سيمثل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بدون أي شك محطة استثنائية في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي. كما من المؤكد كذلك أن المشهد والديناميات الإقليمية بعد هذه الجولة لن يكونوا كما كانوا قبلها. ولعل من أهم المتغيرات الجوهرية التي باحت بها إلى حد الآن، اتساع المسافة في المواقف الرسمية بين أمريكا أو المركزية الغربية من ناحية والدول العربية الحليفة (السعودية، مصر، الأردن) من ناحية أخرى.
وقد مثلت محاور الخلاف الرئيسية بين واشنطن وحلفها العربي-السني، الذي ترى فيه مرتكز قوة إقليمي للمساهمة في "صناعة السلام والاستقرار" وضمان استمرار المصالح الحيوية الغربية في المنطقة (الممرات التجارية، تدفقات الطاقة، أمن إسرائيل)، على غرار ما كان عليه حلف بغداد (بريطانيا، العراق، تركيا، باكستان، إيران) أثناء الحرب الباردة أو ما أصبح يعرف في السنوات الأخيرة ب "مشروع الناتو العربي": خفض التصعيد مقابل منع التصعيد، ممرات للمساعدات الإنسانية مقابل ممرات آمنة للخروج، اختلاف اتجاهات ومنسوب الإدانة.
ولأن الرفض المصري -ضمن هذا الإطار- لتهجير قطاع غزة إلى سيناء يمثل عاملا وازنا ومرجّحا في مآل هذا السيناريو الذي يشغل الرأي العام العربي، فقد دارت تساؤلات كثيرة حول حقيقة هذا الرفض وفرص صموده. لذلك يحاول هذا المقال طرح الإشكالية التالية: كيف يمكن فهم هذا التموقع الجديد لحلفاء واشنطن العرب ؟ ما هي مرتكزاته وفرص استمراره؟
-
الفرصة السياسية المتاحة على الساحة الدولية:
مكنت تشققات النظام الدولي وما يعيشه عالم القطب الواحد من تحولات، من مساحات أكبر للمناورة وهوامش من استقلالية القرار الإستراتيجي. وقد أظهرت الأشهر والتطورات الأخيرة قدرة دول "الناتو العربي" على بناء سياسات متمايزة عن "الناتو الغربي" تجاه القضايا الدولية الأهم (حرب أوكرانيا، التنافس الصيني-الأمريكي). كما أن إعادة ترتيب الأولويات في وثيقتي إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2022 والمفهوم الاستراتيجي الجديد للناتو في نفس السنة، يظهر بوضوح التوجه أكثر نحو جبهتي بحر الصين الجنوبي وروسيا، مما تسبب في "فراغ قوة" في العالم الإسلامي.
-
الديبلوماسية الخلاقة تستبدل الشرطي الأمريكي للمنطقة:
بعد انقضاء نحو عقد من انطلاق حربها العالمية على الإرهاب في خريف 2001، بدأت الولايات المتحدة تفكر بجدية في التخلي عن دور شرطي المنطقة، الذي استنزفها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991. وقد كان تراجع انتشار قواتها في "الشرق الأوسط الكبير" منذ توقيع الانسحاب من العراق سنة 2008، مصحوبا بتراجع تدريجي لأدوارها في صناعة "قرار السلم والحرب" في المنطقة، بعد أن كانت تمسك به بالكامل. وبعد مشهد انكسار النفوذ الأمريكي في أفغانستان أواخر أوت/ أغسطس 2021، دعى كيسنجر إلى إعادة إنتاج "نظرية الأرض" التي حكم بها البريطانيون شبه القارة الهندية لقرنين بدون جنود. ليؤسس بذلك لما سماه ب "الديبلوماسية الخلاقة" التي تقضي بالاعتماد أكثر على مرتكزات القوة الإقليمية في مقابل أن تكون التدخلات المباشرة بالأدوات العسكرية محدودة وذات أهداف حيوية. وذاك ما كان يحدث فعلا في المنطقة منذ سنوات، ليتنامى بذلك دور الفواعل الإقليمية على طريق تثبيتها لمعادلة "حلول إقليمية من أجل المشاكل الإقليمية". وقد مثل الربيع العربي (2011-2021) امتحانا عسيرا ومكلفا لهذا التوجه، ولكن الأنظمة العربية المركزية وكل مراكز القوة في المنطقة بدأت تتجاوزه.
-
المحاور الإقليمية ما بعد الربيع العربي:
طيّ صفحة الربيع العربي أعاد تشكيل المشهد الإقليمي على ما كان عليه قبلها تقريبا. إذ يبدو أن ما عرف ب "محور الاعتدال"، قد استعاد قدرته على التقارب وبناء المواقف المشتركة. وهو الذي انقسم على نفسه في التعامل مع الثورات العربية (محور الثورة، محور الثورة المضادة). لا شك أن المسار الذي انطلق بوضوح منذ قمة العلا في جانفي/ يناير 2021، قد أسس لأرضية مهيأة من التفاهمات -شملت جل الملفات الإقليمية المفتوحة- بما سمح من الوصول إلى ما يبدو أنه نقطة توافق استراتيجي حول رفض "سيناريو الترانسفير" أو التهجير.
