أنا وأنت... لنرتحل في نزهة قصيرة، خطيرة في أبعادها وكوامنها رغم قصرها! وأرجو أن تكون صبورًا معي على معاناة التوغل في أعماقها وتفحص أغوارها، هذه النزهة تشرح لنا فكرة كثيرًا ما تتحكم في صياغة عقولنا وأفكارنا، وتظهر جليًا في حياتنا وعلى سطوح مناهجنا وسلوكنا الحياتي العام، من خلال هذه النزهة يمكن أن نُعيد برمجة العقل والمنهج والسلوك من جديد، وبصورة ربما أفضل وأكثر نفعًا، بعد اكتشاف قوالب هذه الفكرة وأركانها وأُطرها العامة، وأتمنى أن تصبر قليلًا على هذه المسيرة، فقد تنفعك في حياتك الخاصة والعامة، خصوصًا إن كنتَ ممن وقع ضحيةً يومًا من الأيام في بعض شباكها.
من الطبيعي أن تُتاح للعقل البشري مساحة من الرؤية والإدراك بقدر المرونة التي يتمتع بها ذلك العقل، وبقدر السعة الثقافية العامة التي تَخَرَّج منها، ولا ننسى قدر حرية الفضاء الذي يعيش فيه ويلامسه وينتمي إليه، كما لا يمكن تجاهل المعارف المحضة والعلوم الدقيقة والخبرات المتراكمة التي يمتلكها ويختزنها ذلك العقل، ودورها الفعَّال في توضيح الرؤية وانفراج الأفق أمام العقل الإنساني والفكر الذي يطوف في فضائه.
أيها القارئ الكريم... قبل أن نغوص في أعماق الفكرة ونكشف لُبَّها اسمح لي أن أشرح لك فكرة لغوية معقدة في مرجعياتها وفلسفتها، لكنها في نفس الوقت بسيطة في تصورها البدائي والسطحي العاجل، تتصل هذه الفكرة بنوع العلاقة بين اللغة والفكر، وتأثير أحدهما على الآخر عند الفرد.
إنها الحتمية اللغوية والنسبية اللغوية... وربما تكون قد سمعت بها يومًا، إنها الفرضية ذات المنطلقات الفلسفية والأبعاد اللغوية والفكرية، ومحور الفرضية هو الكشف عن جوهر العلاقة بين اللغة والفكر، ودور اللغة في تشكيل الفكر. وهاتان النظريتان –الحتمية والنسبية- أو الفرضيتان على وجه أكثر دقة صورتان لنموذج واحد يحاول تفكيك اللغز الذي يدور حول العلاقة بين اللغة والفكر، فتؤكد إحداهما على أن اللغة هي التي تتحكم بالفكر وتقوده وتُسَيِّره كما تقول الحتمية، أو تؤثر فيه كما تقول الفرضية النسبية. حتى قال منظرو هذه الفرضية أمثال "سابير" و"ورف": إن اللغة وعاء الفكر. والشخص أسير لغته.
علمًا أنَّ الحتمية اللغوية تمثل الجانب المتطرف لمجمل الفرضية، أما الجانب المعتدل منها فتمثله النسبية اللغوية التي ترى أن للغة دورًا في عملية التفكير والمعرفة.
ولإثبات مصداقية هذه الفرضية راح أصحابها يطبقون مبادئها على عدد من اللغات البدائية، أمثال بعض اللغات الهندية الأمريكية، وبعض اللغات الأفريقية التي تقع جنوب القارة، فوجدوا أن بعض اللغات الأفريقية مثلًا لا تمتلك إلا ثلاثة ألوان فقط ضمن نظام مفرداتها اللغوي، وعلى ذلك فإنَّ أبناء اللغة ينظرون للأشياء من حولهم وفق هذا التصنيف الثلاثي فقط، وكل المشاهدات يدرجونها تحت هذه الثلاث، ولو تعسفًا؛ لأن عقولهم وأفكارهم تأطرت بهذا التصنيف الحاسم. ثم إنَّ بعض اللغات الهندية الأمريكية كلغة "الهوبي" مثلًا لا تفرق بين الماضي والمضارع، وبناءً على نظام هذه اللغة يجري دوران الأفكار وبناء التصورات. فاللغة هي التي تخطط أو ترسم خريطة الواقع وفق معطيات الفرضية وتطبيقاتها.
