(هذا تفريغ نصي لمحاضرة ألقاها أ. وضاح خنفر رئيس منتدى الشرق يوم الثلاثاء 03 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020م).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
هذه الليلة مهمة بالنسبة لقطاعات عريضة من المهتمين بالشأن العام في عالمنا العربي والإسلامي، لأنها ليلة الإنتخابات الأمريكية، واهتمامنا بالانتخابات الأمريكية ليس جديدا، ولا يثير أية دهشة، فالولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الفاعل الأهم في تشكل موازين القوة الدولية، حتى هذه اللحظة على الأقل.
ما الذي يجعل الإنتخابات الأمريكية في واشنطن حدثاً محلياً في كل عواصم العالم العربي على وجه التحديد؟ لدرجة أننا نتلهف لمتابعتها أكثر من تلهفنا لسماع أخبار إنتخابات بُلداننا أو جيراننا أو الدول الأوروبية الأخرى، الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هي القطب الأهم في العالم الذي يسيطر على موازين القوة الدولية بشكل مباشر، وهذا صحيح، ولكن نحن في العالم العربي كيف وصلنا إلى لحظة تاريخية يكون فيها الغرب هو المركز، وهو مربط الفرس بالنسبة لنا جميعاً، ولذلك نحرص جميعا كل الحرص: حكوماتنا ومُعارضاتنا، مثقفونا وعامتنا، وكل النخب المتحكمة وغير المتحكمة في عالمنا العربي تحرص كل الحرص على متابعة ما يدور في أمريكا وفي الغرب عموما، بل وتطور مواقفها وبرامجها وخطابها مستحضرة، في الخلفية الذهنية، الغرب كمرجع أساسي في بناء هذه المواقف والبرامج.
«الانقلاب الاستراتيجي».. كيف صنع الإسلام أوروبا؟
الحقيقة التي أود أن أبدأ بها هي التالي: عالمنا المعاصر صنعته أوروبا.
لا نستطيع أن نحسم لحظة البداية للعالم الحديث، ولكنني أختار مؤتمر فيينا لعام 1815م الذي انعقد بعد الحروب النابليونية، لأنه أسس لفكرة الإستقرار ونواة العمل الأوروبي المشترك، وقد أثر ذلك وبشكل مباشر على عالمنا الإسلامي، لأن الدول الأوروبية بدأت وبشكل حثيث تسعى لوراثة الدولة العثمانية التي كانت تتراجع وبشكل تدريجي، وهو الهدف الذي تحقق بالفعل بعد مائة عام عندما تفككت الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
نحن نعرف أن أوروبا هي التي صنعت واقعنا الاستراتيجي والسياسي، ولكن من الذي صنع أوروبا؟
في الحقيقة لا أتردد في القول بأن الذي صنع أوروبا استراتيجيا هو الإسلام.
لماذا؟
أوروبا عبر تاريخها تستند إلى تراث إغريقي روماني، ولنقل تستند إلى تراث إغريقي فلسفيا وإلى تراث روماني استراتيجيا وسياسيا، فالوعي الاستراتيجي تشكل عبر الإمبراطورية الرومانية التي تصدرت القوى العالمية قرابة 1500 عام، وأصبحت خلالها القطب الأهم في السياسة الدولية، الدولة الرومانية هذه شكلت المعيارية السياسية للفكر الغربي، ولذلك أصبحت متضمنة بشكل تلقائي في الذهنية الغربية وصولا إلى عصرنا الحاضر.
تراثها الذي امتد 1500 عام كان ذو أثر بالغ على الوعي الاستراتيجي الأوروبي تحديدا، وعلى مفهوم السياسة عموما، وهو تأثير تعدى أوروبا إلى بقية أرجاء العالم، على الأقل في معياريته ورمزيته.
لا شك أن بروز الإسلام كظاهرة استراتيجية مفاجئة بدأ بمحاصرة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، مؤذنا بصراع استمر قرونا طويلة حتى حُِسمَ وبشكل نهائي للإسلام.
في الثاني عشر من ديسمبر عام 627م حدث ما يلي: استطاعت الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية) بقيادة هرقل أن تهزم الدولة الفارسية في معركة حاسمة اسمها معركة نينوى، وهي المعركة التي أدت في نهاية المطاف إلى حسم الحرب الدولية البيزنطية الفارسية لحساب القسطنطينية، وكان من المفترض بعد انهيار الامبراطورية الفارسية، القطب الدولي الأعظم في ذلك الزمن، أن تتبوأ القسطنطينية إمن دون منازع السيادة العالمية، وأن تشكل موازين القوة الدولية وفقا لمصالحها، وأن تعيد استرداد الأراضي الأوروبية التي خسرتها الدولة الرومانية القديمة للقبائل الجرمانية، كان من المتوقع أن تبعث القسطنطينيةُ ألقَ روما من جديد.
من حروب الفرس مع الروم - موقع about-history
لكن المفاجأة التي لم تكن بحسبان هرقل ولا بحسبان أحد من أمراء أوروبا، أنه وبعد ست سنوات فقط، في أغسطس من عام 636م هزمت جيوش المسلمين في معركة اليرموك بقيادة خالد بن الوليد جيوش الروم هزيمة ساحقة.
لم تكن الامبراطورية الرومانية تحسب للقبائل العربية أي حساب استراتيجي، إلا ما تعلق بكف هجمات الأعراب على الأراضي الواقعة تحت الهيمنة البيزنطية طلبا للغزو والمغنم، أما أن يكون العرب قوة استراتيجية هائلة تهزم الجيش الأعظم في العالم، فإن ذلك ما لم يكن بحسبان أحد.
