التنميةُ -في تعريف المنجرة- ما هي إلا القدرة على خلق محيط ملائم لتقدم المعرفة وتنوير الكفاءات، التي يمكن استخدامها بطريقة خلاقة ومجددة من أجل تحسين نوع الحياة. انطلاقا من هذا المنظور ينفي المفكر المغربي تصور أية استراتيجية تنموية حقيقية، لا تشمل سياسة طويلة المدى للبحث العلمي في مجالات تكنولوجيا الإعلام والتواصل لأنها ستبقى منبعا للتفاوت الدولي وعاملا للهيمنة ما لم تصبح أولوية. نستكمل في هذا المقال ما قدمناه حول فكر المهدي المنجرة عن التكنولوجيا حيث سنتطرق لأثرها على الصراعات ونغطي الفرق بين نقل التكنولوجيا وإنتاجها ثم دور التعاون جنوب-جنوب واللغة الأم في تحقيق الطفرة التكنولوجية المنشودة لنختم ببعض التوصيات للانتقال إلى دور الفاعل في مجتمع الاتصال.
القوة التكنولوجية تهندس العلاقات الدولية
"الصراعات المقبلة ستكون ذات أساس ثقافي وذات استراتيجيات غير مادية، لا يمثل المظهر المادي ضمنها إلا جزءا ضعيفا" (1) هكذا يعبّر المنجرة في تناوله لمفهوم لا مادية الاقتصاد موضحا أن اقتصاد اليوم أضحى أقل مادية مما كان عليه من قبل؛ وعليه فالاهتمام يجب أن ينصب بالأساس على العلم والمعرفة: الوجه الغير مادي للاقتصاد "إن الاهتمام بالمواد الطبيعية مهم إلى حد ما، لكن الاهتمام بالعلم والمعرفة هو الأساس، وما ينتجه العقل هو أهم بكثير مما تعطيه المادة. إن الفرق بين هذا الحاسوب والحاسوب القديم ليس السر فيه هو المادة، بل هو الابتكار والاختراع وما يُنتَج عن العقل، لأن التطور الحاصل في الاقتصاد، وهو میدان مادي، صار أقل مادية". (1)
تبيانا لأهمية اللامادية الاقتصادية وتأثيرها على التوجهات الاستراتيجية للدول، يدعو المنجرة البلدان المنتجة للنفط إلى جعله سبيلا لبناء سياسة علمية وإعلامية مستقلة الذات لأننا دون توجيه الثورة النفطية لتطوير البحث سنظل في تبعية مقننة للغرب "ولعل استجلاب أقمار صناعية دون فهم أهدافها أو دون تهيئ شروط العمل بها لا يختلف عن استجلاب لعبة للأطفال، ويظهر نفس المشكل على مستوى التسلح الذي تطعمه وتدعمه الدول الغربية داخل منطقتنا بإذكاء النزاعات المسلحة قصد ضمان وجودها وحماية مصالحها وكذا لتحويل مجتمعاتنا إلى حقل للتجارب. إن الحداثة والعلم والتكنولوجيا والإبداع والخلق والتقدم الاجتماعي والديمقراطية والكرامة واحترام حقوق الإنسان ليست مواد قابلة للاستيراد أو للتصديرأو للبيع. ولا يمكننا بهذا المعنى التنكر للقوة المتزايدة للمعطيات اللامادية في مستقبل العلاقات الدولية". (1)
ما الفرق بين نقل التكنولوجيا وإبداعها؟
لكونها تتناسب عكسيا مع مستوى التنمية، يرى المنجرة أن الحاجة إلى التقنيات الحديثة ليست ترفا، وإنما شرط لا غنى عنه للتغلب على الفقر وتأمين الكرامة الإنسانية؛ وبالتالي فنقل التكنولوجيا، حسب طرحه، مفهوم غلط يعطل نهوض العالم الثالث لأنه يمنع تمكن الأفراد الحقيقي من التكنولوجيا "منذ سنة 1974، وأنا ضد نقل التكنولوجيا، فالتكنولوجيا لن تنقل لأنه شيء غير ممكن، ممكن أن أذهب وأشتري أشياء أو آلات تباع في الأسواق أو في الدكاكين، لكن كوني اشتريت آلة، هل هذا كاف في حد ذاته؟ إذا لم يكن في إمكاني فهم ماهية هذه الآلة، أو في استطاعتي أن أفككها أطرافا ثم أركبها بطريقة ملائمة لما أريده منها، أو أزيد فيها أمورا أخرى أو أنقص منها، حسب الطريقة التي تتماشى مع حضارتي وظروفي". (1)