ما الذي أريده من هذه الصورة؟! وما المطلوب إدراجه تحت هذه المفاهيم؟
الحقيقة أني أريد إنتاج تطبيق آخر لهذه الفرضية! لكنه ليس لغويًا هذه المرة، وإنما يمكن تصنيفه بأنه فكري أو اجتماعي. حاول أن تسأل شخصًا من رواد المسجد الذي أنت تعتاد الصلاة فيه في منطقتك، واطلب منه أن يُعَرِّفك ويُصنف لك رواد المسجد من نفس المنطقة، ويوضح لك مناهجهم، ستجد أنه يستدعي سريعًا التصنيف الثلاثي الحتمي: سلفي صوفي إخواني! فيضع الأفراد تحت هذه القوالب الجاهزة دون تلكؤ! وذلك لأنَّ من الصعب أن يتخيل كثير من الناس شخصًا متدينًا يعيش في مساحة حرة ينتسب فيها إلى الإسلام فقط، فالحتمية التي ينطلقون منها قد وضعت لهم القوالب الجاهزة التي لا يمكن أن يُرى العالَم من حولهم من دون نوافذها وسلطانها.
وهكذا يتعامل البعض مع الناس جميعًا، يحاول أن يترقب دائمًا ماذا قالوا! وماذا فعلوا! يرصد عددًا من الجزئيات الفرعية فينُزِّل عليهم القوالب الحتمية الجاهزة في الذهن، ليستشعر الانتصار باكتشاف فلان وفلان وفلان! دون أن يعلم أن هذه مجرد قوالب مُصَنَّعة اختزنها عقله، وترددت على لسانه كثيرًا، فتأطر بها فكره ومنهجه، ومعها لا تسمح له الرؤية العقلية تصور خيار رابع أو خامس... نسميه الإسلام فقط.
لستُ هنا في سياق التقييم لهذه المناهج، حتى لا أعود بالخلل على أصل الفكرة التي أريد إيصالها للقارئ، وإنما المقصود هو أن هذه القوالب الجاهزة المعدودة نحن من يُصَنِّعها! ثم نكسبها الحتمية الصارمة، ونحجر العقل تحت سلطتها، ونُسَلِّم كل أحكامنا على الآخرين لسطوتها، فيصعب علينا بعد ذلك تصور جزئيات تدور حولنا خارجة عنها.
يا إخواني.... الإنسان له مساحة فردية حُرَّة، وشخصية مستقلة يسعى لبنائها وتشكيلها عبر الزمن، وبإمكانه ومن حقه أن يُعرِّف نفسه بما يرتضي ويريد، لا بما نفرضه نحن ونقترحه من مخيلتنا، وبناءً على ذلك فكثيرًا ما نجني على الآخرين بإنزال القوالب الجاهزة على رؤوسهم، وإلباسهم أثوابًا لا ينتمون إليها، بل وربما ولا يرتضونها أصلًا، ونحملهم حملًا على التبرؤ مما لا يعرفونه، والتبرير لكلِّ ما يمارسونه، وإشغالهم بما لا يستحق، وهذه في حقيقتها مجازفة، وتَعدٍّ على حقوق الفرد وحريته الخاصة، وتُمثِّل نقصًا في وعي العقول ونضوجها. حقًا إن الناطقين باللغة -كما يقول "سابير"- واقعون تحت رحمتها. خصوصًا عندما يرتضون تصنيف الحياة كلها وفق القوالب الجاهزة.
من المؤكد عمليًا في مجتمعاتنا أن مجرد قول: "لا أنتمي" لحزب أو لجماعة أو لمذهب أو لطائفة لا يكفيك براءةً، "أنا مسلم فقط" لا يُغني عند الكثيرين، لأن الصفات الجزئية والتصرفات الهامشية المختزنة مع القوالب الجاهزة في تركيبة العقل قد رصدت وحكمت وارتبطت آليًا بلا منازعة.
فقول: "لا أنتمي" لا يُشكِّلُ درعًا واقيًا أمام سُلطة التصنيف الحتمية، اللهم إلا إذا أهملتَ جانب الأدب، وتجردت من قواعد اللياقة والذوق، وبدأت بالسباب والشتيمة واللعن موجهًا نحو من نسبوك إليه، حينها تكون قد فزت بالبراءة في قاموسهم، لكن المصيبة.... قد أدرجوك ضمن قاموس قالب آخر يعرفونه!!
بهذا يمكن أن أقول لكم: إننا نعاني معاناة مرة مع هذه الحتميات الفكرية السائدة! والقوالب الجاهزة الحاكمة! وأزمة تأطير العقل وبرمجته –النابعة منها- تُكَلِّف ضريبة كبيرة، ندفعها من رصيد أوقاتنا وأفكارنا وأقلامنا، للتخلص من شررها المتصاعد مرةً، ولكبح جماحها وتخفيف حدتها المسلطة على رؤوس مجتمعاتنا في مختلف المواطن مرةً أخرى، في المساجد والجامعات والأسر وفِي محافل اجتماعية ومؤسسات علمية وثقافية مختلفة.