خسرت الدولة البيزنطية بعد اليرموك بلاد الشام ثم مصر، و هي خسارة بالغة الأثر، فالشام كانت أرض الصراع الدامي ولوقت طويل بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، أما مصر فكانت سلة قمح القسطنطينية ، وروما من قبل، وخسارة كل من المنطقتين المطلتين على البحر المتوسط، والذي كان يسمى بحر الروم، سيؤسس لنفوذ إسلامي في أهم نطاق استراتيجي في عالم يومئذ، وهو البحر المتوسط، فما اكتمل ذلك القرن حتى أصبح البحر المتوسط بحراً إسلامياً.
البحر المتوسط في ذلك الوقت ليس في مثل مكانته هذا اليوم، نعم هو مهم حاليا وما زال الصراع مستمرا عليه، لكنه في ذلك الوقت كان هو الأهم عالمياً، وكان الصراع الدولي يتمحور على المتوسط. فالذي يملك المتوسط وقتها يتحكم بطرق التجارة، ويهيمن على قلب العالم القديم، المسلمون استطاعوا في فترة وجيزة جداً أن يُسيطروا على شمال أفريقيا وعلى بلاد الشام المُطِلة على البحر المتوسط، وبالتالي بدأ البحر المتوسط وبسرعة يصبح بحرا إسلامياً.
«بحرٌ مُسلم وحَراكٌ غير مسبوق».. أبو أوروبا يُواجه المسلمين!
في عام 800م كانت الدولة العباسية تُسيطر على العالم الإسلامي، وكان خليفة بغداد في ذلك الوقت هو هارون الرشيد، في ذلك العام اضطرت أوروبا أن تبدأ حراكاً غير مسبوق نحو التوحد، مما يعتبره المؤرخون بداية القرون الوسطى، وكان العامل الأهم في فكرة الوحدة هو مواجهة الخطر الإسلامي الزاحف، فتأسست الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة شارلمان، ملك الافرنج.
درسنا في كتب التاريخ أن كلا من شارلمان وهارون الرشيد كانا على وفاق، وأنهما تبادلا الرسائل والهدايا، وهذا صحيح، ولكن سبب ذلك كان استراتيجيا بامتياز، فعندما أهدى هارون الرشيد لشارليمان فيلا ، أسمه أبو العباس، كان يرمي إلى تعزيز الهوة بين الإمبراطورية الرومانية الغربية وبين الامبراطورية الرومانية الشرقية في القسطنطينية، ذلك أن الرشيد كان يطمح لفتحها، وهو بذلك يود أن يعمق العلاقة مع شارلمان لكي يحقق هدفه، أما شارلمان فإنه هو الآخر كان حريصا على علاقة حسنة مع هارون الرشيد، ذلك أن عدوه الأول هو الدولة الأموية في الأندلس، وهي عدو مشترك لكل من الطرفين، الأوروبي والعباسي.
يُعتبر شارلمان حاليا والد الفكرة الأوروبية، لأنه جمع الأوروبيين بعد تناحر شرس، ووظف في ذلك الخوف من المسلمين وفتوحاتهم التي بدأت تحاصر أوروبا في البر وفي البحر.
الأندلس في ذلك الوقت كانت في زوج قوتها، وتحاول أن تتوسع شمالا، من ناحية ثانية كانت كل سواحل المتوسط الجنوبية، التي كانت تاريخياً جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، تحت حكم العباسيين المسلمين.
ابن خلدون، الذي عاصر تلك المرحلة، وصف البحر المتوسط بأنه بحر إسلامي، لدرجة أنه لا يمكن للنصارى أن يبعثوا بطَوفٍ من الخشب فيه بدون إذن المسلمين.
أدرك شارلمان أن الوسيلة الوحيدة لتوحيد أوروبا وإماراتها المتصارعة هي التخويف من الخطر الإسلامي الداهم، وقد نجح في ذلك بالفعل، وعلاقة الود مع الدولة العباسية ومع هارون الرشيد تحديداً عائدة لأسباب سياسية وجيوسياسية، وليس لأسباب تتعلق بشخصية الزعيمين في ذلك الوقت، فلم يكن شارلمان ينظر بود إلى الدولة البيزنطية الأرثودكسية عدو العباسيين المباشر، ولم يكن هارون الرشيد ينظر بود إلى الدولة الأموية في قرطبة، عدو شارلمان المباشر، بالمقابل كان على كل منهما أن يمد يد الصداقة للآخر طمعا في تحقيق مغانم استراتيجية مشتركة.
«لولا محمد لم يكن شارلمان».. متى أوقفت أوروبا صدّ النفوذ الإسلامي المتصاعد؟
أوروبا التي نعرفها تشكلت استراتيجيا نتيجة تدافع مع الإسلام، بمعنى أن الصعود الإسلامي أدى إلى تجمع قادة أوروبا وإمرائها، ويلخص بعض المؤرخين ذلك بالقول: "لولا محمد لم يكن شارلمان"، لأن شارلمان وظف الخوف من الإسلام من أجل توحيد أوروبا، ومنذ ذلك الوقت أصبح التخويف من الإسلام أداة استراتيجية في يد ملوك أوروبا عبر مراحل عديدة.
