في ظل الواقع اليائس الذي يلتهم كل محاولة لزرع الأمل في قلوب المؤمنين، بات مستقبل الإسلام مجهولا عند الكثيرين، فالإيمان بمستقبل إسلامي قوي ضعُف في قلوب البعض، خاصة ممن مستهم ضائقة الحروب والإبادات والتهجير، ممن ذاقوا بأس الغرب الحاقد، هذا الأخير الذي عمل بكل وسائله على تدمير صورة الإسلام الصحيح في أذهان البشر.
وعلى الرغم من كل ذلك كان للإسلام جولات نصر وتبيان، كان لها أثر في ثبات المؤمنين حقا، فرغم ما توصل له الغرب من تطور وتمدن إلا أن مبادئ الإسلام لا زالت تفرض صحتها وقوة تأثيرها في الواقع، بعكس الاجتهادات البشرية البالية. ولعل ما تنقله لنا إجابات الدكاترة على أسئلتنا الملحة بهذا الصدد كافية شافية وباعثة للأمل في الحلقة الثالثة والعشرين من بيان للناس.
كيف نحافظ على مستقبل الإسلام والأسرة غير موجودة حتى نبني مستقبلًا جيدًا؟
العلامة. محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: الإسلام دين الله وهو حاميه ويغار عليه، ونحن مستخدمون فقط لذلك، بل امتن الله عليه وشرفه برعاية الإسلام وخدمته، ومن لم يشأ الله به ذلك سيصرفه عنه، (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا).
وقد جعل الله مستقبل هذا الدين مطلقًا، ولذلك فإن الله قال (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنً).
هذا الإسلام الذي شرعه الله هو مصلحة البشرية في كل الجوانب مجال السياسة مجال الاقتصاد مجال العلم، آتى الله بالحريات له، ومنع الإكراه، في الجانب الاقتصادي قد حرم الربا والاستغلال والاحتكار والغش.
وفي الجانب الاجتماعي هو الذي شرع الأسرة وحرم الجندرة، ففي الجندرة عرفوا أن من ضرورات الإنسان أن المرأة تريد أن تكون أمًا، وأن الفردين إذا عاشا زمنًا طويلًا تمالا، كل واحد سيصبح يمل الآخر، فأرادوا أن يكون لهم إنجاب، فما وجدوه، فلا يمكن إنجاب امرأة من امرأة ولا رجل من رجل، ليعودان بأسرة غير صحيحة ولا قويمة، لأنها مختلطة لا يدرى من هذا الولد، والمرأة أيتهما زوجة هذا الرجل، فتكون الأسرة غير الصحيحة، وهذا ما لجأ إليه العالم الآن، لأن المرأة إذا عاشت زمنًا في بيتٍ فإن من ضروراتها أن يكون لها ولدًا وأن تكون أمًا.
هل هناك مبشرات للإسلام؟
نعم وهي كثيرة جدًا، فمنها الشرعية ومنها الواقعية!
ففي الواقعية، الآن يدخلون الناس إلى دين الله أفواجًا، وينتشر التدين في كل بلد، الآن أحسن من مستواه فيما مضى، أنا حدثني أحد القضاة الكبار في المملكة العربية السعودية قال لي في ليلة السابع والعشرين من رمضان ونحن ذاهبان إلى الحرم لأداء الصلاة الثانية في الليل؛ فما وجدنا مكانًا يمكن أن نصل إليه للحرم، الدنيا كلها مليئة بالناس، قال لي قبل 46 سنة جئت كهذه الليلة إلى الحرم ودخلتُ إلى الكعبة وما يصلي هذه الصلاة إلا عبدالله الخليفي يصلي وراءه ثلاث صفوف والناس منصرفون عنه.
فذهب الناس إلى دين الله ورجعوا، انظر إلى الشباب الآن كيف التزامهم وكيف تحتويهم شؤون الدين، انظر إلى النساء وعودتهنّ إلى الحجاب والأخلاق، انظر إلى انتشار الجامعات والمؤسسات العلمية، وهي ليست غثاءً ففيها الكثير من الخير وبالأخص العمل الجماعي.
