منذ أن سيطر آباء الكنيسة على مفاصل الحكم في الحياة بشقيها السياسي والديني في أوروبا في العهد الروماني بعد انتقال الفلسفة الغربية من مركزها في أثينا باليونان، إلى روما بإيطاليا، واندماج الديانة المسيحية مع الملك وتمدد نفوذ رجال الدين، إلى أن سيطروا على الحياة برمتها، غرقت أوروبا في عصور الظلام فيما يسمى بالقرون الوسطى التي توسطت التاريخ الغربي الذي كان قبلها مشعًا إبان عهد الفلسفة اليونانية، والذي أصبح بعدها مستنيرًا فيما تلا ثورة الاصلاح الديني التي فتحت الباب مشرعًا أمام العقل الغربي.
لسنا هنا بصدد تكرار ما تكلمنا عنه في مقالات سابقة بخصوص الصيرورة التاريخية التي آل اليها العقل الغربي، لكننا بصدد تفحص تبلور مفهوم الحرية في ذلك السياق التاريخي حتى نقع على حمولته الفكرية والثقافية التي صبغت الفلسفة العلمانية فيما تلا ذلك من أحقاب زمنية لا تزال تلقي بضلالها على الحياة اليوم.
لقد كانت الحرية هي الغاية التي إنتهت إليها الفلسفة العلمانية التي عملت على إعادة مكانة الانسان الى مركزيته بعد أن أصبح هامشا في عصور الظلام الكنسية وذلك بتمجيد الذاتية مرورًا بالعقلانية وصولًا إلى الحرية التي هي المنفذ والمنقذ للإنسان وإبداعاته التي ساهمت بعد في صناعة الحضارة الغربية الحديثة، لذلك كانت الحرية هي المركز الذي اتخذته شعارات الثورات الغربية المتلاحقة سواء كانت في أوروبا بشقيها الليبرالي والشيوعي أو الليبرالية الخالصة في أمريكا والعالم الجديد.
ولطول العهد في مسار التحرر الذي خاضته الشعوب الغربية في تماهيها مع المفاهيم العلمانية أخذ مفهوم الحرية أنماطًا مختلفة من الممارسة ولم يولد دفعة واحدة في فترة زمنية بعينها.
فالمجالات السياسية أخذت بحظها من هذا المفهوم والعلمية أيضًا والفنية والأدبية أيضًا والاقتصادية كذلك. فنشأت مدارس عديدة جدا كلها تمثُلات لمفهوم الحرية الذي سعى العقل الغربي لتحصيله عبر ثورات متلاحقة بعضها اتسم بالانسيابية والتطور الفكري وبعضها اتسم بالعنف والدموية الحمراء.
وعلى الرغم من تلك التباينات التي شملت كل الاتجاهات والمجالات الا أنها اتحدت في الطلاق التدريجي مع عالم المثل الذي كان العقل العلماني يصر على أنه السبب الرئيس في ارتهان حرية الانسان الغربي.
في عصر التنوير والحداثة تم تقديس العقل بإعتباره المنفذ الأساسي للحرية فيما تم إزاحة الدين بكل ما له إرتباط وثيق به من الحياة العامة وأدمج في الحياة الخاصة التي لم تسلم هي الأخرى من تغول الحياة العامة بعد صيرورة طبيعية لمسار التحرر.
لكن العقل هو الآخر أثبت أنه غير قادر على تحقيق الحرية التي وعد بها ووجد الانسان نفسه مرتهنا للمادة بعد أن كان مرتهنا للدين فلقد تغولت الليبرالية في شقها الاقتصادي في تجليات الرأسمالية المتوحشة وتم إستعباد البشر بشكل أكثر تنظيمًا واحترافية ووجد الإنسان الغربي نفسه وجهًا لوجه مع الاندماج في سيرورة دوامة لا ترحم من التدافع المادي الرهيب الذي افقده أي معنى للحرية.
