إن محاولة استقراء التاريخ والبحث في جنباته -مما لا شك فيه- من الاهتمامات النبيلة التي تُنبئ على ذلك الفضول والرغبة الفطرية في الوقوف على لغز الحقيقة التي تكتنف طيات التراث الإنساني وتفاصيله. فكثيرًا ما تكون هذه المحاولة لمعالجة وتحري تاريخ أمة أو حضارة ما أو علم من الأعلام، خصوصًا ما سطّره التاريخ بالخط العريض، بهدف الاعتبار والاتّعاظ مع التّفكر من تجارب من سلف. إلا أن هذا الهدف -بالرغم من أهميته- فإنه حاد عن أصله بفعل المتطلعين وفهمهم لهذا الهدف بقصد أو بغير قصد.
فما الذي جعله يحيد عن أصله؟ وما الخلل؟ ربما الإجابة قد تكمن في القدرة على استيعاب تلك "الآيتين" اللتين أشار إليهما النص القرآني، وكيفية معالجتهما لعلاقة التاريخ بالإنسان خصوصًا المسلم.
- الآية الأولى: قوله عز وجل: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" الأنعام-11، وأيضا قوله تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" العنكبوت-20. فعلى اختلاف التفسيرات والشروحات لهذه الآيات إلا أن دعوة "سيروا" و"فانظروا" فيهما من البلاغ والحث ما يكفي من أجل الاطّلاع على أخبار الأمم السالفة بغية الاعتبار والتعلم والعظة من تجاربهم.
- الآية الثانية: قوله عز وجل: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" البقرة-141. أما عن دلالتها، فقد تفهم من خلال السياق الذي أتت فيه كونها وردت بعد قصص الأنبياء وبعض أخبار أممهم، ثم الآية التي تلتها مباشرة بفاتحتها: "تلك أمة قد خلت" أي مضت. فبالرغم من تعدد التفسيرات، إلا أن هناك اتفاقًا حاصلًا، والذي يُدرك من خلاله أن أعمال الأمم السالفة وأفعالهم خيًرا أو شرًا، فهي في كلتا الحالتين تعود لهم أو عليهم، وهو لا يضيف لأهل الحاضر شيئًا.
وللإشارة هنا، فإن التعامل مع أي تاريخ مهما كان، وكيفما كان، لابد أن يكون تناوله في سياقه -الزمكاني- عوض إخراجه أو فصله عنه، والتعاطي معه بتلك النِدّيَة عبر اللجوء إلى حوار "الحاضر مع الماضي"، وكذا تبني أحكام وتأويلات معينة وتسليطها -مثلا- على أعلام بتحميلهم الذنب والمسؤولية لأحداث تاريخية بعينها.
أيضا تبني خطاب التمني تحت "لو وأخواتها" وتبعاته من لوم وعتاب؛ فلو فعل أو حصل كذا لكان كذا أو خيًرا من كذا، هي جلُّها لا تفضي إلى شيء، لأنه في الأخير سنن التاريخ جرت على ماهي عليه في مضيّها كيفما كانت وكما قدر لها أن تسري وتمضي.
ومنه، فلو تم الأخذ بآية دون أخرى من باب الاستقراء والبحث، فإن ذلك فيه نوع من الظلم والتعدّي على التاريخ، فلو أخذنا بالأولى دون الثانية، فكأنما شخص ما دخل غرفة وأغلق على نفسه ثم رمى المفتاح. فأن تضع نفسك في قلب حدث أو حقبة تاريخية، وذلك تحت دعوى استطلاع الأخبار وتقصي الآثار، ثم تطلق عنان عواطفك ومشاعرك وانفعالاتك فجأة، فتشرع على إثرها في تبني وبناء أحكام ومواقف وخلفيات سلبية -أغلبها بفعل تبعات وترسبات الحاضر وويلاته- على حدث أو علم أو معلم تاريخي تحت لواء اللَّوم والعتاب، وحتى الطعن والإنكار عن إدراك أو عن غير إدراك، وذلك مالا يليق. فموقف كهذا من التاريخ لا يغير أي شيء مما حدث فهو بذلك يحمّله أكثر مما يلزم، كما أنه لا يضيف للقضية قيد أنملة ما لم يفسد فيها روح البحث عن الحقيقة.
أخيًرا، فإن قراءة التاريخ -بحثًا واستقراءً- من أجل الوصول إلى الحقيقة التي لطالما خبأتها الأجيال الماضية لأجيال الحاضر والمستقبل، تستوجب روحًا متطلعة ونفسًا تضع الأمور في نصابها، وتبذل الأسباب الحقَّة لبلوغ مرام الاعتبار والاتعاظ والتفكر. كما أن هذه الأخيرة تستدعي إدراكًا وفهمًا جيدًا لأبجديات فلسفة التاريخ وما تحمله من وقائع وأحداث، وأن حقيقة سريان حكم الماضي عليها لا شكّ فيه، وأي خوض فيها بداعي الجلْد والتمني والعتاب غيرها، هي كمن يحاول ضرب الماء بالعصا. وعليه، فالتاريخ وجهان لعملة واحدة، وجه نقش على ظهره "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا"، وظهرها الآخر"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ".