إن نسيج المجتمعات معقد غاية التعقيد؛ فالعناصر المكونة للعقيدة الاجتماعية وتجسيداتها المختلفة تفوق الحصر. وتلك العناصر لا تشتغل على منوال واحد، وإنما تتوزعها قوتان -كما في الطبيعة- إحداهما جاذبة والثانية نابذة؛ فالحياة الاجتماعية يسودها التوافق، كما يسودها التنافس. وكما أن أفراد المجتمع يرضخون للأعراف الاجتماعية في الغالب إلا أن ذلك لا يمنعهم من أن يجعلوا وعيهم ينفذ إلى الواقع الاجتماعي بصورة فردية. وهذا النفاذ، في الحقيقة، هو المصدر الأساسي لكل تنوع وكل تغير.
فالمخترعون والمفكرون والمنظرون الأفذاذ يرون ما لا يراه الناس؛ ومن ثم فإنهم يحاولون نقل رؤاهم إلى الحس الاجتماعي العام، فيبذرون في المجتمع بذلك بذور التغيير. كما أن انتشار الأفكار وتراكم الخبرات، وما يحدثه التقدم في بعض المجالات الاجتماعية،كالاقتصاد مثلا، كل ذلك يجعل عمليات تغيير المجتمع وانتقاله من طور إلى طور أمرا لا بد منه.
وإن كثيرا من العادات والأعراف الاجتماعية تأبى بطبيعتها النقاش، وتستمد قوتها واستمرارها من أنها تحيا خارج منطقة الوعي المجتمعي، وكان بالإمكان أن يستمر بعضها قرونا دون تغيير يذكر. لكن منطقة الوعي لا تظل على حالة واحدة؛ فهي تتمدد في أحيان كثيرة لتدخل في دوائرها وتحت هيمنتها أشياء كثيرة؛ مما يجعلها موضع نقد.
ثم إن عصرنا الحاضر شيء مختلف تماما عما سبقه من عصور؛ حيث غيرت المذاهب الفلسفية والمنطقية والنفعية والواقعية والعدمية الكثير من الموازين الاجتماعية، ودفعت الناس إلى مناقشة كل شيء، ومحاولة جعل الحياة أكثر عملية وأكثر اقتصادا.
ومن ثم فإن كلمة (تقاليد) بدأت تفقد رنينها القديم، بل صارت تعني نوعا من إعطاء الأهمية الزائدة لسلوكات وعادات لا تستحقها. ولم تكن جميع عمليات مراجعة الحياة الاجتماعية شيئا يدعو إلى الأسف؛ بل إن منها ما كنا بحاجة ماسة إلى إعمال غربال الشرع والمصالح العليا فيه. و
ذلك لأن من عادة الناس الميل إلى جعل المنهج الرباني جزءا من ثقافتهم، وإلباس کثیر من شعائره وعباداته ثياب التقاليد والعادات المتوارثة، وفي هذا خطر عظيم على جوهر التدين؛ حيث إن الوضعية الصحيحة للمنهج الرباني أن يكون مهيمنًا على الثقافة وموجها لها لا جزءا منها .
ومن ثم فإننا نأمل أن تتمحور عملیات مناقشة ما لدينا من تقاليد وعادات حول مدى انسجامها مع مبادئنا أولا، ثم حول مدى تحقيقها للمصالح الكبرى للأمة ثانية.
إذا كان تغير المجتمعات، كما الأشياء، سنة من سنن الله في الخليقة؛ فإن ذلك التغير قد ينحو منحى السرعة والانعطاف الحاد؛ وهذا يسمى عادة بالتغير الثوري. وقد أثبتت التجارب العالمية أن التغيرات السريعة والتحولات الجذرية العنيفة قليلة الفائدة كثيرة الضرر؛ حيث إن قدرة الأنظمة الاجتماعية على تقبل الجديد محدودة؛ فإذا ما اتخذ التغير شکل دفق عنيف متتابع؛ فإن ذلك يؤدي إلى تفسخ الأنظمة وإظهار عجزها عن هضم التغيرات الجديدة، وأقلمتها مع أطرها ومرجعياتها العليا؛ مما يعني في النهاية نوعا من الاختلال في التوازنات العميقة للمجتمع. وذلك لا يمر دون مقاومة وردود أفعال طائشة، تؤدي في النهاية إلى انقسام الوعي الاجتماعي على نفسه وعجز معايير الخطأ والصواب عن روز الحراك الاجتماعي وتوجيهه.
إنّ التغير الاجتماعي شيء محتوم، وإنّ علينا أن نرشده بدل أن نقاومه. وترشيده يكون من خلال المراقبة الدقيقة؛ فنضع الخطوط الحمراء في وجه كل تغير يمس الأصول، والأهداف الكبرى، والمبادئ العليا للأمة، ونرحب؛ بل نبدع الوسائل والطرق والآليات التي تساعدنا على تنشيط وظائف نظمنا الاجتماعية وتوظيف كل طاقاتنا وإمكاناتنا على طريق تحقیق آمالنا وأهدافنا السامية في هذه الحياة.
إن الإسلام بإغفاله الكثير من الطرق والأطر والأدوات التي تنظم شئون حياتنا أتاح لنا إمكانات واسعة من التجديد والتغيير واجتراح المجهول. وإن واجبنا أن نملك الفاعلية اللازمة للاستفادة من تلك الإمكانات وتجسيدها في ترقية وإصلاح شأننا الاجتماعي العام.
المجتمع المأمول
ذكرنا أن المجتمع مكون من عدد من الوحدات أو المجموعات، وأن هناك وشائج ومعايير محددة، تؤدي في مجموعها إلى تكوين إطار شامل نسميه مجتمعة.
وتحدد ثقافة كل مجتمع أهدافه وطرائق تعامله مع بعضه بعضا، وأشكال تضامنه وتواصله الأخلاقي والروحي. ونظرة لتعقد العوامل والمكونات التي تحدد الملامح النهائية لكل مجتمع؛ فإن خبرة البشر في أشكال سيرورة المجتمعات والمآلات التي سيفضي إليها تحركها الدائب لا زالت في نظرنا ۔ قاصرة.
كما أن الدراسات الاجتماعية الحديثة ستظل محصلاتها محدودة ما دامت بعيدة عن الهداية الربانية، وما دامت محرومة من إطار مرجعي وأرضية أولية تجعل انطلاقها في الاتجاه الصحيح.
وبما أن التقدم والتأخر المادي شيء نسبي؛ فإن الذي يحدد معاییره الدول والشعوب التي تقود التقدم. فعلى سبيل المثال يظل شكل من أشكال الأقلام جديدة ما لم يأت من ينتج شكلا مختلفا يجعل من الشكل السابق شيئا قديمة. والشكل الجديد بمواصفاته الخاصة المتميزة يوجد مقاییس جديدة للجودة، كما يعطي معنى التقدم بعدا جديدة.
أما التقدم على الصعيد الروحي والأخلاقي؛ فنحن نعتقد أن الثقافة هي التي تتولى تحديد أبعاده ودرجاته ومعاييره. ومن هنا فإن مواصفات المجتمع الذي نأمل أن تشیده أمة الإسلام لا يمكن أن تكون مستمدة إلا من ثقافتنا وقيمنا الخاصة بنا. ولا يعني هذا أننا لا نعبأ بالمعايير العالمية، ولكن يعني أن لنا تقويمنا الخاص لكل ما نراه في المجتمعات الأخرى مع تمكننا من ترشیده ونقده.