تطبيق التكنولوجيا يختلف عن إنتاجها
لذلك يلفت الانتباه إلى التمييز بين ''إنتاج" التقنية من ناحية وبين "تطبيقها" من ناحية أخرى "يستطيع العالم العربي 'استيراد' التقنية كمنتج، ولكنه لن يستطيع نقل التقنية بدون أن يتقنها أولا علميا وفنيا واجتماعيا وثقافيا ولا بدون بحث محلي مكثف وجوهري" (1) مبرزا أن سبب تأخر جل دول العالم الثالث في التطور العلمي والتكنولوجي يرجع إلى افتقارها لسياسة اجتماعية ثقافية، واستهانتها بالقيم الروحية أكثر منها لانعدام الموارد المالية "إن الإبداع العلمي والاستحداث التكنولوجي لا يولدان من العدم، ولا في اتفاقيات التعاون. إنهما يقتضيان نماذج تطور قومية مطابقة للقيم وصالحة للمجتمع. إن التكنولوجيا لا تنمى بتوقيع صفقات دولية كبيرة بواسطة القروض الدولية هذا دون الحديث عن الرشوة التي تصاحبها. التكنولوجيا تتطلب بنيات ذهنية ومزاجا آخرا يكون في مستوى التحديات المعاصرة والمقبلة. وحتى نكتسب المعركة الاقتصادية، يجب أن نسعى لإيجاد الانسجام بين تنمية الكائن البشري وتنمية التقنيات التي يعتمد عليها بروح ملِؤها الاحترام الكامل لحقه في تحقيق ذاته". (1)
وفي توضيحه لمعنى انتقال التكنولوجيا يقول"يمكنكم أن تقرأوا بالصدفة في الجريدة أن المدير العام لأي من الشركات قدِم من بلده والتقى بوزير معيّن من أجل استثمار عدد من الملايير. بينما الاستثمار بهذه الطريقة يعني الانتقال. الانتقال مثلا هو تحويل شركة إنتاج الدراجات النارية من بروكسيل إلى الدار البيضاء لسبب بسيط؛ هو أن اليد العاملة غير مكلّفة. لكن العقل المدبّر لهذه العملية يبقى في بروكسيل. فليس هذا هو التطور بل هو بعيد كل البعد عن التطور؛ لأن العامل المكلّف بتركبة هذه الدراجة عاجز عن معرفة كنه هذه الآلة دون الرجوع إلى التعليمات التي يتلقاها من بروكسل". (2)
التعاون جنوب - جنوب ضرورة أم رفاهية؟
"العالم الثالث لا يأخذ مسألة البحث والتنمية بجد، مادام لم يقم تعاونا بين الجنوب والجنوب، ولم ينم مشاريع مشتركة للبحث والتنمية وأساليب مشتركة لإعدادها وتقييمها. تمويل البحث والتنمية يعد اليوم أحد شروط تقدم العلوم والتكنولوجيا". (1) يركز المنجرة على أهمية إنشاء مجموعة دولية مربحة تجاريا لنكون فاعلين في مجتمع المعرفة معتبرا أن تطوير التعاون جنوب-جنوب يستلزم خلق وحدة اقتصادية في البحث العلمي والتكنولوجي "ليس هناك أي مستقبل أو إمكانية لأي مجموعة اقتصادية يقل عددها عما بين 150 إلى 200 مليون نسمة، أن تدخل القرن الواحد والعشرين بأي أمل". (1)
وينبه أيضا إلى أن الدول النفطية في العالم العربي لن تعود في السنوات القادمة قادرة على تمويل أنماط الاستهلاك التي وجدت بها؛ وستحتاج إلى الاعتماد على مزيد من التكامل الاقتصادي "عناصر الوحدة لم تعد اللغة ولا الماضي المشترك ولا القيم والعقيدة فقط، وإنما أصبحت قضية حتمية اقتصادية أيضا. فضعفنا هو في تشتتنا، فلنبدأ تحقيق الاندماج ولو بواسطة تكتلات جهوية بإبداع النماذج الأنسب للمعطيات الموضوعية والبشرية". (1)