معظم المراحل الرئيسية التي دفعت أوروبا إلى وقف القتال واللقاء كانت لها علاقة بالنفوذ الإسلامي المتصاعد، على سبيل المثال معركة ملاذ كرد وقعت في عام 1071م وهي معركة قادها الزعيم السلجوقي المسلم ألب أرسلان ضد القوات البيزنطية في الأناضول، وهزيمة الدولة البيزنطية فيها أدت إلى فتح معظم أراضي الأناضول، يعني أن معظم أراضي تركيا التي نعرفها اليوم فُتحت في معركة ملاذ كرد.
الدولة البيزنطية الشرقية كانت على عداء مع الامبراطورية الرومانية الغربية في ذلك الوقت، لأن الأولى كانت أورثوذوكسية والثانية كاثوليكية، وكان الصراع بينهما محتدما حول النفوذ والسيطرة على البحر المتوسط، على إثر هزيمة ملاذ كرد الحاسمة اضطر إمبراطور القسطنطينية للاتصال ببابا روما، وطلب منه النجدة، وهذا أمر نادر، نظرا لما بين الطرفين من تاريخ في العداوة، وقَبِلَ الامبراطور فكرة الوحدة بين الكنيسة الاورثوذوكسية والكنيسة الكاثوليكية، بل بدأت إجراءات توحيد الكنيستين على يد البابا لإنقاذ ما تبقى من الدولة البيزنطية من المسلمين، وقَبِل البابا بطلب الامبراطور، وعلى إثر ذلك انطلقت الحملة الصليبية.
جاءت الحروب الصليبية بفعل نداء من البابا أوربان عام 1095 م تحت شعار ديني لإنقاذ بيت المقدس وقبر المسيح من الكفرة المسلمين، ولكن في الحقيقة دوافع الحملة كانت استراتيجية بالأساس، مرتبطة بمحاربة التمدد الإسلامي وبمستقبل السيطرة الكاثوليكية على مقاليد الديانة المسيحية.
البابا ألقى كلمة خطيرة ومهمة لو قرأتموها لوجدتْموها تحمل الروح التي يتحرك بها بعض ساسة أوروبا من اليمين المتطرف اليوم، فقد جاء فيها:
"يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى فى تلك البلاد، بلاد المسيحيين فى الشرق، قلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها فى شهرين كاملين.. على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم، أنتم يا من حباكم الله أكثر من أى قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا – الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست – لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بمن يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية . طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، وأقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تتخلصوا من ذنوبكم ، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السموات".
ومن الواضح كيف استخدم البابا الحجج الدينية والعاطفية إلى جانب الإغراء بالمغانم والتوسع في الأرض، والصحيح أن الهدف بقي طوال الحروب الصليبية استراتيجيا يُستخدم فيه الدين ذريعة وأداة للحشد والصراع.
أعطي البابا الضوء الأخضر لكل المذنبين والمجرمين المدانين للمشاركة في الحملة الصليبية ضد المسلمين، ووعدهم بأن تُغفَر لهم ذنوبهم مقابل مشاركتهم في الحرب، وكل مُشارك سيدخل الجنة من دون شك.
انطلقت الحملة الصليبية الأولى في عام 1095م، وفي 1099م استطاع الصليبيون الاستيلاء على القدس، وبهذا تمكن البابا من توحيد أوروبا للمرة الثانية تحت شعار ديني، ولكن ذو دوافع استراتيجية أساسية من بينها:
- استعادة النفوذ والتأثير في البحر المتوسط.
- السيطرة على القدس، وتحقيق الهيمنة الكاثوليكية في مقابل المسيحية الأرثودكسية.
السلاجقة في ذلك الوقت لم يكونوا على قلب رجل واحد، ما بين معركة ملاذ كرد وسقوط القدس كانت الدولة السلجوقية قد تفككت إلى مجموعة من الإمارات، وبعض هذه الإمارات شاركت في الحروب الصليبية أيضا.
الدولة الفاطمية كانت تحكم مصر وكانت تميل إلي الصليبيين ضد السلاجقة، وسقوط القدس كان نتيجة حتمية لهذا التفتت الهائل، مما يذكرنا بالصراعات الحالية في واقعنا العربي والإسلامي.
ومن أجل أن يقوم المسلمون بإنقاذ القدس وحّدَ صلاح الدين الأيوبي بلاد الشام ومصر تحت هدف استراتيجي واحد، أي أنه أسس مركزا جيوسياسيا موحدا له أولوياته الاستراتيجية النابعة من المصلحة الجامعة للمسلمين في حينه، وأنهي التناحر القائم على الأهواء الفردية والطموحات الصغيرة.
مفهوم الوحدة في أوروبا كان له علاقة بالمسلمين، فالوعي الاستراتيجي الذي تشكل في أوروبا كان مرتبطا بالخوف من انتشار الإسلام، والخوف من هذا الزلزال الاستراتيجي الجيوسياسي الذي أحدثه الإسلام من حيث لا يتوقعه الناس، لأن الصراع التقليدي التاريخي كان بين الفرس والرُوم، والمسلمين والعرب بالتحديد لم تكن لهم أية صفة استراتيجية في عالم ما قبل القرن السادس الميلادي.
فيمَ تختلف الفُتوحات الأوروبية عن الفتوحات الإسلامية؟
لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أطلق وعيا استراتيجيا جامعا لم يكن للعرب أن يتحصلوا عليه من غير الدين، فقد استطاعوا خلال سنوات قليلة أن يطيحوا بالقطبين الدوليين الأعظمين وأن يشكلوا امبراطورية حيوية متدفقة خلاقة، لم تستطع أوروبا أن تفعل شيئا حيالها سوى محاولة التوحد من أيام شارليمان وصولا إلى الصليبيين، ثم بعد ذلك وصولا إلى اللحظة التي اكتشفت فيها أوروبا أنها اقتصاديا قد بدأت تتفكك وتنهار، وذلك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لأن طرق التجارة كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية، وأرادت النخبة الأوروبية البرجوازية الوصول إلى مصادر السلع مباشرة في الهند والصين.
