لعل من أبرز المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية هي عدم فاعلية الفرد المسلم في بيئته، وذلك راجع لعدة أسباب من بينها الفهم الضيق لمعنى العبادة، واقتصارها على أداء الشعائر من صلاة وزكاة وصيام وحج. وإهمال الجانب الجوهري فيها وهو جانب المعاملة كما ذكر الدكتور راتب النابلسي "بأن سقوط المسلمين من سيادة العالم راجع لاهمالهم جانب المعاملات في الإسلام."
العبادة بين الشعائر والشرائع
العبادة في الإسلام اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال وأفعال، وهذا يوافق ما درسناه سابقا؛ لكن هذا المفهوم تزعزع بفعل ما يأتينا من الخطب التي فصلت بين الشعائر والشرائع؛ لأن بعض الوعاظ لما يصعدون المنابر يضيقون بعض المفاهيم للعامة، ويستشهدون بقصص وآيات تتكلم فقط عن الشعائر وكيفية أداءها، ويغفلون كل الشواهد التي تبين بأن الإسلام دين معاملة وعمل، ودين نهضة وتطور.
الأنبياء وجمعهم بين شعائر الدين وشرائعه في حياتهم
في حياة السابقين عبر جمة، ومنافع كبرى نستخلصها ونستفيد منها؛ أولها قصة سيدنا نوح الذي حافظ فيها على النسل البشري بصنعه للسفينة، وحمله من كل كائن زوجين كما ذكر ذلك المولى عز وجل في كتابه فقال (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...) (سورة هود الآية: 40). وثانيها قصة ذو القرنين الذي بنى سدا فحمى به القوم الذين استنجدوا به من ياجوج وماجوج.
بعدها قصة سيدنا داوود عليه السلام الذي صنع السلاح والدروع لتحصينهم من بأس أعدائهم كما قال تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ) (سورة الأنبياء الآية: 80). دون أن ننسى سيدنا يوسف عليه السلام الذي أخرج أمة مصر من أزمة كادت تقضي عليها بحنكته وحسن تسييره؛ لنصل إلى سيدنا موسى عليه السلام ومقاومته للطغيان بتحريره بني إسرائيل من حكم فرعون.
تأملو معي في ما قام به الأنبياء من قبل، لم يأتوا بمجرد شرائع فقط. بل كل رسالة تميزت بفاعلية في مجال ما، من صنع السفينة، إلى مقاومة الطغيان، مرورا بصنع الدروع، وبناء السدود .
وقد دعم ذلك الدكتور جاسم سلطان في كتابه ( أنا والقرآن) بقوله: " إن الإيمان نصف ونصفه الآخر العمل المترجم له، أي أن العمل عبارة عن حركة تشمل كل مناحي الحياة من المحراب إلى ساحات القتال، وما بينهما من عمل في سرح العلم والبحث، وفي الزراعة والصناعة، وفي كل مجال يمكن أن ينفع فيه الفرد المسلم".
وذهب الشيخ محمد الغزالي في مقدمة كتابه ( منهج الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء) في رده على من فهموا الدين بأنه اعتكاف في المساجد فقال: " وما درى هؤلاء أن جوهر العبادة إسلام القلب والوجه لله ثم تغيير القدم في ميدان الكدح الشريف دون جزع ولا هوان ".
إن العبادة كما هي ضراعة وتسبيح ، هي قدرة على تطويع الحياة وتسخيرها فيما يرضي الله وينفع عباده. إذن هي دمج بين شعائر وشرائع، ولا يمكن أن ينفصل جزء عن الآخر، لأن الشرائع هي ترجمة للشعائر على أرض الواقع، وذلك بفاعلية وعمل من أجل هدف عظيم وغاية كبرى، وهي إعمار الأرض وتمكين لدين الله فيها.