قبل إنشاء الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كان العلماء متفرقون ومتناثرون ما لهم شيء ينظمهم، جاء الإتحاد وهو لا يدعي أنه أحاط بالعلماء ولا يمثلهم جميعًا لكن على الأقل وضع لبنةً ولذلك قام بعده عدد من الاتحادات اليوم للأعمال الجماعية.
كيف سنصنع المستقبل والوضع لا يبشر بالخير كثيرًا؟
د. علي القرة ياغي: الواقع الحالي يبشر بالخير وأن النصوص الشرعية القاطعة تدل بأن هذا المستقبل لهذا الدين (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـلِحُونَ)، واليوم فعلًا يصل الإسلام إلى الجميع.
أحد العلماء في الأنترنت قال: (في كل أقل من نصف دقيقة يكون هناك أذان)، ولو ربطنا الكرة الأرضية بسماعة سنسمع أن الآذان يتكرر في كل العالم بدون توقف، وهذا لم يكن موجودًا قبل مائة سنة أو خمسين سنة، الإسلام بخير (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
لذلك أن المستقبل لهذا الدين ولا شك في ذلك، الله أمرنا بصنع المستقبل وهو سيساعدنا ويهدينا ويرشدنا، وهذا من أهم السنن.
قضية المستقبل هي قضية العلم بكل أنواعه، وتحويل أعمال المسلمين من فوضى -كما هو الحال في بعض الأحيان- إلى استراتيجية وتنظيم هذه الأعمال، وفي تكوين المستقبل والحضارة.
ولا شك أن أسباب الحضارات وسنن الحضارات كما يقول ابن خلدون: (الإنتاج يكون عن طريق الأخذ بالأسباب)، لذلك نوجه أبنائنا وإخواننا داخل العالم الإسلامي وخارج العالم الإسلامي إلى الأخذ بهذه السنن ومن أهمها، الوصول إلى أحسن الأعمال والإبداع فيها.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، هذه الآية في بيان الإمتحان بيننا نحن وبين بقية الأمم أينا أحسن عملا، "وأحسن عملًا" نكرة كما يقول الثعالبي، أي لا حدود لها، أن يكون أحسن عمل هذه الأمة في التجارة والصناعة والسياحة في كل شيء أحسن من أمس وغدها يكون أفضل من اليوم، وهذه العقلية الاستراتيجية الديناميكية المتجددة هي التي تصنع لنا الحضارة وتساعد على تحقيق الأمل والحلم.
كيف نراهن على شبابنا لصناعة الإسلام، ومستواهم ليس هو المطلوب، بل كثير منهم انضموا إلى حضارات أخرى؟
د. عبد المجيد النجار: مستقبل الإسلام ليس موقوف على الشباب بل موقوف على البشرية بأكملها، الإسلام هو إسلام الإنسان، إسلام البشرية وأصوله محفوظة بحفظ الله، ولكن عن طريق أسباب ووسائل، وذلك من خلال أمرين أساسيين يتجهان إلى الشباب وإلى الإنسان بصفة عامة:
- هو ما نقوم به من الاجتهاد والتجديد ومن إيجاد حلول من الصيدلية الإسلامية والمبادئ الإسلامية لما يطرأ من مشاكل من حياة البشرية، ونبدي الإسلام للناس في القضايا التي تهمهم كقضايا الحرية والسلم والأمن، الإسلام نظيره في هذه المظاهر.
- كيف نخاطب الناس بهذه القيم والحلول التي اجتهدنا في إيجادها.