وهنا بدأت الاكتشافات الجغرافية، وبَدأ البرتغاليون يلتفون حول رأس الرجاء الصالح، وبدأ الإسبان يتجهون نحو أمريكا اللاتينية، وبدأت الفتوحات الأوروبية الاقتصادية تؤثر على الاحتكار الإسلامي لطرق التجارة مما أدى بعد ذلك إلى تراجع اقتصادي خطير في الدولة العثمانية، ونمو اقتصادي هائل في الدول الأوروبية.
المهم في ظاهرة الكشوفات الجغرافية أنها ارتبطت بالاستعمار بشكل مباشر، لأن الغرب وريث الإمبراطورية الرومانية يؤمن بمركزية السلطة والثروة، وقد بقي هذا المفهوم حاضرا في العقل الاستراتيجي والسياسي الغربي إلى يومنا هذا، أما المسلمون الفاتحون فلم يكونوا يسعون للعلو في الأرض من خلال احتكار السلطة والثروة، فالسلطة في الواقع الإسلامي ليست ملكا للمركز، بل المركز هو منَظِم لقنوات السلطة ولمصادر الثروة دون احتكار ولا مصادرة.
لما فتح المسلمون بلاد الشام كان الكثير من أهلها نصارى، وكذلك أهل العراق، ولم يجبرهم أحد على اعتناق دين آخر وبقيت غالبيتهم على المسيحية أكثر من قرن، وهو الحال بالنسبة لمصر، وشمال افريقيا لم تكن ذات غالبية عربية، وفَتْحُها مكَّن البربر من التفاعل الإيجابي مع السلطة دون إقصاء، ووجدوا أنفسهم على قدم المساواة مع الفاتحين، وهو ما لم يعهدوه من الرومان.
لقد حكم أهل البلاد المفتوحة بلادهم ضمن مظلة واسعة تسمى الخلافة، لكنها ليست ذات طبيعة مركزية لا في السلطة ولا في توزيع الثروة، لذلك أصبح كل هذا المزيج منتم إلى امبراطورية عظيمة فيها القادة العسكرييون والقضاة والعلماء والفقهاء والمؤرخون والفلاسفة، هم مزيج فريد من أصناف شتى وأعراق مختلفة تمازجت وتفاعلت وأسست أمة شديدة التنوع.
هذا المفهوم الإسلامي للفتح مخالف للمفهوم الأوروبي، لأن الدولة الرومانية كانت ترى أن الذي ينضم إلى روما ويصبح فردا خاضعا ومطيعا لجبَروتها يصبح عمليا تحت الحكم الروماني، لكنه ليس رومانيا، بل هو مواطن من الدرجة الثانية، ولا استقلال في إرادته السياسية، وهذا التراث الروماني القديم بدا واضحا في التصرفات الأوروبية فيما بعد الكشوفات الجغرافية، أي في زمن الاستعمار.
بعد « ثورة العدل والحرية والمساواة».. لماذا لم تر الشعوب المضطهدة إلّا الخراب الفرنسي؟
هناك تباين جوهري في مفهوم الفتوحات بين الطرفين، هو الغاية من الفتح أو التوسع، فالمسلمون لما قاموا بالفتوح بشروا برسالة، ورأوا أن واجبهم حمل الرسالة إلى الأمم ودعوتها إلى هذه الرسالة، وإذا اقتنعوا بالرسالة وآمنوا بها فهم سواسية مع الفاتحين في كل شيء، أما الغربيون فلم تكن عندهم مثل تلك الرسالة، بل كان الدافع ماديا، مع أن القيم الأوروبية في عصر النهضة كانت قد بدأت تتشكل، لكنها بقيت حكرا على الأوروبيين، الذين لم يروا من واجبهم أن يحملوها للشعوب المستعمرة.
الثورة الفرنسية مثلا جاءت بقيم الحرية والمساواة والأخوة، ولكن لم تحمل هذه القيم للآخرين من غير الفرنسيين.
بل عندما جاءت فرنسا إلى شمال أفريقيا لم نر منها لا أخوة ولا مساواة!! لماذا لم تشارك فرنسا قيمها مع الآخر الذين استعمرتهم؟ ولم يروا منها إلا العنف والقتل والحرق والتدمير والخراب، والإبادة الجماعية؟
المسلمون عندما حملوا الرسالة وذهبوا إلى شمال أفريقيا، وإلى غير العرب، نقلوا إليهم الرسالة وسلموهم إياها وأصبحوا شركاء فيها وتعاملوا معهم بأخلاق الرسالة السامية، لكن أوروبا لم تتعامل معنا بأخلاق الرسالة، فالذين يقولون أن فرنسا هي مولد قيم الحرية والديموقراطية هذا صحيح لكن لمن؟ للفِرنسيين وللأُوروبيين شركاؤهم في المنظومة الرومانية القديمة، لم ينقلوا هذه القيم لنا، لم يتعاملوا بمنطق هذه القيم ولا بروحها.
حملة نابليون بونابرت جاءت بعد الثورة الفرنسية عام 1798م أي بعد اندلاع الثورة الفرنسية بسنوات قليلة إلى مصر، هل تعاملت مع المصريين بقيم الثورة التي رفعت شعارات المساواة والحرية؟ ثم الجيوش الغازية التي جاءت في القرن التاسع عشر إلى شمال أفريقيا، هل جاءت بهذه القيم؟ أم بعكسها تماما؟
لقد جاءت بقتل واستعباد الملايين من السكان الأصليين في أفريقيا.