من ناحية أخرى فإن المحور الإيراني أو ما يسمى ب "محور المقاومة" قد نجح في استيعاب صدمة الربيع العربي واعادة ترتيب أوراقه، بما سمح له من توسيع نفوذه في الهلال الشيعي وفرض أدواره الإقليمية أكثر. كما أن علاقة طهران بالدول العربية المركزية، لم تعرف خفضا في زوايا الخلاف وتقدما في التفاهمات منذ الثورة الإيرانية سنة 1979، كما عرفته في الفترة الأخيرة في إطار إعادة ترسيم شبكة العلاقات الإقليمية. وبذلك فإن فرص التنسيق بين محوري الاعتدال والمقاومة متاحة هذه المرة أكثر من كل المحطات السابقة. وعموما فإن هناك مؤشرات عديدة في هذا الاتجاه، أهمها الاتصال الهاتفي بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
-
المنطلقات الذاتية الصلبة في معادلات الأمن القومي:
بمراجعة البيانات والتصريحات الرسمية، يمكن الوقوف على تمثل الدول العربية الثلاث لتهديد أمني مشترك تحت عنوان "تصفية القضية على حساب دول أخرى". اذ ينطلق موقف كل من مصر السعودية والأردن، من معطيات صلبة وثابتة وأخرى متغيّرة ولكنها ضاغطة في معادلات أمنها القومي:
- العقيدة العسكرية لجيوش تلك البلدان، مازالت ترى في إسرائيل تهديدا أمنيا محتملا رغم عدد الاتفاقيات وحجم العلاقات الموجودة معها. وفي كل الحالات فإن بقاء إسرائيل في حالة استنزاف قد مثّل عنصرا شبه ثابت في معادلة الردع العربي-الإسرائيلي، لم يتغير تقريبا منذ تأسيس هذه الأخيرة في 1948.
- كما أن كل تجارب استضافة المخيمات الفلسطينية أثبتت أنها تمثّل تحديا جديا للأمن الداخلي في حالة دول الطوق، وهذه صور أيلول الأسود في الأردن عام 1970 وبعدها لبنان في حربه الأهلية بداية من 1975 وحرب مخيم النهر البارد سنة 2007.
- ومن جهة أخرى فإنه سيجلب معه تهديدا للأمن الخارجي لتلك الأنظمة قد يبلغ حد الهجوم البري من إسرائيل مثل؛ حرب الكرامة في غور الأردن في 1968، حصار بيروت واحتلال الجنوب اللبناني بداية من 1982، أو قصف حمام الشط في تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 1985، هذا فضلا عن الاغتيالات والاختراقات الأمنية.
- وأخيرا، فإن تصاعد الضغط الشعبي يجعل من قبول النظام المصري بصفقة التهجير أمام خطر الارتطام بالشارع الذي يحمل الكثير مما يجعله قابلا للانفجار في القاهرة وعدد من العواصم العربية الأخرى. وهذه الاضطرابات قد تنتقل بفعل "تأثير الفراشة" إلى أكثر من بلد، فصور الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية مازالت ماثلة في أذهان صناع القرار.
خاتمة
تتداخل عوامل ومحدّدات كثيرة في توجيه المآلات؛ متى وإلى أين وكيف ستنتهي هذه الانعطافة الاستراتيجية؟ ولا يمكن لأي كان، أشخاصا كانوا أو مؤسسات الجزم بها. أقصى ما تقوم به خلايا التفكير والتخطيط الاستراتيجي، هو العمل على تصميم وتعداد السيناريوهات، ثم تصنيفها حسب احتمالية وقوعها (ممكنة، محتملة، مستبعدة، مجنونة).
ولكن الواضح حاليا، أن قدرات الصمود الذاتي داخل قطاع غزة، مازالت رغم كل تعقيدات المعادلة أصعب رقم فيها. وهذا سيعزز بالتالي من فرص استمرار الرفض العربي كلما زادت تكلفة عملية التهجير من حيث الزمن والثمن على إسرائيل والحلف الغربي الداعم لها. كما أنها ستزيد كذلك بزيادة التنسيق بين المواقف الرافضة في الإقليم، سواء بتعزيز الجهود -الحاصلة فعلا- مع تركيا وإيران أو بالإتجاه نحو الجزائر وتونس مثلا. وكذلك فإن الموقفين الروسي والصيني يسمحان بهامش مناورة مهم على الساحة الدولية، خاصة إن أضفنا إلى ذلك وجود قوى اقتصادية ناشئة (البرازيل، جنوب أفريقيا) تتبنى توجهات مشابهة.
إلا أن ذلك يفتح على مخاطر وتحديات كذلك؛ كخطر الارتهان للسقوف الايرانية المتحركة والمرتبطة بملفات كثيرة أخرى، كما أن الخروج من مأزق أوكرانيا وتخفيض التنافس في المحيط الهندي قد يحصل على حساب القضية الفلسطينية والدماء العربية-السنية في قطاع غزة. وأما التحدي الحقيقي أمام موقف الحكام العرب-السنة فيبقى في مدى قدرتهم على بناء الثقة المفقودة مع الجماهير العربية التي تتبنى سقوفا وخطابا أعلى بكثير، وتحمل في ذاكرتها صورة جد سلبية عن مواقف تلك الأنظمة من القضية الفلسطينية منذ اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978، فضلا عن أزمات الشرعية وانسداد الواقع السياسي وهشاشة الجبهات الداخلية.