لقد أُطلق العنان للإنسان الغربي في شقه الغرزي فقط في جزئيات الحرية، ولم يكن ذلك إلا لأنه يحقق الغاية الكبرى لرجال المال والأعمال الذين تدر عليهم نزوات الانفلات مداخيل فاحشة. فيما بقي الإنسان يشعر فعلًا بأن الحرية التي كان يسعى إليها عبر مخاض عسير بدأه بالطلاق المنبت مع الدين، غاية لم تدرك ووصلنا اليوم في عصر ما بعد الحداثة الى عالم من الصيرورة لا مركزية فيه لا للدين ولا للانسان ولا للعقل ولا حتى للمادة.
لقد أضحى التغير الحثيث هو الثابت الوحيد في دوامة من التحديث المستمر جعل مفهوم الحرية في حد ذاته فاقدًا لأي معنى، وهي نهاية بئيسة جدًا للإنسان الذي وعدته العلمنة بحياة مستقرة وفيها من اليقينيات والثبات الشيء الكثير الذي يحقق الرفاهية والسعادة معًا، لكنها أعلنت فشلها تمامًا في هذه الغاية بالذات ولازال الإنسان الغربي لحد الساعة يعاني الشتات والتيه ولا تزال المراجعات الكثيرة تأخذ حيزًا واسعًا من الدراسة، فإن كانت المراجعات قد أخذت منحى متسارعًا بعد حربين عالميتين عظيمتين دمرتا الإنسان في الوقت الذي كان ينتظر الحرية، وفي الجهة المقابلة دكتاتوريات مرعبة عند الشيوعية الستالينية ومن لف لفها، فإن مراجعات اليوم لها منحى مختلف يسعى فقط للبحث عن معنى هذا الانفلات الذي يسمى حرية فلقد شعر الانسان الغربي ان قمة الاستعباد في فقد المعنى.
في الفلسفة الاسلامية يتسم مفهوم الحرية بوضوح شديد وقدرة عالية على الثبات والفاعلية في الواقع، فالحرية منشؤها العقيدة السليمة التي تعني كمال العبودية لله. فبالقدر الذي تزداد فيه العبودية لله عمقا ووعيًا بالقدر نفسه يزداد مفهوم الحرية اتساعًا.
فالمفاهيم المادية والغرزية التي تكبل الانسان وتحشره في زاوية من الصراع المستعر وتجعل منه هامشًا في دوامة استهلاكية مرعب، وكلها لا تجد معناها في المفهوم العقدي للإنسان المسلم الذي ترتبط حريته بدرجة استيعابه لكونه خليفة مكلف بعمارة الارض في حدود المتاح المباح، وحتى تعامله مع المادة في سياقات العمارة التي تحقق الخلافة لا تجعل منه هامشا، فالعلاقة بين مركزية الخلافة ومادية العمارة علاقة ثابتة تأخذ اشكالا مختلفة ظهرت جليا في التاريخ المشرق من الحضارة الاسلامية.
وهي مفاهيم تجعل من الالتزام المطلق بتعاليم الاله المطلق قمة الحرية نتيجة وضوح الرؤية وسهولة الاختيار رغم صعوبة البذل وفداحة الجهاد في سبيل ذلك.
في رمضان وكأنموذج عملي، يدخل المسلم دورة انعتاق يتحرر فيها من المكبلات المادية بشكل استثنائي، فالدوافع النفسية والغرزية تخضع هي الأخرى لترويض يجعل منها تقف على مسافة غير مركزية من مفهوم الانسان فلا تستعبده ولا ترتهن مفهومه للحياة بشكل عام وهو ما وقع فيه الانسان الغربي بشكل فج.
ولكن مع الأسف الشديد، إن هيمنة المفاهيم العلمانية جعلت من الإنسان المسلم هو الآخر غارقًا حتى الاذنين في مفاهيم مادية للحرية على العكس شبه النقيض من المفاهيم الاسلامية لها، ولم ترق مع الأسف مستويات الوعظ الديني لا في رمضان ولا في غيره إلى الحد الذي يمكّن المسلم من فهم تجليات التحرر التي تقصدها الإسلام في تشريعاته المختلفة التي هي التزامات تقود إلى التحرر وعبودية تقود الى الحرية وليست تكاليف مرهقة ومكبلات عن الإبداع كما تروج العلمانية المادية العلموية اليوم.