يشهد مجتمعنا انهيارا في "بورصة" القيم عموديا وأفقيا، حيث تمد الرداءة عنقها متطاولة، وترفع البذاءة قبضتها، تحرّف كل جميل في أقوالنا، وتكسّر كل طيب في سلوكياتنا، وتدنّس كل صالح في تعاملاتنا وذلك نتيجة عوامل متداخلة، قد يكون مردّها:
- ذبول الوازع الديني في نفوس الناس.
- تأثير العولمة المتوحشة.
- فساد مقولات الإعلام المرتزق.
فَالعولمة تجاوزت الهيمنة السياسية والاقتصادية، إلى تسويق ممنهج للقيم الغربية الأمريكية، منها قيم الاستهلاك والانفراد والإباحية، وازدراء الدين وتمجيد الفكر المادي، إلى المجتمعات المسلمة عن طريق قنوات الإعلام والتواصل والاحتكاك المباشر، مما جعل كثيرا من الشباب يتبنّى المظاهر الغريبة الخارجة عن أعرافنا المحافظة مثل اللباس، وغياب الحشمة وتبني اللامبالاة والتمرد على الأعراف،
مما جعل القيم ذات بعد أفقي، كتلك التي تربط الأفراد ببعضهم، وتشجع على التعاون والتكافل والتضحية، وتوقير الكبير ورحمة الصغير والعمل الجاد، واضمحلت وتركت المكان لعقلية عدم الاهتمام بالآخر، وظهرت سلوكيات علمانية غريبة، وهذا يحتم علينا ضرورة البدء والمبادرة في الحين، والتذكير بكل ما من شأنه أن يعين على إنتاج القيم وحفظها وحمايتها، وخير مصدر مُلهم ومزوّد لهذا المطلوب المرغوب هو مدوّنات السيرة النبوية نلتقط منها قبسات من الهدي النبوي في إنتاج القيم.
التربية كما البستنة تحتاج إلى عناية دائمة
حسب علم البستنة وفقه الزراعة تكون التربة عادة بيئةً مناسبة لنمو الجراثيم والفيروسات إذا ما تركت فترة طويلة خاملة من دون زراعة، أو إذا مات فيها نبات مزروع، فتلك الجراثيم والفيروسات تؤثر بشكل سلبي على النباتات الجديدة المزروعة فيها، وقد تؤدي الى ذبولها وموتها، فيجب إذن التخلص من تلك الجراثيم، وتنظيف التربة قبل استخدامها للزراعة، وهذا في الهدي النبوي يعبر عنه ب "الإفراغ والإملاء" الذي كان يعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية والتكوين، فقد تحدث الصحابة الكرام عن ذلك بقولهم "كان يفرغنا ثم يملِؤنا" ولهذا أزهرت قلوبهم وأينعت قُطوفهم، وامتد نفعهم وتأثيرهم الإيجابي.
كثيرا ما نسْتعمل الحكمة الصينية التي تقول "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها" نستعملها عادة في الحث على العمل، وبذل الجهد والتعب من أجل اللقمة الحلال، وحفظ ماء الوجه من التسول، وترك الاتكال على عطاء الآخرين.
أمامه الأنصاري مع رسول.. حكمة بطعم نبوي
وفي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي أمامه الأنصاري شبَهٌ بهذه الحكمة، ولكن بطعم نبوي متميز، فعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِى أَرَاكَ جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ فِى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ).
قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ)، قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ)، قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِى."
كان بمقدور الرسول أن يعطيه بعض المال، أو أن يحيله إلى بعض الميسورين من الصحابة ليُقرضوه، ولكن أراد النبي أن يجعله ذاتا منتجة، فدعاه إلى التخلص من الأفكار السلبية كالهمّ، والعجز والجبن، وإلى التطهّر من المثبّطات كالحُزن، والكسل، والبخل ..فلما حققها فعلاٌ وقولاٌ، حصل على المنشود، وتغير الحال وارتقى من مواطن مستهلك عالة على غيره، إلى مواطن منتج، مساهم في التنمية، علمه الرسول كيف يصطاد، وخلصه من التبعية.
خطة لعلاج التسول من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصة الرجل الأنصاري الذي جاء إلى الحكومة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، يسأل عطاء ومنحة ويتسوّل بلغة عصرنا، فعلمه الرسول كيف يعتمد على نفسه ويسترزق بكد يمينه.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ قَالَ بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ، وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ، قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَال رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي به، عندما جاءه بالقدوم شد النبي بيد الشريفة عليه عصى، وقال: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا ثُمَّ قَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ" وهكذا اكتسب المجتمع يدا عاملة جديدة وجادة، منتجة، وشطب رقما من قائمة المتواكلين والمتسولين.
كذلك في موقف أحد تلاميذ الرسول "عبد الرحمن بن عوف" رضي الله عنه الذي أبت عليه عفّته، ورجولته وإيمانه أن يكون عالة على أخيه "سعد بن الربيع" عندما عرض عليه أن يقاسمه ماله وأهله فقال كلمته المشهورة " دلني على سوق المدينة "، ليكسب رزقه بنفسه، وينمي وضعه المادي من خلال استثمار مواهبه في البيع والشراء، وفعلا بعد خمسة عشر يوما كسب المال وتحسنت حاله، وارتقى من محتاج معدوم إلى غني مستور الحال.
نحن بحاجة إلى تفعيل وتحيين هذا الهدي النبوي الشريف، في غرس قيم العمل والاعتماد على النفس، والكسب الحلال وبذل الجهد، وضرورة التطهر والتخلص من الأفكار السلبية المعيقة للفعل المنتج والحركة الخلاقة المبدعة.