سؤال قديم أو لأقل لغز حيرني لسنواتٍ عديدة، }فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{ سورة الشورى 7 ما ذنب فريق السعير أليس لهم حرية الاختيار لماذا يعذبون؟ كيف لربٍ رحيم ودود يتصف بالعدل أن يعذب من اختار الكفر؟
الكافر اتخذ قرار الكفر فلم يعذب بحرية اختياره أليس هنالك ديمقراطية؟
رزقت الإلهام وأنا أقف في الطريق الغريب أن الإجابة مألوفة ومعروفة وهي الفطرة نعم الفطرة لكن الفارق يكمن كامتلاكك لدواء ما على رفٍ من الرفوف، وكونه علاجاً لداءٍ تبحث له عن دواء، هذا ما حصل معي بالضبط ويتجاهله مدَّعو الإلحاد، الفطرة التي تعد جزءا من كياننا إلا أن الكثير منا طمرها وتراكم الغبار حولها بوعي منا أو بغير وعي، قال الدكتور مصطفى محمود رحمه الله ”ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل ولقادتني الفطرة إلى الله ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة وصار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا.
الفطرة مثبتة علميا ودينيا وهنالك آيات في كتاب الله تشير أن الإنسان يولد موحدا لله تعالى وأدلة علمية تثبت ذلك أيضاً، ما يعني لا يوجد أية حجة للإنسان في الآخرة يجعله يختار سبيل الكفر بالله، فهو مؤمن بالأساس لكنه ينحرف عن الإيمان باختياره.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز }وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ[، سورة الأعراف آية 172عند قراءتي لهذه الآية كثيراً ما كنت أحاجج بلسان من اختار الكفر متى تم اللقاء وكيف كان؟!! أصل إلى طرق مسدودة وأتوقف عن التفكير حتى اهتديت إلى مقصد الآية هو الإشهاد بأن الله خلقنا وفطرنا على عبادته، يختلف المفسرون على حقيقة الإشهاد كيف كان وأين كان أسهب قليلا القرطبي في شرح إشهاد رب العباد على أنفسهم، في التطور الذي وصلنا إليه مقاربة تحاكي ما قد يغيب عن إدارك الإنسان في مرحلة من مراحل حياته وهي تصوير الجنين ببطن أمه، بعد مرور عشرات السنين تقول له أمه كنا نسمع صوت دقات قلبك ونرى تحركاتك داخل الرحم، أثناء سرد الحادثة لا يمكن له تخيلها لكنه يصدقها من منطلق البراهين التي يسمعها فهو لن يكذبها بالأخص عند تتعدد الروايات من مصادر مختلفة ويؤكدها بشكل واقعي التطور الطبي والتكنولوجي، لا تتصور حواسنا الحادثة ولكن نصدق الواقع كذلك الفطرة وكأنها متصلة بذلك المشهد ما إن نتفكر بالقرآن الكريم ونتتبع سنن الله في النفس البشرية والكون أجمع.
في الجانب العلمي أجرى عالم النفس الأمريكي جستون باريت دراسة على مجموعة أطفال أظهر فيها سلامة الفطرة من الشرك وقد ألف كتابا أسماه Born Believers يقول برايت في مقابلة له عند حديثه عن الدراسة التي أجراها على الأطفال: أنا لا أعني أن الأطفال يؤمنون بإلاهٍ واحد أو بإلاه النصارى هم لديهم التقبل المفاهيمي (يقصد الفطرة)[1] وكأنه يشير إلى حديث رسول صلى الله عليه وسلم:
ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمَجِسانِه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمْعاء، هل تحسون فيها من جدعاء.[2]
هنا تُصادق الدراسة التي أجراها عالم النفس الأمريكي مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأقل الدراسة تؤكد صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رد على منكري السنة النبوية.
ما المقصود بالفطرة؟
تعرف الفطرة لغويا الخِلقة التي يكون عليها كل موجود أول خَلْقِه[3] بينما اصطلاحا وردت في عدة معاني قيل أنها تعني التوحيد ومنهم من قال الاستعداد الطبيعي لتقبل الخالق، أو فريق ثالث عرف الفطرة أنها الإسلام.
