنهاج حياة، ففي حجة الوداع خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس قائلا: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي".
لكن الذي حصل هجر الناس كتاب الله وسنة المصطفى، ونتيجة لذلك تفشت الكثير من المظاهر السلبية شملت الجميع، بداية من الفرد كأصغر وحدة في المجتمع، ثم الأسرة، ثم المجتمع، ووصولاً إلى الدولة، وبهذا عم التخلف أوطاننا ومجتمعاتنا.
مشاهد الإساءة للنبي في حياته كانت كثيرة، ومع ذلك وصلت رسالته منتهاها، وبلغت من الصيت ما لم تبلغه رسالة من قبل ومن بعد، ولكن اليوم في ظل ما تعيشه الأمة من هوان تكالب عليها العنصريون والمشككون في الإسلام، وجعلوا من رسولنا الشخصية الرمز في تاريخنا الماضي والحاضر مثار السخرية والاستهزاء، مما يوحي أن الحرب الآن كلها موجهة ضد الإسلام والمسلمين.