هذا فارق أساسي وجوهري إذن بين منطق الاستراتيجية الإسلامية والاستراتيجية الغربية في مفهوم التوسع، فالفتح الإسلامي قائم على مفهوم إتاحة الفرصة لأهل البلاد أن ينهضوا بأنفسهم، بينما منطق الاستعمار الأوروبي قام على مبدأ مركزية السلطة والثروة، وهو منطق موروث عن الامبراطورية الرومانية، وبقيت القيم الليبرالية حقا للأُوروبي، أو الغربي، وليست رسالة تحرر الإنسان حيثما وجد.
إن كنت أوروبيا فمن حقك أن تتمتع بالحرية والمساواة والديموقراطية وحكم القانون، وإن لم تكن أوروبيا فأنت مستثنى من هذه القيم، ويتم التعامل معك على أساس المصلحة المادية غير الأخلاقية.
ولذلك أين هي قيم الحق والعدل والمساواة الفرنسية؟ أو أين هي القيم الليبرالية؛ الديموقراطية وحرية الملكية الشخصية وحكم القانون، التي جاءت بها عصور النهضة الأوروبية، أين هي عندما غزتنا جيوش الأوروبيين؟ لماذا لم تتبن أوروبا هذه القيم مع الشعوب المستعمرة؟ ولماذا لم تتمتع الشعوب المستعمرة بمثل هذه الرسالة الرائعة التي قدمها مفكرو أوروبا وفلاسفتها للمجتمعات الغربية؟ لعل الجواب على ذلك يكمن مرة أخرى في مفهوم الحضارة الرومانية للهيمنة.
إن لم تكن أوروبيا.. فأنت مستثنى من قيمها!
الفكرة الرومانية القديمة عن العالم أن العالم ينقسم إلى قسمين هما:
- قسم العالم الروماني المتحضر، ويشمل كل الأراضي الخاضعة للدولة الرومانية.
- قسم آخر هم البرابرة أي الهمج، وهؤلاء لا يتم التعامل معهم وفقا للقواعد الرومانية، بل كائنات لا شأن لها بقيم الحرية والمساواة ولا بالقانون وحكمه؛ هذا ما وَرَثَتْهُ أوروبا للأسف الشديد، وفعلت في شعوبنا ما فعلته روما في المناطق التي لم تكن خاضعة لحكمها، واستمر هذا الحال حتى يومنا هذا، فقد صمت الغرب عن الانقلابات والسجون والاعتقالات وانهيار حكم القانون في العالم العربي صمتا مشينا.
أنا معجب حقيقة ببعض الفلاسفة الأوروبيون الذين جاءوا بقيم سامية ونبيلة، وينبغي لنا أن نستفيد منها، لكني أقول لكم أن هذه القيم بقيت حكرا على أوروبا ذاتها، ولم يتم التبشير بها إلا إذا كان فيها خدمة للمستعمر، فعندما تكون الديموقراطية مفيدة لمصلحة غربية يدعم الغرب هذه الديمقراطية، لكن إذا اختار الشعب من ليسوا على وفاق مع المنهج الاستراتيجي الغربي، أي منهج التبعية، عندها يفضلون الديكتاتورية من دون تردد.
وبالتالي لم تعد الديمقراطية قيْمِيَة بل أصبحت مصلحية، ولم تعد ذات بعد أخلاقي بل أصبحت ذات بعد منفعي استراتيجي يتحور ويتحول وفقا للمصلحة الغربية.
«جدل المصلحة الاستراتيجية» وسِجِل الأكاذيب الأوروبية
مشكلة الازدواجية المتكررة أوجدت في العقل الجمعي العربي والإسلامي شكوكا عميقة تجاه أوروبا وسياساتها، فعندما جاءت إلينا بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى بفكرة وضعنا تحت الانتداب لمساعدتنا في خمس سنين على النهوض بواقعنا العربي، وبعد ذلك تمنحنا الحرية والاستقلال، كانت تكذب، وتعلم أنها تكذب، الكذب الذي مورس علينا في مطلع هذا القرن كان مذهلا.
وُعِدَ الشريف حسين بمملكة تمتد من عدن إلى الاسكندرون، تتضمن كل جزيرة العرب بحدودها الطبيعية، إن هو ثار على الدولة العثمانية، ولكن تبين فيما بعد أن كل ذلك كان كذبا متعمدا.
لم تكن وعود أوروبا للشريف حسين بن علي إلا مصلحة استراتيجية رأتها أوروبا لهزيمة العثمانيين، ثم التحكم بهذه المنطقة، بريطانيا لها مصالحها، وفرنسا لها مصالحها ووعود الاستقلال والحرية كانت محض خداع.
ولم يكن السبب في ذلك أن الشريف حسين على سبيل المثال كان رجلا إسلاميا إرهابيا "أو إسلاماويا كما بدأوا يقولون"، لم يكن الأمر هكذا، الشريف حسين بن علي كان يعتبر من جماعة "المعتدلين" بتَعبير اليوم، قريب إلى بريطانيا، وكانت هناك جماعة ثانية من (المتشددين) الوهابيين بنجد، والحقيقة أن البريطانيين لم يتورعوا عن دعم عبد العزيز آل سعود في نجد لكي يسيطر على الحجاز التي كانت تحت حكم الشريف "المعتدل".
