بتعبير«سبتينو موسكاتي -Septino Moscati» في مؤلفه (الحضارات السامية القديمة) يقول: "ليس من اليسير رسم صورة للحياة السياسية والاجتماعية لشعوب لم تترك لنا وثائق سوى نقوش نذرية وتذكارية" – يذكر ذلك في معرض كلامه عن عرب الجنوب كما يسميهم- لكن حسب وصفه، هذه الأخيرة –أي النقوش النذرية- كثيرة، إلى حد يكفي لاستخراج نتائج معينة في هذا الصدد تتسم بالحيطة والحذر، وبرأيي وإن كان ذلك يكفي كما يرى موسكاتي، وإن لم تتوفر لدينا الوثيقة المثبتة بتعبير«العروي» في (مفهوم التاريخ)، إلا أن هناك مصادر أخرى يمكننا من خلالها استقراء ذلك الماضي، والبحث في ماهية تلك الذهنية، والماضي في تعبير هذا الأخير – أي العروي- هو عالَم ذهني، يُستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة أو بعبارة أخرى :
"التاريخ هو الماضي الذي هو حاضر، وهل يكون غير حاضر (في الذهن، في اللغة، في الأشياء، في البُنى الاجتماعية، في الجغرافيا،... إلخ)؟ الماضي حاضر بالفعل، لكنه غير فاعل لأنه غير مُبين".
المبين واللامبين في ماضي اليمن:
سنحاول البحث في هذا المقال، وما سيليه، بحذر وحيطة عن المبين واللامبين من ذلك الماضي، الذي لازال فعله برأينا في المجتمع اليمني يعمل حتى اليوم. وللكلام عن ذلك التاريخ الذهني، بمعنى أدق (الذهنية المحركة) سيتوجب علينا النظر في(أنثروبولوجيا الثقافة)، بوصفها السمة التي تُميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى، بتعبير آخر لدى « بيرتي ج بيلتو- Pertti J Pelto» هي أنماط من السلوك المتعلم اجتماعياً، المستند إلى عملية رمزية، ذلك من ناحية، من ناحية أخرى، تشمل تلك النظرة أيضا، التراث (الثقافي الشفهي واللامادي)، والذي نعتبره في هذه المقالة المخزون والذاكرة التي تمثل حضور الماضي في خبايا الوعي اليمني، ونعتبر أيضا أن الثقافة اليمنية (ثقافة شفهية من الطراز الأول)، بالإضافة إلى النظر في البُنى والطبقات الاجتماعية كما أسلفنا، ونشأة الحياة السياسية والدينية.
البنية الاجتماعية: على غرار الجماعات الغير المستقرة والأقليات الصغيرة (البدو) التي نشأت في المناطق الشمالية من الجزيرة العربية، والتي ظلت تدور في فلك البادية، يحكم استقرارها الماء والكلأ، نشأت في الشق الجنوبي من جزيرة العرب ملامح حياة مستقرة، كونتها جملة من العوامل: التربة الخصبة، تنوع التضاريس والمناخ، الموقع الجغرافي -الذي بدوره كون موارد اقتصادية- تتمثل في: الموانئ، طرق القوافل التجارية، التي كانت تربط حضارات الصين والهند القديمة بحضارات بلاد الرافدين، وحضارات حوض الأبيض المتوسط والقرن الأفريقي.
وبذلك طوع الإنسان اليمني القديم كل هذه العوامل الطبيعية لصالحه، مما دفع حياته الاجتماعية نحو الاستقرار، الاستصلاح الزراعي وبناء المدرجات والصهاريج المائية، شق الطرق وقنوات الري والسدود، توفير الحماية للقوافل وركوب الأمواج وتعلم الملاحة، تربية الحيوانات الداجنة ورعايتها، حتى أن المستشرق الروسي «بيوتروفسكي- Piotrovsky» يبالغ في وصفه لتطور المجتمع اليمني بقوله: "أن أساس تطور حضارات اليمن هي تربية المواشي والزراعة".
وبتعبير الدكتور «جواد علي 1907-1987» إذ يقول:
"وأرض على هذا النحو والشاكلة – أي اليمن - لا بد وأن تؤثر على أجسام وعقول أصحابها، فقد جعلتهم من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان (العمل) والحيلة في كسب العيش، وفي إقامة المجتمعات وإنشاء الحضارات، فوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب الجزيرة العربية، وصيرتهم قوماً لا يرون الاشتغال بالحرف عيباً، ولا امتهان المهن العملية نقصاً."
-ثم يضيف- " ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته".
كيف طوع الانسان اليمني البيئة لصالحه:
برأيي، أوجد ذلك التطويع للطبيعة اليمنية، بيئة عمل تعاونية، يصعب على الفرد أن يقوم بها بمفرده، بمعنى، أن كل هذا الاستصلاح والتطويع بحاجة إلى وحدة بشرية – البيت- حسب النقوش اليمنية هذا من ناحية، من ناحية أخرى – ذلك الاستصلاح- بحاجة إلى مجموع الوحدات البشرية الأخرى – أي البيوت- وهذه الأخيرة بحاجة إلى سلطة تنظيمية، تنظم العمل الجماعي اليومي، وبهذا نشأت ملامح نظم تقوم على أساس الروابط الاقتصادية، أو بالأصح (روابط أساسها العمل) حسب تعبير الألماني « رودو كناكيس- Rhodocanakis» في كتابه (الحياة العامة لعرب الجنوب).
أما العالم الألماني « أدولف جرهمان-Grohmann » في مؤلفه (أوراق البردى العربية) فيرى أن الجنوب شعب لم تكن تربطه رابطة الدم كما هو عند البدو (عرب الشمال)، وإنما تجمعه رابطة أشمل تشترك فيها عناصر شتى: كاستيطان مكان واحد، والعلاقات الاقتصادية، علاقات العمل والضرائب، بالإضافة إلى العبادات الطوطمية.
