لقد كان الغزو الروسي لأوكرانيا منذ شهرين تقريبا أحد أهم العناوين وأكثرها تداولا في منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، واستطاع هذا الحدث أن يغطي على أخبار كورونا التي كانت حديث الإعلام والعالم لسنتين كاملتين تقريبا. إلى الآن، لازالت بعدُ الحرب لم تضع أوزارها ولازالت تأتينا بالجديد، فماهي أسباب هذه الأزمة وانعكاساتها الإستراتيجية والجيوسياسية على أوروبا والعالم؟
روسيا.. الإمبراطورية العائدة من عمق التاريخ وتغير موازين القوى العالمية
لا يخفى على أحد أن روسيا التي نراها اليوم كقوة عظمى في العالم وكيان سياسي متماسك وله أجندته وطموحاته التوسعية، ليست روسيا منذ عشرين أو ثلاثين عاما تقريبا خاصة عند سقوط جدار برلين أو عند حل الاتحاد السوفياتي، بل صارت قوة كبرى ذات مكانة هامة واستطاعت أن تقلب الموازين في عدة حروب وصراعات ونذكر منها التدخل الذي قامت به في سوريا شهر سبتمبر سنة 2015 وكيف قلبت الكف لصالح الطاغية بشار الأسد، بعد أن كان نظامه على حافة الانهيار دون أن ننسى دورها في ليبيا وتوسعها داخل أفريقيا.
نفهم من خلال هذه الأحداث تراجعا وضعفا للموقف الأمريكي مقابل توسع وتمدد نفوذ روسيا الجديدة أو لنقل روسيا القيصرية التي يسعى بوتين جاهدا لإعادة أمجادها ويبني فوقها أمجاد أسلافه القدامى، روسيا القيصرية بقيادة بطرس الأكبر التي حكمت جزءا هاما من العالم منها روسيا التي نعرفها اليوم ومناطق في بحر البلطيق وأجزاء من أوروبا الشرقية.
كما يجب أن لا ننسى أن لروسيا جغرافيا ذات خصائص مميزة ساهمت في جعلها قوة عظمى، فهي أكبر دولة بالعالم وتمثل ثمانية بالمئة من مساحته؛ لديها مخزون كبير من الثروات الطبيعية وأهمها الغاز والبترول كما أنها تربط بين أوروبا وآسيا، ناهيك عن الجغرافيا والمناخ الذي تمتاز به ويحميها من الخصوم والذي حطم أكبر الجيوش في العالم، جيش نابليون بونابرت والجيش النازي بقيادة هتلر اللذين دمرا تدميرا.
أوكرانيا المجال الحيوي لروسيا ومخاطر انضمامها للناتو
تربط روسيا وأوكرانيا علاقات تاريخية كبرى من أبرزها نجد أن الكثير من الأدباء والمفكرين الروس تعود جذورهم إلي أوكرانيا وخاصة العاصمة كييف، كما أن أوكرانيا تعتبر ضمن المجال الحيوي لروسيا، لذلك لن ولم تقبل روسيا انضمامها لحلف الناتو، هذا الحلف الذي أُسس من أجل محاصرة روسيا وعزلها والتصدي لها أيام الإتحاد السوفياتي سابقا، وفي حال حصول ذلك سيصبح أمن روسيا مهددا وتصير مجرد كيان أو دولة عادية.
لذلك ترفض روسيا رفضا تاما أن تنظم جارتها أوكرانيا لحلف الناتو وأعلنت عليها الحرب مثل ما فعلت مع جورجيا سنة 2008 عندما أرادت هي الأخرى أن تنضم لحلف شمال الأطلسي لكن روسيا لم تقبل ذلك لكونها أيضا ضمن مجالها الحيوي، فالمسألة، بالنسبة لروسيا، مسألة أمن قومي ولاتقبل القسمة على اثنين أو المزايدة.
الإجرام الغربي وصنع الأزمات والمشاكل العالمية
لقد عودنا الغرب دوما على صناعة المشاكل والأزمات ومن ثم تصديرها للعالم وأبرز مثال على ذلك هو الحرب العالمية الأولى والثانية التي في الأصل هي حرب أوروبية ولكنها صُدّرت للعالم و تسببت في إزهاق عشرات الملايين من الأبرياء في غضون سنوات.
هذا الغرب يعيد نفس الشيء وينتج الأزمات التي سيتحمل الكل انعكاساتها ومآلاتها ونحن نرى نتائج الحرب خاصة على أسعار المحروقات والقمح وبعض المواد الغذائية والأساسية في العالم.