الجدل يومها، كما هو اليوم، لم يكن جدل اعتدال أو تطرف بل جدل مصلحة استراتيجية يستخدم فيها الاعتدال والتطرف والدين من أجل: إما تعزيز قيم الوحدة الأوروبية في حالات كثيرة ذكرنا بعضها، وإما من أجل الانتقاص من القوى التي تقاوم المشروع الأوروبي والمشروع الغربي في بلداننا.
ومن مآسي الوعي الاستراتيجي العربي أنه ولد وترعرع في ظل المنظومة الغربية وتحت رعايتها، فمنذ مؤتمر 1913 م الذي جمع الجمعيات العربية التي كانت تطالب بحالة عربية خاصة في الدولة العثمانية انعقد في باريس، ومنذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا وكل فعل نقوم به في حكوماتنا ونخَبنا وأحْزابنا وتيَاراتنا السياسية مرتبط بالغرب بشكل أو بآخر، بمعنى مرتبط بماهية رؤيتنا للغرب، إننا عجزنا عن تأسيس مركزية جيو استراتيجية خاصة بنا، وبقينا نطوف في مدار الغرب سلبا وإيجابا.
أما ذريعة الغرب حاليا في "الحرب على الإرهاب والتطرف" فهذه هي الأخرى أداة استراتيجية في مواجهة مستمرة.
جمال عبد الناصر لم يكن إرهابيا إسلاميا، بل كان قوميا، وما قبل جمال عبد الناصر من الزعماء الذين حكموا العراق كان معظمهم (معتدلين) مثل نوري السعيد والملك فيصل وغيرهما، كانوا متصالحين مع المنظومة الغربية، ومع ذلك لم يتسامح الفرنسيون ولا البريطانيون مع أي زعيم حاول ولو بشكل بعيد أن يحقق حالة من الاستقلال في القرار، لم يتَسامحوا معهم وهم (معتدلون)، ولم يتسامحوا مع عبد الناصر القومي، ولم يتسَامحوا مع مرسي الإسلامي؛ فالاستراتيجية الغربية في بلادنا واضحة، محددة ومستمرة، جوهرها: أن تبقى هذه المنطقة ذات طبيعة مفككة مرتبطة بالغرب.
قال ماكرون قبل أيام عن تركيا في مقابلته على الجزيرة "مشكلتي مع تركيا أن الأتراك إمبرياليون يحبون التوسع والتدخل بشؤون الآخرين"، لماذا يا سيد ماكرون لا يجوز للأتراك أن يتدخلوا في ما كان جزءًا من الفضاء العثماني المشترك قرونا أربعة، ويجوز لك أن تتدخل في البلاد التي استعمرتها فرنسا في شمال أفريقيا وغربها وفي لبنان بذريعة الرابطة الفرانكفونية؟ مع العلم أن تاريخ استعمار فرنسا لهذه البلدان دموي ومخز.
لماذا ينبغي لك أن تكون إمبريالياً ويصح لك أن تُكوّن لك إمبريالية، ولا يجوز لأحد آخر أن يفكر بجواره الحضاري وأن يتصل مع تراثه التاريخي؟
هذه مقولة مستعلية وتمثل بالضبط ما أقوله لكم، القيم الغربية ينبغي أن تبقى للأوروبيين، عندما تدعيها أنت أو تؤمن بها هنا تقترف معصية، إلا إذا جاءت بنتيجة تخدم المصلحة الغربية.
«التَنَمُر عند الضعف».. ما هي مشكلة الغرب مع الإسلام؟
فكرة (إصلاح الإسلام) وتحويله من دين تراثي تقليدي إلى دين حداثي معاصر مقولة تدخل في نفس السياق، إبقاء العالم العربي والإسلامي تابعا للمركزية الغربية.
الإسلام بالنسبة للغرب فيه مشكلة كبيرة لأن الغرب لا يستطيع أن يواجه الإسلام دينيا، فكان لا بد من تحويل الدين إلى أيديولوجيا، ولذلك تم نفي تقليص صفة الدين عن الإسلام وزيادة التعامل معه على أنه أيدلوجيا، ايديولوجيا تتعلق بمسألة الإرهاب والإسلام السياسي، وبالطبع والأيدلوجيا في الوعي الغربي ذات سمعة سيئة، لأنها تذكرهم بالأيدلوجيا الشيوعية والحرب الباردة، الأيدْيولوجيا النازية قبل ذلك، وبالتالي يسهل محاربة الأيدلوجيا، أكثر من محاربة الدين نفسه، ويصبح (المتطرفون) حالة استثنائية خاصة ينبغي التعامل معها خارج قوانين العدالة، والمساواة وحكم القانون وما إلى ذلك.
هنا تشعر أن تلخيص مسألة الإسلام بالإرهاب والتطرف هي محاولة لترسيخ الإستثنائية في التعامل مع المسلمين، بمعنى أنها تدفع باتجاه استبعاد حق مسلمي الغرب من أن يكونوا مواطنين على قدم المساواة مع الأوروبيين.
نحن الآن أمام هذه اللحظة الخطيرة، بسبب مهم جدا وهو أنّ أوروبا اليوم ضعيفة ومرتبكة، أنا أقول لكم عندما تضعف أوروبا تتنمر، وتصبح أكثر خطورة، وهذا نستطيع أن نجده في كل المراحل التاريخية، الضعف الأوروبي الاقتصادي والسياسي وحالة التفكك وخُروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتشار اليمين المتطرف في أوروبا والهجرة والمزايدات بين ماكرون وبين ليبان في فرنسا، كل هذا الصراع يؤدي عادة إلى التنر والعداء (للآخر)، والآخر اليوم هو المسلم.