إلى جانب ذلك، يبين أن دخول عصر التكنولوجيات الجديدة 'كمبدعين ومنتجين لا مستهلكين' يشترط قدرة دول الجنوب على التعاون واكتساب كتلة حرجة "غزو الفضاء ليس أمرا متاحا للناس جميعا. إنه يشترط الرصيد البشري والبحث العلمي والكفاءة التكنولوجية والاقتصاد الموازي والوسائل المالية والقدرة العسكرية، وكلها لا تتوفر مجتمعة إلا لدى دول قليلة. وسيبقي العالم، طوال عدة عقود لاحقة؛ بين غزاة الفضاء ومستهلكي فوائد غزو الفضاء. وسيكون فيه ملاك ومكترون! وليس الفضاء يشترى بالمال. لقد اشترت بعض الدول توابع فضائية. واكترت صواريخ الإطلاق لوضع التوابع في مداراتها، لكن هذه الطريقة طريقة امتلاك "الفضاء الجاهز" ليست حلا مرضيا. إن الحل في توظيف الإمكانات البشرية والبحث العلمي القومي، وفي إقامة سياسة تعاون جهوي يهدف إلى اكتساب «الكتلة الحرجة»". (1)
اللغة الأم: أساسٌ للتطور التكنولوجي
التأسيس انطلاقا من لغة أجنبية في البحث التكنولوجي أمر لا يستقيم حسب رؤية المنجرة لأنه يسبب تناقضا مفاهيميا خطيرا بين الذات واللغة معللا ذلك بغياب أي دولة في العالم ذهبت بعيدا في ميدان البحث العلمي وصارت قوة تكنولوجية دون أن تعتمد على لغتها الوطنية. وأحال على النموذج الآسيوي الذي حافظ على قيمه الثقافية وجعل التعليم العلمي والتقني والجامعي يتم باللغات المحلية "فقد ثبت اليوم، بما لا يدع مجالا للشك، أن جميع البلدان التي لم تستعمل لغاتها في ميدان العلوم والتكنولوجيا، لن يكتب لها النجاح في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي. ولعل التحدي المطروح، هو أنه مادام أي علم من العلوم، أو تكنولوجيا من التكنولوجيات؛ كالاتصال مثلا، لم يأخذ طابعا محليا، فلن نتقدم خطوة واحدة". (2)
كيف نقاوم نقل التكنولوجيا في بلداننا؟
وفق المنجرة، مقاومة نقل التكنولوجيا والانتقال إلى وضع الفعل داخل مجتمع الاتصال يتطلب أولا التحلي بالجدية "فإذا ما كان الإنسان جديا وله أهداف شريفة، وله مقاصد بالمفهوم الإسلامي، فإنه ولا شك سيصل إلى هذه الأهداف"، والثقة بالنفس النابعة من الإيمان بالنفس كمخلوق حمله الله مسؤولية فوق هذه الأرض، ليؤدي الأمانة الملقاة على عاتقه "الإيمان الحق هو أن أؤمن بنفسي كمخلوق خلقه الله في هذا الكون ليقوم بواجب وليؤدي رسالته في الحياة على أتم وجه". (1)
ومن بين الخطوات التي اقترحها (2):
- التفكير في إحداث ما يشبه الحد الأدنى للأجور بميدان المعرفة، دون أن يكون له طابع إلزامي؛ وذلك بضمان بلوغ حد أدنى من المعرفة داخل البلد الواحد.
- إعادة توزيع المعرفة؛ لأجل ذلك، ينبغي أن تكون هذه المعرفة متطورة بالقدر الكافي. وسيادة روح قوية للمسؤولية وتضافر جهود الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
- الحرص على أن تكون هذه التكنولوجيات الجديدة في خدمة السكان اقتصاديا واجتماعيا، وأن يحس هؤلاء بأن حاجاتهم وانشغالاتهم تحظى بالاهتمام.
- عدم إغفال البعد الثقافي والاجتماعي بحماية القيم الثقافية. وفي هذا الصدد يقول "فالتنوع، برغم كونه مصدر غني، إلا أنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن یکون باعثا على فقدان شخصيتنا وتاريخنا وماضينا وذاكرتنا متعللين في ذلك بذريعة الانفتاح".