إذن بَدَهياً تنشأ معنا الفطرة منذ ولادتنا ومنها جميع المواليد لديهم استعداد لقبول الإيمان بالله وحده ولكن بفعل التربية والبيئة تتشكل لدى الوليد معتقدات دينية يؤمن بها تختلف عن طفل وغيره، فالإنسان في مراحل حياته الاولى مسير في اعتقاده الديني وبعد بلوغه سن الإدراك والمعرفة يصبح مخيرا ومكلفا، يقول الله تعالى }وَقُل الحَقُّ من رَبِكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا{ سورة الكهف آية 29
في هذه الآية يخطئ مدعو الإلحاد تفسيرها فهم يُحَمِلوها على مبدأ الاختيار لا مبدأ التهديد والسبب اجتزاء الآية فهم يقفون عند قوله تعالى (ومن شاء فليكفر) ولو أتمها وتعمق بفهمها لاتضح المعنى بشكل كامل، فجزاء الكفر نار جهنم وهو تهديد لكل كافر وفي بداية الآية يأمرنا جل في علاه النطق بالحقيقة (وقل الحق من ربكم) والسؤال ما الحق الذي جاء من عند رب العالمين، إنه حق الربوبية أن تعبده ولا تشرك به شيئا وهذا بينك وبينه ثم أن تعمل صالحاً وهذه بينك وبين عباده والمحصلة } إِنَ اَلَذِيْنَ ءَامَنوا وَعَمِلُوا اَلْصَالِحَاتِ كَانَت لَهُمْ جَناتُ الفِردوسِ نُزُلا{ سورة الكهف آية 107
لفتة أخرى ما معنى الكفر في آية 29 أو ما دلالته في القرآن الكريم، معنى كلمة كفر في المعجم الوسيط ستر الشيء وتغطيته؛ هل للمصطلح إشارة على ستر وتغطية الفطرة؟! وقد عرف الكفر اصطلاحا أنه الجحود والإعراض لذا أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين لهداية الناس ونقل الوحي إليهم من الله }وَمَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا{ سورة الإسراء آية 15 ولكن ما حكم من لم تصله الرسالة السماوية أي لم تبلغه تعاليم الرسل ويقال عنهم أهل الفترة؟
ذكر أهل العلم العديد من التفاصيل بخصوص أهل الفترة أجملها ما ذكره ابن تيمية أن من لم تبلغه الرسالة ولم يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم سيمتحن يوم القيامة يبعث لهم رسول يدعوهم، وقول آخر لأبي حامد الغزالي قسم أهل الفترة صنفين الأول لم تبلغهم الرسالة ولا النبي صلى الله عليه وسلم والثاني بلغهم اسم محمد وصفته ولكن وصلهم الدين الإسلامي مشوهاً فهؤلاء تشملهم رحمة الله حسب قول الغزالي في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة. صـ 84 في حين أجمع الشيخان والسلف أيضا من بلغته الرسالة السماوية وعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أنكر وجحد فهو كافر ويستحق العذاب يوم القيامة، بغض النظر عن الديانة التي يؤمن بها سواء كانت مسيحية أو يهودية أو أي ديانة أخرى.
في ظل فجوة الفطرة والاختيار المغتر به أكرمنا الله بنعمة العقل كي نستخدمه من أجل غربلة وتصفية المعتقدات الدينية الباطلة أو الزائفة فمن لطائف آي الله }إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ{ سورة الشعراء آية 4 ما إن أسمعها حتى أتأكد لطف الله على عباده فهو لم يجبرنا على إثبات الحجة وإنما أتاح لعقلنا وحواسنا العنان للوصول إليه ”سبحانك ربي ما أعظمك،، لكن ما يحصل هو تدخل غير ملموس للنفس الأمارة بالسوء لدى فئة كثيرة من الناس تفقد العقل فاعليته في تصويب وجهة الإنسان وتجعله يعرض عن الصراط المستقيم وفئة أخرى مدركة للنفس الأمارة بالسوء لكنها اتبعت غرورها فهي التي قال عنها القرآن الكريم }وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ{ سورة الأعراف آية 176 وهذا الغرور للنفس أبعد إبليس من رحمة الله فهو مؤمن بالله لكنه كافر أي جاحد والأمر كذلك لمن يُعْرِض فهو كما إبليس مؤمنٌ بالفطرة وكافر أيضا أو يقال عنه جاحد.
أسمى غايات وجودنا الوصال مع الله إن لم نتدارك الإيمان بالفطرة سهّل القرآن الكريم المهمة علينا وفي حال هجر القرآن؛ طبيعة العقل تعمل عملها كشف الحقائق وهدايتنا إلى الصراط المستقيم إن التزمنا الحياد في البحث وكبتنا نوازع النفس الأمارة بالسوء، وعند إلتباس الأمور أو فاقت النفس الأمارة بالسوء مصحوبة بوساوس الشيطان يأتي دور الدعاة وأولو العلم.
ختاما لابد أن نحاسب في الآخرة على نعمة الإيمان بالله لكن هنالك ابتلاء النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان في الدنيا يجب علينا اجتيازه .. العقل هو الأداة لمعرفة الله لا الإعراض عن الله، مسلمنا وكافرنا تمثلنا سورة التكاثر غارقون في النعيم وأهمها نعمة الإيمان بالله يوجد من أدركها فأعطاها شكرها وهناك من طغى بعقله فجحد واستكبر ويتوسطهم من ورث الإيمان وأضحت العبادات عادات وآخرون تائهون عن حقيقة الإيمان وفي الآخرة يأتي السؤال (ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ)، هل نحن مستعدون للجواب؟