العالم اليوم مهيأ ثقافيًا على سياسية النفع والمنفعة، لا تتم كثيرًا بالفلسفة النظرية والمنطق العقلي المجرد، البشرية تنتظر حلولًا لمشاكلها، العالم يعج بالمشاكل؛ مشاكل الأسرة والبيئة والقحط، ومشاكل اختلال المشاكل بين المادة والروح، تنتظر البشرية حلولًا، فكيف نخاطبها بهذه الحلول؟
نخاطبها بمبدأ النفع، ينفع الناس.. والإسلام ما جاء إلا لنفع الناس، وهذا أصيل في القرآن الكريم، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) انظر كيف هذا يؤدي إلى مصلحة عملية، الظروف كلها مهيأة للعالم الاسلامي، فالإسلام فيه الحل والاجتهاد والتجديد وأن البشرية مهيأة لهذه الحلول، وهي تستشري انقاذًا، والكرة في ملعبنا وما علينا إلا أن ننظر في أمورنا من هذه الناحية.
نقول دائمًا تاريخ الإسلام كان جيدا، واليوم نقول أن الاسلام ليس بخير، كيف نحل هذه الازدواجية في التفكير؟
د. علي الصلابي: نضرب مثالا في منطقة شمال إفريقيا، بعد سقوط دولة الموحدين، قابلت الأمة للاستعمار وكانت جاهزة، نذهب للمغرب الأقصى كان تحت الاحتلال الإسباني والفرنسي مسلوب الإرادة السياسية والاقتصادية والثقافية.
وجاءت حركة المقاومة والملوك لم يستطيعوا أن يقاوموا في فترات معينة، وقد سلبت إرادتهم، جاء عبد الكريم الخطابي ومهد لحركة ثورية وجاء بعد ذلك محمد الخامس بحركة وطنية، وانظر إلى فترة الاحتلال الاسباني والفرنسي للمغرب الأقصى والآن على المستوى السياسي وعلى المستوى الديني والأخلاقي، وعلى تدين الناس.
نأتي للجزائر، فلها ملحمة هائلة ضخمة (إعمار شمولي)، استهدف الهوية والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والشعب الجزائري قاوم، والمراحل التي مر بها في عهد الأمير عبد القادر وفي عهد عبد الحميد بن باديس أثناء جبهة التحرير، وانظر للجزائر الآن، هي متقدمة نحو حضور حضاري.
نأتي إلى ليبيا كيف أن الاحتلال الإيطالي قتل وذبح الليبيين وهتك الأعراض، فالوضع الآن أصبح أفضل بكثير، الآن الأمة تقاوم وتناضل وتطالب بحقوقها وتضحي، الدورات الحضارية في قابلية للاستئناف.
الآن الأمة تقاوم الأنظمة الاستبدادية، الآن بدأت بعض الحكومات الوطنية التي تكون باختيار الناس والشعوب، الأمة رجعت إلى هويتها وحريتها وعقيدتها وكرامتها وإنسانيتها، نحن في طور الشهود الحضاري مع الابتلاء.
فلا يمكن أن نتطور حضاريًا إلا بابتلاء، انظر للبلاء الذي مر بسيدنا نوح في نهاية الحضارة الإنسانية الأولى، ثم أنشأ الحضارة الانسانية الثانية (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ)، فالشهود الحضاري قائم وآتٍ ولا شك فيه، وهو لمصلحة الإنسانية المعذبة والتائهة والضائعة.
ما هي الآلية لصناعة المستقبل، هل من خلال الفتوى نستطيع أن نطور آلية ديناميكية لصناعة المستقبل وخاصة بين فئة الشباب؟
د. نور الدين الخادمي: إذا يوجد فتوى لصناعة المستقبل، فهي فتوى عامة وكلية يشترك فيها جميع المعنيين بالمستقبل الإسلامي والعربي من العلماء والمفكرين ومن الدولة الحديثة الوطنية والشعبية والإنسانية، من كل ما يتعلق بهؤلاء الشركاء.
ونحن نعتبر أن المرحلة التي نعيشها الآن هي مرحلة ثورات واصلاحات وهي ثمرة لمرحلة سابقة منذ 30 سنة، قيل بأن المستقبل فيه مشكلات ولكن هذا المستقبل من ذلك الوقت آل إلى ثورات وإلى زيادة الوعي بالحقوق والحريات والواجبات، هذا دليل إضافي على أن المستقبل القريب والبعيد إنما هو بمقدمات الآن.
