كنا أطفالًا صغارًا نتنازع فيما بيننا على ألعابٍ لا تساوي القرش أو القرشين، ألعابٍ عظيمة القدر في ميزان عقل الطفولة البريء، ألعابٍ منوعة من أمثال البالون والدمية والطائرة الورقية وأضرابها من الألعاب وحَكايا الطفولة في تلك القرية الصغيرة الجميلة بطبيعتها وسكانها وقيمها الغالية.
كانت العقول حينها مُتخفِّفة من أحمال الهموم المُتعِبة، ولا عتب! كانت بعيدة عن طوابير الأحلام الكبيرة والطموحات المثيرة، ولا لوم! نعم... كانت متحررة من إرهاق الأفكار المتلاطمة والفلسفات الحياتية المعقدة، ولا عذل! فهكذا ينبغي أن تكون حياة الطفولة، مستريحة متفتحة، مملوءة بالفرح ونشوة الحياة؛ لتستعد بعدُ إلى تحمل المسؤوليات ومصارعة فوضى الحياة، ومقاومة الصعاب والمشكلات اللامتناهية.
بغير ملل نُصبح على أصوات العصافير في حديقة بيتنا الطيني الجميل، نلهو ونلعب ونمرح، وقد نتنازع ونتخاصم حتى على حصياتٍ ملقاة على قارعة الطريق، وفي عتبة باب الدار، ثم يُعيدنا التعب أو الجوع إلى تلك الحُجر الطينية العتيقة، التي تكاد تهوي من طول العمر وتقادم السنين مع بدائية مواد البناء التي شَكَّلتْ قوامها وأرست أركانها، لنستمع إلى مجموعة من القِيم السامية، والمُثل العليا، والنصائح التربوية المتلاحقة، التي تستقر في الذاكرة حينها حتى دون وعي لمعانيها أحيانًا.
أجبرتنا الحياة على الرحيل إلى محطة أخرى! المدارس وسوح التعلم، ومخالطة المعلمين وأمثالنا من الصغار والأطفال المتعلمين، فارتقى بنا الحال حتى صرنا نتنافس على جودة التعلم، وسرعة الحفظ، ودقة المذاكرة؛ لتحقيق عالي الدرجات والعلامات، وهذا تطور ورقي في العقول والاهتمامات بلا شك، لكن ربما نتنازع على مقتنيات أخرى! هي أثمن وأعلى شأنًا من الحصيات السابقات، فصرنا نتصارع على القلم والمسطرة، والمبراة والممحاة، والدفتر والكتاب والحقيبة! وهذه هي أغلى المقتنيات حينها، وأكثرها استحقاقًا للمزاحمة والدفاع في تلك المحطة الحياتية الجميلة! ومأساة كبيرة لو اختلطت تلك المقتنيات الطلابية مع بعضها في غرفة الصف! فثمة دموع تُبذل بغزارة! وأصواتٌ ترتفع بلا هوادة! كثيرًا ما يفزع المعلمون لاخمادها.
دار بنا الزمان مرة أخرى... لتتفتح العقول والأبصار على آفاق أخرى، فغدونا نتزاحم ونتدافع على أشياء أغلى ثمنًا وأعظم قدرًا!
يوم آل بنا الحال إلى صراع الأفكار والمناهج والانتماءات! صراع المبادئ والقيم والقواعد الحياتية والقوانين العلمية التي تتلقاها عقولنا وتنشغل بها طويلًا للفهم والإدراك أو التأمل والمراجعة، يخف النزاع حين نرتقي فيؤول حوارًا علميًّا منهجيًّا مثمرًا! ويشتد حينًا فيقسوا البعض على البعض بالمناقشة والجدل، وربما التنابز والاتهام والتضليل حين تضيع المناهج المتوازنة! وتذوب المقاصد المخلصة! وتغشى البصيرة ألوان من الأمراض المستعصية! كالحسد والغرور والأنانية وحب المراء!