والحقيقة أن هناك قرائن لا تزال موجودة حتى اليوم في مجتمع القبيلة في اليمن، تدل على أن الإنتساب لقبيلة ما، قد يشكله المكان، أو الحليف القوي بالنسبة للضعيف، أو قد يشكله تحالف لمجموع هذه (البيوت) لتأمين المعيشة، وصد الغارات والهجمات، ومع مرور الوقت يشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة، يجمع بينهم نسب واحد.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، سآخذ القبيلة التي أنتسب إليها (قبيلة الملاجم)، وهي قبيلة برأيي مستحدثة، ربما كانت يوما ما جزءً من قبيلة أكبر منها، أو أن المنتسبين تسموا بأحد البيوت القوية، والساكنة قبلهم في تلك المنطقة، وأنا أعدد (البيوتات) التي تتكون منها هذه القبيلة، وجدت أنه لا يجمعها رابط الدم كما يعتقد أهلها، فمجموع قرى تحمل أنساب متفجرة صغيرة في داخلها، وهكذا مع بقية القرى، وقد يكون هذا الإنتساب الصغير أحياناً خليط يجمعه رابط الدم (التزاوج)، والعلاقات التي أسميناها بالعمل، تحولت فيما بعد تلك الروابط كما لو أنها تشكل أسرة واحدة، وهذا القول نستطيع أن نعممه مع بقية القبائل اليمنية.
فالبنية واحدة بالنسبة للمجتمع القبلي في اليمن، وفي ذلك يذكر جواد علي في (المفصل الجزء الأول) بقوله:
"النسب ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، وإنما هو كناية عن (حلف) يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي".
وفي هذا السياق يرى « كولدتزيهر» أن هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين أو وعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة كالحماية وتأمين العيش.
لفظ القبيلة في النقوش اليمنية: يذكر الدكتور جواد أن لفظ (قبيلة) لم يظهر في النقوش اليمنية القديمة، بل وجد مسمى (شعبم) أي شعب، وهو لا يقابل لفظ القبيلة لدى عرب الشمال – حيث أن لفظ قبيلة لدى البدو قائم على رابطة الدم، في إشارة إلى أن هذا (الشعب) لدى عرب الجنوب، هو مجموعة من التحالفات الصغيرة التي جمعتها المصالح المشتركة، وفي فهم هذا المسمى يشير الدكتور «نيكولاس رودو كناكيس-Nicolas Rodo» أن اللفظة تستخدم للتعبير عن نظام خاص، هذا النظام يقوم على أساس الروابط الاقتصادية، أو روابط العمل، حيث أن الحالة الاقتصادية هي التي تقرر وظيفة الجماعة، حتى مسمى قبيلة برأي المؤرخ اليمني "محمد الحداد" مؤيدا نيكلوس، هي تعبر عن نظام خاص في العصور اليمنية القديمة، قائم على أساس المهنة والوظيفة والعلاقات الاقتصادية.
طبيعة علاقات التنظيم الاجتماعي اليمني:
يحيلنا العرض السابق، إلى أن طبيعة علاقات التنظيم الاجتماعي اليمني في بادئ الأمر في مجتمع (القرية)، كان قائما على أساس العمل، بدورها شكلت مجموعة القرى تحالفات صغيرة، أفرزت هذه الأخيرة تنظيما اجتماعيا أعلى، ما يمكن أن نسميه كما جاء في نقش النصر(RES 3945) شعب، النقش الذي يعود إلى القرن (7 ق.م).
وفي هذا السياق تقول البروفسورة اليمنية « أسمهان الجرو» في مؤلفها (دراسات في تاريخ حضارة اليمن القديمة): " يتشكل هذا التنظيم عادة إما بفعل توحد عدد من تلك التجمعات (البيت)، أو نتيجة لاتحاد مجموعة قبائل مكونة شعوباً، (اتحاد قبلي) كما في "النقش" عبارة الشعب (سمعي)، مع وجود الشعب (حاشد)، وهذه حاشد الأخيرة كما هو معروف أحد أثلاث (سمعي)، والشعب قد يكون سكان قرية، أو قبيلة، أو فئة من الفئات في المجتمع كأصحاب حرفة واحدة كما جاء في نقش (عنان22) فالرابطة التي تربط الشعب هي رابطة العمل والمصالح الاقتصادية المشتركة، أي رابطة مواطنة، تجمع شمل المواطن روحيا ومادياً. "
وتضيف "أنه عند البروز لشعب ما وسيطرته على بقية الشعوب، فإن الأمر يعود إلى الأسباب الاقتصادية التي بدورها شكلت القوة العسكرية، وهذا بدوره أيضا يؤدي إلى نشوء تجمع اجتماعي جديد يظهر فيه الملك، وألقاب الملك التابعين."
وقد لاحظنا ذلك كما ورد في نقش النصر بمعبد المقه بصرواح مأرب، حينما وحد الملك (كرب إيل وتر) مجموعة من الشعوب، تحت سلطة شعب (سبأ) الحاكم، وهذا الأخير – شعب سبأ- أيضا هو مجموعة من التحالفات الصغيرة القائمة على العمل والمنافع المشتركة.
و يعتبر النقش من أطول وأهم النقوش السبئية، كُتب في فترة شهدت فيها مملكة سبأ تحولا واسعا واستكمالاً للسياسات السابقة ورغبة في مزيد من الهيمنة والرفعة والتحول من نظام القرية والقبيلة إلى نظام المملكة، وهذا الأخير –النظام السياسي- سيكون محور كلامنا في مقالات لاحقة.