فمقدمات الآن أولًا احساس بأزمة شديدة ولكن بوعيٍ يتعاظم مع هذه الأزمة وبواقع من الحريات يتعاظم يومًا بعد يوم ومرحلة الكشف الآن (ليميز الله الخبيث من الطيب).
فنحن اليوم نعيش مرحلة الكشف الحضاري، أي معرفة من هم الذين يمثلون مشروع صناعة المستقبل ومن هم الذين يرتدون إلى الوراء فيما يعرف بالثورات المضادة والعمليات الانقلابية على خيارات الشعوب.
لكن مستقبل الأمة لا بد له من سنن ووعي وفعل وهذا يعبر عنه بمقتضى المستقبل الإسلامي، الذي يتعلق بالتخطيط الاستراتيجي وتعزيز القدرات الإسلامية بمستوياتها، القدرات المعرفية والتجديدية والتنموية والاقتصادية، القدرات السيادية الوطنية، هذه القدرات لا بد أن نعززها وكذلك التشبيك المؤسسي والانفتاح على العالم تعريفًا بمشروعنا الإسلامي، ومعالجات أخرى تكون في حسن معالجة الشأن الداخلي والحضاري والطائفي والمادي، لا بد من استثمار هذه الطبيعة الجغرافية في وسط الأرض، لا بد من إدارة التمذهب وإدارة الاختلاف والافتراق، ونحن نعيش في أمة عربية إسلامية بأطيافها وأعراقها وأحزابها، ولا بد من حسن الاختلاف العالمي والتواصل العالمي.
كيف نستفيد من تجارب الآخرين في صناعة المستقبل؟
نحن اليوم في تواصلنا مع العالم نستفيد على مستوى تعزيز الحريات وكذلك تعزيز المرجعيات بشكل منتظم ومتوافق نصنع صناعات حقوقية قانونية، ونصنع قدرات في التواصل الدبلوماسي والثقافي، الثورات العربية ذهبت إلى وعي متعاظم بالتوليف بين المرجعية الاسلامية والمرجعية الدستورية، بين تعزيز فقه الوطن، إن اختلفوا في الخيارات السياسية لكنهم متفقون على الوحدة الوطنية وعلى القرارات الدستورية، متعارفون على القضايا الكبرى لهذه الأمة، كقضية فلسطين.
ما نعيشه اليوم من أزمة وفي تراجع في بعض المجالات، إلا أننا نعيش في مرحلة تجاوز والانطلاق بناءً على الأزمة، لأن الأزمة أحيانًا هي جزء من ماهية التجاوز، والمرض يؤدي إلى الشفاء على المستوى الفردي وكذلك على مستوى الأمم.
كيف يكون حال الاسلام بخير، والأمَّة حالها كما هو عليه؟
د. أحمد الريسوني: هذه مفارقة مؤسفة، فبقدر ما نجد من قيم وعقائد وتوازن تشريعي وفي الحياة الاجتماعية، الإسلام هو الذي يقدم نموذجه الراقي لموضوع الأسرة وغيرها.
الإسلام يحتوي على كنوز ومزايا، نجد للأسف ما يقدمه المسلمون من خلال أفعالهم وتصرفاتهم وأحوالهم، نجد هنا تناقض صريح، ولكن بما أن المسلمون رغم كل هذه الآفات مؤمنون بالإسلام ولديهم قناعة بذلك، فحينما يقادون برفقة وحكمة إلى الإسلام الصحيح، فما داموا على هذا الاستعداد فإن قابلية أن ينخرطوا في الإسلام بمستواه وأن يتقدموا إلى الإسلام، وهذه القابلية موجودة ونعول عليها، أن يرتقي المسلمون إلى دينهم، وهذا هو الضمان الحقيقي لمستقبل الإسلام.