لستُ مستغربًا من كل ذاك، حين نفقه مسيرة حياة بني الإنسان على اختلاف أوطانهم وتنوع لغاتهم وأفكارهم، وحين نعلم سُنة الخلاف والاختلاف في هذه الدار، ونؤمن بسنة التدافع والمغالبة البشرية التي لا مفرَّ منها، لكنَّ المؤلم المستغرب أن ترى الشاب في منتهى شبابه! وفي مراحل متقدمة من نضوج عقله ووعيه -كما هو المفترض-! ثم تجده يجادل ويخاصم، ويناقش ويُغالب، وربما يُحاكم الناس ويوالي ويعادي على مشكلات أمثال "البالون والدمية" التي قد تجاوزناها في أول الحياة! وفي بداية المسيرة! أو هكذا أتوقع.
كنتُ أظن أن تقدم العمر وخبرة الحياة ومخالطة أبناء جنسنا وحدها تكفينا للوعي والنضوج والتقدم والارتقاء بالأفكار والاهتمامات، كنت أظنها مسيرة حتمية للترقي في الأفكار والمفاهيم والتصورات، لكن الواقع الذي نعيشه يحدثنا عن تفاصيل مختلفة، مؤلمة! محزنة! ويثبت لنا خلاف تلك الظنون، فثمة شباب ورجال وبنات ونساء لا تُحصى أعدادهم يتنازعون على سفاهات لا تكاد يُلقى لها بال، وينشغلون بتفاهات لا ترتضيها عقول الأصحاء! ويتخلف أناس عن الوعي حد الجاهلية والطفولية التي تأباها الأمزجة السليمة والعقول العازمة على مغادرة محطات اللهو والعبث واللامبالاة. حقًا إن عقولنا لا تنضج بمرور الزمن وتوالي الأيام، لا تُنتج ولا تُثمر من غير رعاية وعناية مستديمة، لا ترتقي من غير إجهاد وعمل دؤوب على تنميتها وتطويرها.
لستُ أدري من يقف وراء هذا الفقر الفكري العميق؟! والقصور الملفت في الوعي والإدراك؟! والانحطاط بالهموم والأحلام والاهتمامات عند كثير من أبناء المجتمعات؟! الأسرة! المدرسة! الجامعة! المجتمع! الوطن!
أم أننا في زمن ركدت فيه الأفكار، وانطمر فيه شعاع الوعي، إلا ما رحم ربي من الثلة المختارة النادرة، ودليل تلك السكرة تُبصره عيانًا في مختلف الميادين، في المقاهي والملاهي! في الأسواق والشوارع والطرقات! بل وحتى في بعض المدارس والمحافل والجامعات.
لماذا نشغل العقول بما لا يستحق في وقت حيوتيها ونشاطها وشبابها؟! لماذا لا نطوي صفحاتٍ من العبث حقها الطي والتخلي والمغادرة؟! لماذا لا نتوجه نحو الجد والعمل والتعلم والبحث المنتج؟! يجب أن نتجاوز محطة الصراع على البالون والدمية، وما كان بقيمتها من الأفكار والأحداث والأشياء، وما هو على مستواها من الاهتمامات والأحلام والأهداف؛ لأننا خلقنا لغاية أسمى، وكُلِّفنا بمهام أعظم وأقدس، بناء الحياة وعمرانها وفق منهج ارتضاه لنا خالقنا.
ثم لماذا نتزاحم ولا نتراحم؟! لماذا نختلف ولا نأتلف؟! من الذي صنع بيننا كل هذه الفجوات؟! ومن الذي غرس في عقولنا هذا النوع من الانفعال؟! لماذا نتراجع ولا نرتقي باهتماماتنا في مواقف كثيرة؟! من الذي غمسنا في هذه المستنقعات؟! أقول: ربما نحن من اختار العيش في هذا الركود والجمود والتخلف، حين تنازلنا عن إجهاد العقول في مسيرة التقدم والتعلم واكتساب الخبرة والرقي بالأفكار.
أيها الشباب الحالم الطموح المتفائل.... إننا نحتاج ثورة عاتية في دائرة العلم والثقافة والوعي! وثورة في دائرة الاهتمامات والأهداف والطموحات! لنخفف وطأة الوهن والضعف الذي يلوح فوق هامات مجتمعاتنا، ونُعيد لأوطاننا بريق الحياة مرةً أخرى، بنور جيل طموح يحمل رسالة هذه المرة.