العدو المشترك بالنسبة لأوروبا.. «هل يصبح المسلمون يهود هذا العصر؟»
في فترة ما شكل اليهود مثل هذا (الآخر)، اليوم أتفق مع ما قاله لجورج فريدمان من أن "المسلمين سيصبحون يهود هذا العصر بالنسبة للأوروبيين"
لماذا؟ لأنه حتى تحاول أن تجد ما يجمع شتات المجتمعات الأوروبية خاصة تلك التي تميل إلى اليمين المتطرف ينبغي لك أن تجد لها عدوا مشتركا، والعدو الآن جاهز، هذا العدو يتم تحضيره وتجهيزه اعلاميا وسياسيا منذ وقت طويل.
هذا العدو زوجته تغطي رأسها، وله لحية طويلة، هذا العدو يأكل طعاما مختلفا ذو رائحة نافذة كما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، هو عدو لا يساوي بين المرأة والرجل، وهو لا يؤمن (بالمثلية الجنسية)، وبالتالي العدو جاهز، بقي أن تنزع عنه أية سمة إنسانية كي تستحل استثناءه من حقوق المواطنة والقانون.
مقولة (الاعتدال) بغيضة، ليس من قصد مراكز السلطة في الغرب مساعدتنا على تجديد في الإسلام، أو أن نقوم بإصلاحات معينة في منظومتنا الاجتماعية والثقافية، أبداً ، المقصود الغربي من إثارة ما يسمى (أزمة الإسلام) هي أحد أمرين: أن يفقد الإسلام روحه، ويتحول الى ثقافة فرعية عن المركزية الغربية،
وإلا فهو أيدلوجية لمتطرفين خارجة عن المنظومة القيمية الغربية ، ينبغي استهدافها.
هذا هو جدل الاعتدال والتطرف بالفعل.
وأنا بتقديري يجب ألا نقع في هذا الفخ، نحن فعلا نحتاج إلى تجديد، وعينا الإسلامي يحتاج إلى إعادة نظر دائمة، تراثنا يحتاج الى غربلة، أفكار كثيرة لدينا تحتاج إلى إصلاح، ليس في هذا شك، لكنه تجديد نقوم به نحن، من داخل منظومتنا الفكرية ومرجعبتنا المنهجية، ولخدمة نهوضنا واستقلالنا ومساهمة منا في حوار إنساني عالمي.
«حماقات التواد مع ماكرون واستهداف الدين».. كيف يؤدي إلى نهضة إسلامية جديدة؟
بعض الدول التي سارعت للاتصال بمَاكرون والحديث معه بشكل ودي واستقبال السفير الفرنسي والكلام الجميل الذي صدر عنهم اتجاه فرنسا هذا كان ضمن صراع استراتيجي لأن هذه الدول شبيهة تماما بتلك الدول التي استقبلت مندوبوا البعثة الصليبية التي جاءت لنصرة القسطنطينية ضد السلاجقة واحتلال القدس.
لهذا أقول إن نتيجة هذا الصراع الذي يتم حاليا على الإسلام سيؤدي إلى نهضة إسلامية جديدة.
ما هو السبب؟
لأن الغرب عندما استهدف الإرهابيين قلنا قوم تم استهدافهم فردوا، أعني أحداث 11 سبتمبر، انفجارات لندن، انفجارات مدريد، قد تجد تفسيرا لذلك، بأنهم غاضبين من القاعدة ومن داعش.
لكن الاستهداف الحالي هو ليس في الحقيقة ضد القاعدة وداعش كما كان في السابق، هو استهداف ضد الرموز الدينية الإسلامية وهذا ألخصه في النقاط التالية:
- من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع: برأيي أنهم ارتكبوا حماقة لإرضاء المتطلبات الداخلية المتناقضة في أوروبا وبالتحديد في فرنسا في هذه الحالة وفي دول أخرى ، ولكن هم في الحقيقة خرجوا من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع، أي جميع المسلمين، لأن رمزية النبي عليه الصلاة والسلام لا يختلف عليها مسلم، إنما يختلف عليها من يسَمَوْنَ بالمُعتدلين وفق المعايير الغربية، الذين سَيسارعون دائما التبرير للغرب أية فِعلة لأَسباب تعرفونها، إذن نقلوا المعركة من استهداف الأقلية إلى استهداف الجميع، وهذا برأيي محفز للعالم الاسلامي.
- دافعُ جديد في اتجاه الغرب نحو اليمين: شعور المسلمين اليوم أن الغَرب يتجه نحو اليمين، والبعد القومي ضد المسلمين في الغرب، وضد مسلمين خارج الغرب، برأيي دافع جديد للمسلمين كذلك لكي يلتفوا حول بعضهم البعض، وهذا ليس ممكنا على المستوى الرسمي في وقتنا الحالي لعدم وجود قيادات استراتيجية، فمعظمها تكتيكية، تحاول البقاء في السلطة، ولا تريد أن تحقق أية استراتيجية مشتركة، بالعكس تخاف من مفاهيم التكامل والوحدة والتواصل، لأن هذا بالنسبة لها يهدد عروشها وكل امتيازاتها.
هذا التناقض بين ضمير الأمة الجمعي وقياداتها السياسية سيؤدي إلى إعادة اكتشاف للهوية الإسلامية لدى الشعوب، ولا يجب أن يكون هذا الاكتشاف ردة فعل فحسب، وإنما صحوة حقيقية، تولد قيما جديدة تنبع من الإسلام، وتخاطب الحاضر وتكون فاعلة عمَليا لا نَظريا، وهذا برأيي مركزي في قضية اليوم.
الدافع موجود، وقد رأينا ضعف الحجة التي تقول أن الأمة قد ماتت، وإنما استيقظت بسبب الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم وتصريحات ماكرون، وأنا برأيي الأمة لن تموت لأنها مرتبطة بالكتاب الذي هو موجود ولن يزول مع الزمن وبالتالي فالأمة التي تحمله لا تزول، لكنها تضعف ثم تقوى، فيها عناصر نهوض ذاتية، وقد تتحرك وتتفاعل حتى بوجود نخب سياسية لا منتمية.
منظومتنا المعرفية تنبعث من داخل مجتمعاتنا، لأن الأمة هي مستودع الحق وليْست الدولة، والأمة هي التي تحمل قيم الدين وليست الدولة، الأمة هذه تولد مفاهيم جديدة وقوى جديدة وقد يحدث هذا غدا أو بعد غدٍ، وعملية التوليد هذه تستمر إلى أن نجد نموذجا جديدا يحمل قيما للناس، قيم الدين، قيم القرآن، قيم الحق، ثم تصبح الدولة مؤتمنة على هذه القيم وعندما تضعف الدولة، تبدأ دورة جديدة من إنتاج قيم أخرى، ويجب أن تتفاءلوا، لأن الأمة هذه لن تموت إن شاء الله وإنما ستبقى حية ما دام هذا الكتاب الذي هو القرآن موجود بين يديها.
«اختطاف أجزاءٍ من الإسلام».. وأبجدية البحث عن المستقبل في واقع فاشل
كان قد اختطف الخطاب الإسلامي من قبل قوى كثيرة؛ من تيارات أرادت أن تفسره تفسيرا تقليديا تاريخيا بعيدا كل البعد عن الواقعية فأضرت بحضوره المعاصر، وأخرى أرادت أن تفسره تفسيرا انفعاليا غاضبا عنيفا فشوهت صورته، وأخرى أرادت أن تفسره تفسيرا (معتدلا) أي مُستَلبا متسقا مع المنهجية الغربية فأفقدته روحه، وفوق كل ذلك حاولت أنظمة عربية أن توظف الخطاب الديني لتبرير تسلطها واستئثارها بالثروة وقمعها للمعارضين، كل هذه التيارات اختطفت أجزاء من الإسلام أو من الصورة الإسلامية في عالمنا.
برأيي أنه قد آن الأوان أن نستفيد من كل هذه الأخطاء، وأن نسعى إلى ولادة تيار جديد يؤمن بأن الإسلام بقيمه يسكن المستقبل؛ ذو طبيعة عالمية، وهو إسلام فاعل في الزمان وفاعل في كل مكان، وقادر على أن يخاطب مسائل العصر بلغة العصر، دون أن يقع في فخ الارتهان والاستلاب الفكري ودون أن يقع في فخ الجمود والانكفاء نحو الماضي البعيد، وأنا استبشر خيرا أن الأمة ستُوَلد جيلا جديدا يحمل قيما جديدة، قادرا على أن يتفاعل مع العصر بأدواته دون أن يضحي أيضا بالاتصال الفعلي المباشر بالقيم الأساسية.
الواقع الذي أنتجه السير في ركاب الغرب عبر مائة عام فاشل بامتياز، فدوران منظومتنا السياسية والاستراتيجية في المدار الغربي لم تأت لنا لا بالاستقرار ولا بالازدهار، ولم تتحقق في البلاد العربية ديموقراطية، ولم ننعم بالحرية، ولا حكم قانون، ولا اكتفاء اقتصاديا، ولا سلما أهليا.
الكيان السياسي فشل، النسيج الاجتماعي تفكك، السلم الأهلي تراجع، الأداء الاقتصادي متعثر، المنظومة الاستراتيجية متهاوية، وبوصلتها خاطئة، الدولة العربية لم تكتسب شرعية حقيقية، ولا أداء وظيفيا كاف، فهذه المنظومة التي صُنِعت على عين الغرب عبر مائة عام، أي عبر قرن كامل، كان ينبغي أن تؤدي ثمارها لو أن الغرب كان صادقا في أن يعيننا على النهوض، ولكنه في الحقيقة أراد اضْعافنا فضَعفنا.
إذن البحث عن المستقبل لن يتم من خلال الارتهان بالمنظومة الفكرية الغربية، ولا بالمنظومة السياسية الغربية، وهذا المفهوم يجب أن يكون مركزيا لكل من يفكر في إشكالية النهوض، بالطبع هذا لا يعني تجاهل المنجزات الغربية ، فكثير منها ضروري ، وينبغي توظيفه، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بعيدا عن الارتهان للمركزية الغربية.
معظم حكامنا في هذه اللحظة لا يفكرون إلا ببوصلة أمريكية أوغربية، وهذه البوصلة ستستمر في الفشل، وستستمر في قيادة السفينة إلى دوامات عنيفة مدمرة، وسيأتي وقت يقفز منها أناس يحاولون أن يبنوا شيئا جديدا، وحتى ذلك الوقت فإن البوصلة فاشلة وفشلها ذَريع، وهي غير قادرة على الإنجاز، وبالتالي هذا أكبر حليف للذين يريدون أن يبنوا شيئا جديدا، لأن هذا الواقع لا يمكنه أن يستمر، أو أن يصل إلى درجة مقبولة من الإنجاز المقنع أو الشرعية الفاعلة لشعوبنا.