لا يملك أحدٌ حقّ الادّعاء أنه يفهم الأحاسيس التي تجتاح هؤلاء المنكوبين في تلك الحرب الطاحنة، إذْ لم يتبقّ لهم شيء قائم على حاله، ولا مطمعَ لهم في متاع هذه الحياة الدنيا وأيٍّ من زخرفها، فإنّ لحظة واحدة من الهول الذي يرونه ويحسّونه قد يؤدي ببعضنا إلى الذهول المجنون.
ونَعْلم جميعاً أن النفوس لا تحتمل ما يحتملونه، ولا أظنّهم يَعْلمون كيف يحتملون ذلك إلا ببركة ما افتتحوا به على عدوّهم في هذه الأرض الباذخةِ البركة!
ونعْلمُ أن سفينة الصبر التي تعوم في بحرٍ لُجِّيّ من غير أن يعرف الناسُ سرّ عومها تتشبّث بآخر خشبةٍ باردةٍ لا يمكنها أن تعوم عادةً.
وقد ضاقت كثيراً جدّاً حتى رأينا الشيب الأبيض يمسح الشعر الأسود في بناتنا وشبابنا، ويخدّد الوجوه التي يَنفخ فيها الهَبُوب كل ساعة.
ولو رأيتَ المكانَ من حولهم، لقد أحرق أولئك الأوغادُ الحياةَ التي في تلك الأمكنة، وأحلّوا دار البوار وشعائر الدمار في المدى الدائر من كل صوب.
ثمة شرارة في نفوسهم تنقدح قليلاً في ذروة الشعور بالانكسار تُشعل في قَشّ تلك النفوس المجروحة الفارغة اليابسة ناراً صغيرةً تتحدَّى فتعيد شحن نفوسهم بمِداد شيءٍ مفقودٍ منذ دهر يقال له العزّة، كأنها تقول لهم: لا يَرَيَنّ هذا العدوُّ منكم ضعفاً، فتحملهم أقدامُهم الهاوية، وتعيدهم إلى صف الواقفين قبلهم.
في تلك اللحظة لا يشعرون بما نسمّيه الفخر، بل يشعرون بإحساس عملاق يكبر في صدورهم ويمتلئ عليهم يهتف فيهم: وكأننا أيّام الله المذكورات، وسُننُه التي يبعث بها شرائع التجديد الكونيّ، ويفتح بها أبواب الاستبدال، وينفخ فيها حياة جديدة مختلفة !
يا أهَل الثغر في أكنافه: لقد تمثّل فيكم الصبر في أجلى صوره، وهو الثبات، فلم يرَ الله منكم عجزاً ولا نكثاً ولا سخطاً، فحُقّ لكم أن تكون أسطورة العصر بصمودكم ودفاعكم ودخولكم، وكأن الله لم يخلق مثلكم في هذا القرن!
لقد انغمستم في حالٍ تعاظمت فيه حسناتكم، وقد بلَغ من شدة عظمتها أنها أهّلتكم لغفران ذنوبكم، ما تقدّم منها وكان، وحتى ما تأخّر منها ولحِق، وكأنّ الله يعلم من حالكم أنّكم أولياؤه المختارون المصطفون، وحفظ لكم مكانتكم الشريفة، ومقامكم الكريم، وطهّر ما حولكم لتكونوا مثال أمّته.
لن تفيكم الكلمات والأفعال حقّكم أيها البدريّون من إخوان رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، ولن يَنال منكم غامزٌ، ألستُم قد شهدتم بدراً، فلعل اللَّه قد اطّلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم!