أولا – البعد العلمي والفلسفي
عرضنا في المقال السابق فكرة عامة عن نشأة الحضارة الغربية على أساس ديني وفق ما أكده علماء التاريخ وفلاسفة الحضارة بخصوص كل الحضارات البشرية، ثم أشرنا بشكل عام كيف انسلخت تلك الحضارة الغربية عن ديانتها المسيحية التي مثلت لها قاعدة الانطلاق للتحدي الحضاري الذي فرضه المسلمون على أوربا، فشاعت فيها المذاهب الوجودية والمادية والعلمانية والإباحية. وانطلقنا في تأطير موضوعنا على أساس التطورات التي تحدث للحضارات من مرحلة الروح إلى مرحلة العقل إلى مرحلة الغريزة التي شرحها الأستاذ مالك بن نبي في العديد من مساهماته، لا سيما في كتابه شروط النهضة، والتي أكدها قبله ابن عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته، وثبتتها الدراسات التاريخية للعديد من الفلاسفة بينهما. وفي هذا المقال سنبدأ في الحديث عن الخطوط العامة لهذه الرحلة الطويلة في حياة الحضارة الغربية.
خلافا لما يعتقد كثير من الناس وما يشيعه العلمانيون وخصوم الفكرة الدينية لم يكن التطور العلمي للحضارة الغربية منفصلا عن الدين، أو مخاصما له منذ النشأة. لقد كانت بداية الاهتمام بالعلوم في القرون الوسطى بأوروبا عن طريق الكنيسة، ضمن محاولة اللحاق بالعالم الإسلامي الذي كان يعيش عصره الذهبي.
لقد قامت الكنيسة ببناء المعاهد ومدارس التكوين المتقدم حول كاتدرائياتها ضمن ما كان يسمى تاريخيا ” مدارس الكاتدرائية”[1]، وهي الأنوية الأولى للعديد من الجامعات التي اشتهرت في قرون لاحقة في أوربا، وكانت تلك المعاهد هي المراكز الوحيدة في أوربا للبحث العلمي قبل أن يجافي العلمُ الدينَ لأسباب سنبينها أدناه، بل إن بواكير وضع المنهج التجريبي في أوربا كان في عهد القرون الوسطى الأوربية على يد علماء من رجال الدين المسيحيين من أبرزهم روجر بيكون الإنجليزي (Roger Bacon – 1214-1294) الذي كان راهبا فرنسيكانيا وعالم فيزياء وعالم بصريات وهو يُعَد أول أوربي وضع قواعد المنهج العلمي اعتمادا على أعمال العالم الإسلامي الموسوعي ابن الهيثم. [2]
وقد أثمرت المجهودات العلمية للكنيسة بروز الأيقونات العلمية التي اشتهرت في عصر النهضة بعلمها الطبيعي والتزامها الديني. فلو عددنا العلماء والفلاسفة الكبار الذين كان لهم التأثير الجوهري في إخراج أوربا من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم في عصر النهضة، والذين كانوا وراء الثورة العلمية الأوربية، لوجدنا في مقدمتهم نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus – 1474-1543) و جوهانس كبلر ( Johannes Kepler – 1572-1630) وغاليليو غاليلي (Galileo Galilei – 1564-1642) و رينيه ديكارت (René Descartes – 1596-1650) وإسحاق نيوتن ( Isaac Newton – 1643-1727)، وكل هؤلاء كان بعضهم من رجال الدين والبعض الآخر معروفين بشدة تدينهم، وإنما كانت لهم الجرأة على نقد المسلمات العلمية الكنسية الخاطئة، خصوصا المسلمات الكنسية المعتمدة على النظريات الإغريقية لدى بطليموس وأرسطو القائلة بمركزية الأرض وعدم دورانها حول الشمس.
لم تكن الاجتهادات العلمية لهؤلاء محرجة للكنيسة في بادئ الأمر، بل كانت الكنائس والأديرة ومعاهد الكاتدرائيات هي مراكز تلقّيهم ثم تعليمهم العلم، ولكن تنامي أثر الحركة العلمية في المجتمعات الأوربية في عصر النهضة وتوجه العلماء أكثر فأكثر نحو الاستقلالية عن الأفكار الدينية التي لم يستوعبها العلم، علاوة على ترنح مكانة الكنيسة في ظل صراعها الديني مع حركة الإصلاح البروتستانتية هو ما جعل الكنيسة تقاوم من أجل مرجعيتها وسلطتها ضد كل من يخالف مسلماتها في تفسير الكون.
لقد كان نيكولاس كوبرنيكوس البولندي طبيبا وعالم رياضيات وعالم فلك [3]، وفي نفس الوقت كان رجل دين شغل مناصب دينية برتبة مطران واستُقبلت أبحاثه عن حركة الأرض وعدم مركزيتها ودورانها حول الشمس بحفاوة في بلاط البابا بولس الثالث سنة 1543 قبل أن تنقلب الكنيسة على العلم، ويعتبر هو مطلق الثورة العلمية التي غيرت مصير أوروبا.
أما يوهانس كبلر فكان عالم رياضيات وفيزياء وفلكي ألماني أثرى نظام كوبرنيكوس عن مركزية الشمس وابتكر القوانين التي تسمى باسمه “قوانين كبلر” التي تشرح العلاقات الرياضية التي تسير عليها الكواكب في مداراتها، وهي العلاقات التي استعملها نيوتن لتطوير نظرية الجاذبية في الكون، وكان في نفس الوقت رجلا لوثريا متدينا، بدأ التدريس في المدرسة الإنجيلية بغراس بالنمسا، ورغم اكتشافاته العلمية المهمة لم يخف رغبته في أن يكون قسا بروتستانتيا واعتبر أن ما يقوم به من أبحاث في العلوم الرياضية والفلكية هو واجب ديني لفهم إبداع الخالق في خلق الكون. وأثناء الحرب الدينية فُرض عليها التحول إلى الكاثوليكية فرفض ذلك وتمسك بمذهبه البروتستانتي اللوثري رغم بعض اعتراضاته عليه، وتحول إلى مدينة براغ حيث اشتغل مع عالم فلك آخر مشهور هو تيكو براه.
أما غاليليو غاليلي الفيلسوف والعالم الفلكي والفيزيائي الإيطالي مفسر وناشر نظريات كوبرنيكوس، فكان صديقا مقربا للبابا أوربان الثامن وقد تمت محاكمته سنة 1632 لأسباب سياسية تتعلق بحرص الكنيسة على المحافظة على المكانة والسلطة الاجتماعية أكثر منها لأسباب دينية، بالنظر لتسفيه العلم المتصاعد لقطعياتها البالية، ولو لا صداقته مع البابا لكان مصيره الحرق كما وقع لبعض العلماء غيره.
وأما ديكارت عالم الفلك والعالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي الذي شكل النواة الأولى لعلم “الهندسة التحليلية” فهو مؤسس الفلسفة الحديثة الذي اعتمد على كتاباته حول “الكوجبتو” أو مبدأ الشك[4] مختلف التيارات الوجودية والوضعية بعده، وهو ذاته الذي عمل في كتابه “التأمل” على إثبات وجود الله، وهو من قال[5]: “أن الله كامل عادل لا منتهي و لا محدود، وأنه هو الهادي إلى وجود العالم المادي، وأن “العقل لا يحول دون التصديق أن الأشياء التي نزل بها الوحي الإلهي هي أكثر يقينية من أرسخ معرفتنا وأجدرها بالثقة”، وحاول البحث عن نقطة التقاء مع الكنيسة، وكان يتفادى أي صراع معها إلى حد أنه أخفى كتابه “العالم” عندما سمع بمحاكمة غاليليو، واعتقد أن الكنيسة ستُصلح نفسها وأن فيزياءه ستحل محل فلسفة أرسطو حول نظام الكون في تعاليم الكنيسة، وهو كذلك الفيلسوف الذي درس في حياته في “كلية لافليش اليسوعية” سنة 1606 ودرس الرياضيات والعمارة في الجيش البروتستانتي بهولندا سنة 1618، وهو يرقد في مدفنه في إحدى الكنائس قرب باريس.
وأما بخصوص إسحاق نيوتن العالم الرياضي والفيزيائي الإنجليزي، مكتشف نظرية الجاذبية، فقد كان شغوفا بدراسة الإنجيل واعتبر نفسه مكلّفا من الله تعالى لفك “شفرة الكتاب المقدس” وانتهى إلى الإقرار بوجود التحريف فيه وكان مسيحيا موحدا يعتبر التثليث هو الخطيئة الكبرى التي انتهت إليها المسيحية[6].
إن البيّنات التي تدل على أن البعد الديني كان هو محرك عصر الثورة العلمية الأوربية كثيرة غير أن أنصار العلمانية في أوربا في الغرب وفي سائر أنحاء العالم، لا سيما في بلادنا العربية الإسلامية، يستعملون ما آلت إليه العلاقة بين العلم والدين المسيحي بين القرنين السابع عشر والثامن عشر ليقرروا استحالة النهضة دون الفصل بين الدين والحياة العامة متناسين حقائق التاريخ، إما جهلا حقيقيا بالتاريخ أو إنكارا له. ولكي يسهل عليهم التعميم لا يتجهون إلى تقييم خصوصية الكنيسة الكاثوليكية في خوضها معركتها الخاسرة ضد العلم، أو خصوصية الديانة البروتستانتية بشأن مسؤوليتها في التمكين للتوجيهات الحداثية الإنسانية المجردة عن الدين من أجل إضعاف الكنيسة، وفي تورطها في فتنة الصراع الديني، ثم مسؤوليتها في بروز الاستغلال الرأسمالي وفي خلق الفروق الاجتماعية ومأساة الفقراء في أوربا خصوصا بعد الثورة الصناعية في انجلترا.
إن الصراع بين الكنيسة المسيحية والعلم ما كان له أن يكون لو كانت الحدود بينهما مرسومة على هداية دينية حقيقية كما حدث مع الحضارة الإسلامية وفق ما بيناه في المقال السابق.
لم تكن الكنيسة تضجر بالعلم حينما كان يُؤخذ ويتطور في صروحها الدينية، بل كان من الممكن أن تُراجع بعض مسلماتها بنفسها – كما حاولت حركة الإصلاح البروتستانتية فعله – لو لم يغلبها الزخم العلمي المدفوع بأنوار الحضارة الإسلامية والذي أصبح يكشف حجم التحريف الذي يسكن المعتقدات المسيحية.
لقد كانت المعتقدات المسيحية خليطا من النصوص الإنجيلية والتوراتية والتحريفات التي طرأت عليها، والفلسفات الإغريقية مثل آراء أرسطو ونظريات بطليموس، وما أضافه بعض علماء الدين المسيحي الكبار من آراء أمثال القديس أوغسطين وكليمان الاسكندري وتوماس الأكويني، وقد جعلت الكنيسة هذه النصوص كلها قطعيات مقدسة لا يجب أن يحوم حولها الشك. وبسبب أن رواد النهضة العلمية أمثال كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر وديكارت كانوا قد بدؤوا مسيرتهم العلمية في المعاهد الكنسية، وكانت شخصياتهم متأثرة بالتربية الدينية لم يتعاملوا مع الصعوبات التي وجدوها مع القطعيات الكنسية وتشدد رجالها بالتراجع عن انتمائهم الديني أو مهاجمة الكنيسة أو المجاهرة بإنكار معلوماتها عن الكون، فكوبارنيكوس الراهب لم يعش حالة الصراع في حياته، وجاليليو تراجع عن نقده لمركزية الأرض في الكون انصياعا وخوفا من الكنيسة بالرغم من أنه رأى بطلان النص الديني بعينه حينما وجه تلسكوبه إلى السماء، بل إن ديكارت كان يدعو إلى ضرورة تطبيق المنهج العلمي التجريبي على كل الظواهر الطبيعية ولكن كان يرفض ذلك بخصوص النصوص الدينية وكان متأسيا في ذلك بتوجهات بيكون قبله التي بلورها في القرون الوسطى عن المنهج التجريبي وفق ما ذكرناه أعلاه. ومن القلائل الذين جهروا بأفكارهم المصادمة للمعتقدات الكنسية إلى غاية نهاية القرن السادس عشر هو عالم الدين والفيلسوف وعالم الفلك والرياضيات الإيطالي جوردانو برونو (Giordano Bruno 1548-1600) الذي تم حرقه سنة 1600 في ساحة عامة في روما من قبل الكنيسة بتهمة الهرطقة.
غير أنه حينما انتشرت “الثورة العلمية النيوتونية” ضعفت حجة الكنيسة ولم يبق لها من مدافع سوى العنف المتصاعد ضد العلم. لقد فسر “قانون الجاذبية” الذي ابتكره إسحاق نيوتن انتظام حركة الأجرام السماوية وبيّن بالأدلة العلمية أن الكون يسير ضمن قوانين عقلانية منضبطة وأن القوانين الرياضية والفيزيائية التي تُسيّر الطبيعة يمكن اكتشافها بالتجربة ورأى نيوتن أن الله هو الخالق الأعلى الذي لا يمكن إنكار وجود بسبب عظمة كل الخلق، وأن العالم محكوم بإله متحكم هو مصمم الكون وصانعه حسب أسس منطقية كونية، يمكن اكتشافها من البشر ليحققوا أهدافهم في الحياة[7].
وبالرغم من أن إسحاق نيوتن كان مؤمنا موحدا فقد ساهمت نظرياته بشكل أساسي في بروز المذهب الطبيعي الذي يعتبر أن الكون ماكنة متقنة تسير من تلقاء نفسها دون حاجة لإرادة خارجة عنها، في تحريف واضح لما أراده نيوتن نفسه الذي كان أقرب إلى الفطرة من عبّاد الطبيعة هؤلاء، فبالرغم من أنه هو مكتشف قوانين الحركة والجاذبية فقد حذر من اعتبار العالم مجرد آلة، وقال أن الجاذبية تشرح حركة الكواكب لكنها لا تشرح من حرك الكواكب، فالله يحكم كل شيء ويعرف كل ما هو موجود أو يمكن فعله[8].
كما أن نيوتن كان أعمق بصيرة كذلك من الكنيسة التي أنكرت القوانين التي تُسيّر الكون بحجة أن كل شيء يسير بمشيئة الله فأكد أن الكون يسير من تلقاء نفسه وفق قوانين صارمة ولكن من وراء خلقه والقوانين التي تسيره إله واحد له القدرة على التدخل في خلقه وقت ما شاء. إن الذي يعرف سيرة هذا العالم الرياضي والفيزيائي الفذ يعلم أنه كان كذلك عالم دين كتب في الإلهيات أكثر مما كتب في علوم الطبيعة ومع ذلك لم يسلم من منع رجال الدين لكتبه وإسهاماته العلمية.
لقد تسببت الثورة النيوتونية في تأجيج ثورة العلم في مختلف الاختصاصات ومعها ثورة متصاعدة ضد المسلمات الكنسية التي تجاوزتها الأحداث، فزاد ذلك في طغيان وعدوان رجال الدين على العلم والعلماء، حفاظا على مكانتهم ومرجعيتهم ومصالحهم. وبقدر ما كان العلم يُزحزِح المرجعيةَ الدينية في فهم الكون نهائيا في آخر القرن السابع عشر كانت التطورات الفلسفية الأوروبية لا تكتفي بإبعاد الكنيسة عن المسائل العلمية بل باتت تحاصرها في مختلف مناحي الحياة. ولما حلت الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، وخصوصا حرب الثلاثين عاما، تضعضعت المرجعية الدينية في شأن الحكم والسياسة من خلال صلح وستفاليا كما سنرى لاحقا.
لم يكن الصراع الذي نشأ بين الدين والعلم أثناء عصر النهضة الأوربية ضروريا، وكان يمكن أن لا يتفاقم في القرن السابع عشر حينما اتسع إلى ساحات الأدب والفنون والفلسفة والفكر ونظريات المعرفة والسياسة والاجتماع ليصل إلى ذلك الصدام التاريخي في العصر المسمى “الأنوار ” في القرن الثامن العاشر لينتهي إلى حالة الفراق النهائي في القرن التاسع عشر. لم يكن للبشرية أن تبتلى بالجدال التعيس الأبدي بين الدين والعلم الذي فرضه التاريخ الأوروبي الخاص على سكان الأرض جميعا لو لا انحراف المعتقدات الكنسية وطغيان رجال الدين من جهة، والانفلات المتدرج من الإيمان بالغيب ومن الرقابة الدينية، الموصل إلى الغرور اللامتناهي لدى الفلاسفة الغربيين من جهة أخرى. لقد كان الصراع في حقيقة الأمر بين الكنيسة والعلم وليس بين العلم والدين.