عند سقوط الاتحاد السوفياتي طلب آخر رئيس له ميخائيل غورباتشوف أن لا يتم ضم الدول التي كانت تتبع الاتحاد السوفياتي لحلف شمال الأطلسي لأن ذلك يمثل خطرا كبيرا على روسيا، ووعده الغرب بذلك ولكنهم نكثوا وعودهم وتم ضم كثير من الدول لحلف الناتو ومنهم لاتفيا وليتوانيا؛ في ذلك الوقت كانت روسيا دولة ضعيفة لكن اليوم مع بوتين اختلف الوضع لذلك رأينا غزو جورجيا سنة 2008 وتراجع الغرب عن قرار ضمها للناتو، واليوم نرى نفس الشيء مع أوكرانيا فروسيا طلبت من هذه الدول الحياد وعلى رأسهم أوكرانيا لكن للغرب رأي آخر.
الحرب الروسية الأوكرانية.. بين المستفيد والمتضرر
أكيد أن للحروب أضرار وكلفة باهظة جدا والتي يصعب تحديدها من الأول، لكن هنالك ضريبة يجب أن تدفع.
تعتبر ألمانيا من المستفيدين والخاسرين في آن واحد، لكون جزء كبير من طاقتها يأتي من روسيا وعلى رأسها الغاز، وقد تم إيقاف مشروع نقل الغاز نورد ستريم 2 الذي يمر عبر بحر البلطيق ليزودها ويزود أوروبا بالغاز. ومن ناحية أخرى، استفادت من رفع ميزانية الإنفاق العسكري التي انتقلت من 1.5 إلى 2 بالمئة من الناتج الداخلي الخام بمبلغ يقارب 100 مليار أورو بقفزة من 50 إلي 75 مليار أورو سنويا، وهذه تحصل لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن هذا ممكنا قبل الحرب الأوكرانية الروسية وذلك للقيود المفروضة عليها من بعد الحرب العالمية الثانية.
تعتبر تركيا أكبر المستفيدين من الحرب رغم العلاقة المتداخلة والمتشابكة مع روسيا، فهي تربطها بها علاقات استراتيجية واقتصادية هامة، رغما التنافر الذي حصل بينهم في سوريا وليبيا وبعض المناطق الأخرى، اليوم نرى الموقف التركي القوي والوساطات التي تلعبها إسطنبول منذ بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، و بين روسيا والغرب.
زيلنسكي وشعبويته التي قادت أوكرانيا إلى محرقة
لا نستطيع المرور على هذه الأزمة دون الحديث عن شخصية الرئيس الأوكراني زيلنسكي، هذا الأخير الذي اُنتقد بسبب نقص الخبرة السياسية والحنكة، فالرجل من عالم التمثيل والدراما والكوميديا يجد نفسه مباشرة رئيسا لدولة دون أدنى تجربة سياسية أو تكوين أكاديمي في عالم السياسة. من مسلسل خادم الشعب والذي أعطاه شعبية كبيرة، إلى قيادة بلاده نحو حرب دامية ومحرقة لشعبه وأزمة عالمية كبرى ربما تغير ملامح العالم الذي نعرفه للأبد.
الرئيس الأوكراني - حسب المحللين للحرب - لم يحسن التقدير والحسابات السياسية، فروسيا ليست مشكلتها الديمقراطية أو غير ذلك، همها الأكبر أن تبقي أوكرانيا دولة محايدة ولا تدخل في مجال حلف الناتو وتصير تهديدا لأمنها القومي.
زيلنسكي رغم مماطلة الغرب له في ضمه للاتحاد الأوروبي ورفضهم ضمه لحلف شمال الأطلسي وذلك حسب تقارير لحلف الناتو، بقي يستفز روسيا رغم أن خطابه الانتخابي لم يقم على معاداتها بل دعا لتوطيد العلاقات معها لكنه فعل العكس.
بعد فَشَله في ضم أوكرانيا لأوروبا ولحلف الناتو زودوه بالسلاح وأصبحت أوكرانيا حظيرة تجارب لأسلتحهم المتطورة وحلبة لخوض حرب بالوكالة عن الغرب ضد روسيا، هكذا هي الشعبوية.
لازالت الحرب مستعرة ولا نعرف متى تنتهي مثلما نعرف تاريخ بدايتها، لكن العالم بطبيعة الحال لن يعود مثل ما كان قبل الحرب ونحن نشهد تشكل معالم مجتمع دولي جديد، الظاهر فيه أن أمريكا ما زالت قوة عظمى لكنها في تراجع مستمر وموقفها من الحرب أكبر دليل على ذلك، فنحن نرى تشققات وتصدعات في عديد الكيانات، ربما تبشر بولادة كيانات جديدة.