في مثل هذا السياق إذا تحدثت عن التوحيد قيل عنك: سلفي! وليتهم اكتفوا! بل رتبوا عليك كل مشكلات الوصف العصرية من تكفير وإرجاء وتجريح وغيرها! ولو تحدثت عن الزهد والورع والتقشف لقيل: صوفي! وليتهم اكتفوا! بل سحبوا عليك مشكلات العصور الغابرة والحاضرة من شرك وجهل وبدع وخرافات!! ولو تحدثت عن الدعوة الحركية! أو السياسة الشرعية لقالوا: إخواني! وليتهم توقفوا! بل حَمَّلوك أوزار العصر ومشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي!!
إنها أزمة فكرية منهجية تعانيها مجتمعاتنا، وربما تشتد وتتأزم عند المتدينين والمنتمين إلى الصف الإسلامي، والحقيقة أن ما نؤمن به -متحررين من هذه الحتميات والقوالب- هو أن قيمة الإنسان بما يحمله من قيم نبيلة وآداب سامية مع ربط العلم بالعمل، هذه وأمثالها من المعايير هي التي توزن بها الرجال والأعمال.
ولا يبدو هذا المأزق حديث النشأة، ولا غريبًا عن التاريخ، فقد تَحَمَّل الأئمة الأعلام أنواعًا من هذه القوالب الجاهزة، والتهم الباطلة، وتعرضوا لسيل ظالم من هذا التصنيف الأعمى، وخذ محنة الإمام أحمد (ت241ه) مثالًا، ومثله البخاري (ت256هـ) وابن عربي المالكي (ت543هــ) وابن تيمية (ت728هــ) والشاطبي (ت790هـــ) وغيرهم كثير.
حتى قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام محررًا مأساة القوالب الجاهزة: "إني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سمَّاني موافقًا، وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله سمَّاني مخالفًا، وإن ذكرتُ في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك سمَّاني خارجيًّا، وإن قرأتُ عليه حديثًا في التوحيد سمَّاني مُشَبِّهاً، وإن كان في الرؤية سمَّاني سالميًّا، وإن كان في الإيمان سمَّاني مرجئيًّا، وإن كان في الأعمال سمَّاني قدريًّا، وإن كان في المعرفة سمَّاني كراميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سمَّاني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سمَّاني رافضيًّا، وإن سَكَتُّ عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سمَّاني ظاهريًّا، وإن أجبتُ بغيرهما سمَّاني باطنيًّا، وإن أجبتُ بتأويل سمَّاني أشعريًّا، وإن جحدتهما سمَّاني معتزليًّا، وإن كان في السنن مثل القراءة سمَّاني شفعويًّا، وإن كان في القنوت سمَّاني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سمَّاني حنبليًّا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد منهم إليه من الأخبار-إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئا. وأنا مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم". الاعتصام: 37- 38. رحم الله الشاطبي كم عانى من قوالب التصنيف التي كانت شائعة في زمانه، وقس على هذه القوالب الجاهزة قوالب زماننا العجيبة والغريبة.
فما الذي نحتاجه اليوم للفرار من سطوة هذه الحواجز والقوالب؟!
نحتاج أيها الإخوان إلى جيلٍ تحرر من كل انتماء يعميه عن الخير الذي عند الآخرين! جيل يؤمن بأن الإسلام وحده هو الذي نوالي ونعادي عليه، نحتاج الانتقال إلى الدائرة التي تُفَكِّكُ الطوق الذي يحيط بالعقول والأفكار ويعيقها عن العمل والفهم والانتفاع، لنُلغي فكرة تصنيف الناس وفق صناديق مزاجية! وقوالب كونكريتية. لننتبه من ألغام الحياة!-فكونك سلفيًّا ليس تهمة عليك، لكن لا يسمح لك ذلك رمي المناهج الأخرى بألوان التهم وأصناف التجريحات، وكونك صوفيًّا ليس سُبَّة عليك! لكن إياك أن تملأ مجالسك طعنًا ولعنًا في الآخرين! انتقاصًا واستهزاءً وقذفًا، وكونك إخوانيًّا ليس جريمةً تقترفها، لكن لا يحق لك نبز الآخرين ولمزهم ومعاداتهم! فكل المناهج مصانة وفيها من الخير الكثير.
أيها الشاب الحصيف... مَرِّن عقلك وقلبك على الولاء للإسلام فقط، حررهما من الأقفال والأغلال التي تحجرك في زاوية مظلمة لا ترى فيها إلا نفسك ومنهجك، فقد عانت الأمة والمجتمعات والأوطان من تلك الأنفاق المغلقة! وذاقت ويلات مريرة من تلك الصراعات المُنهِكة، إنها فرصة لجيل جديد يحمل هذه الرسالة.