لم تكن الكنيسة الكاثوليكية تتوقع أن الثورة العلمية التي نشأت بذورها في معاهدها ستغلبها، ولم يع رجالها أن العلم اليقيني لا يتماشى إلا مع الوحي الصحيح. لقد ساعد انكسار المسلمات الكنسية ودخول الشك الواسع فيها بسبب الانتشار الواسع لأفكار كوبرنيكوس وجاليليو وبرونو وثبات أساسياتها بالمشاهدة عبر التلسكوب في القرن السابع عشر إلى مزيد من التباعد بين المجال الديني والمجال العلمي، وكانت قوانين نيوتن حاسمة في تأسيس المذاهب الطبيعية.
كان هؤلاء العلماء الذين فجروا الثورة العلمية الأوربية فلاسفة كذلك، إذ كان عصر النهضة عصر العلماء الموسوعيين، ولكن لم يؤد اهتمامهم بالفلسفة إلى البحث عن مخاصمة الدين، خلافا للعلماء الذين اشتهروا بملمحهم الفلسفي أكثر من اهتماماتهم بالعلوم الكونية.
لقد كانت المعركة التي خاضتها الكنيسة مع الاتجاهات الفلسفية أكثر ضراوة من صراعها مع الاكتشافات الكبرى في علوم الطبيعة. ويمكننا القول أن رفض الكنيسة لاكتشافات علوم الفلك والرياضيات والفيزياء هو ما جعل الاهتمام بالفلسفة يتعاظم عند العلماء لمواجهة أطروحات الكنيسة.
ومما يجدر الانتباه إليه أن رواد العلوم الكونية، الذين كانوا كذلك فلاسفة، لم يكونوا يرغبون في مواجهة الكنيسة ولم يكونوا متنكرين للدين، خلافا للعلماء الذين اشتهروا بالفلسفة، فهؤلاء هم من ناصبوا الكنيسة العداء ونظّروا لإخراجها من الشأن العام، ثم من حياة الناس لاحقا. فلئن كانت الاكتشافات العلمية الكونية هي التي زعزعت مصداقية الكنيسة بشكل تلقائي، حين كشفت زيف معطياتها العلمية “المقدسة” وفق ما بيناه أعلاه، فإن الذين نظموا وأطروا إخراج الديانة المسيحية من الحياة العامة هم الذين انصب اهتمامهم أكثر على الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلم النفس والسياسة ومختلف مجالات الفكر، ولو أردنا أن نعدد الفلاسفة الأكثر تأثيرا في القرن السابع عشر في التنظير لإنهاء المرجعية الدينية كقيمة عليا في اجتماع الناس لكان من أبرزهم الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس (Thomas Hobbes 1588-1679) والهولندي باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza 1632-1677)، والانجليزي جون لوك ( john locke 1632-1684). سنبين في المقال المقبل بحول الله كيف أثّر هؤلاء الفلاسفة وأمثالهم في رسم العلاقة بين الدين والعلم والسياسة على نحو جديد، ثم نتحدث عن فلاسفة الأنوار الأساسيين الذين نقلوا الصراع مع الدين إلى مستوى العدمية والإنكار المتبادل.
وفي مقالات لاحقة نفصل بإذن الله تعالى في دور الإصلاح الديني البروتستانتي في التمكين للمذاهب الطبيعية والوجودية والليبرالية وتوجهات الفردانية ضمن تحالفات موضوعية تاريخية ضد الكنيسة، وخلفية ذلك في محاولة الغرب اليوم إنشاء بروتستنتية إسلامية تؤدي نفس الدور في العالم الإسلامي، وبعد ذلك سنتطرق إلى أثر الصراع الأوربي العثماني في تحديد علاقة أوربا المسيحية مع الديانة الإسلامية، لنختم سلسلة هذه المقالات في تبيان إجابات الحضارة الإسلامية عن اعتراضات فلاسفة المذاهب الطبيعية والعلمانية، التي استفادوا من علومها ولم يستفيدوا من هدايتها … لنسأل في الأخير: ماذا لو كان المسلمون في ذلك الوقت – بين القرن الخامس عشر والتاسع عشر – في المستوى الحضاري المطلوب؟ ولنكمل البحث لاحقا هل تستطيع الحضارة الإسلامية أن تُستأنف من جديد بهدايتها وأهليتها العلمية لإنقاذ البشرية من أوهام الشك والإلحاد والإباحية التي تسبب فيها ذلك الصراع النكد الذي حدث بين المسيحية والعلم؟