د. هبة رءوف عزت
يوم الإثنين 30 آذار/ مارس 2020م، نظم مركز كِياني جلسة إلكترونية للحديث عن ضرورة استعادة الوعي بالذات، وترتيب الذكريات والعلاقات واستشراف المستقبليات، تمت عبر بث مباشر بإلقاء من د. هبة رءوف عزت، على صفحة المركز في فيسبوك،وكان عنوان مداخلتها "إعادة اكتشاف الذات في العزلة.. الفرصة المتاحة في وقت الأزمات"، نرصد في هذا التقرير نص مداخلتها..
عزلة عالمية.. تقلب أنظارنا إلى أوجاع الداخل!
السلام عليكم ورحمة الله..
إنّ هذه اللحظة فريدة بعمومها على البشرية أجمع، وأولئك الذين مروا بحروب والذين مروا بمراحل حصارٍ مروا بحالات مشابهة وطوروا استراتيجيات للبقاء، نذكُر منهم -وندعُو دائمًا- لأهلنا في العراق وغزة وسوريا والبلقان وأفغانستان وكل الشعوب الإسلامية التي تعرضت لحروب، ونتذكر كذلك شعوبا أخرى كنا نتابع أحوالها ونجتهد لإمدادها بالمعونات عبر العمل الإغاثي العربي والإسلامي الذي يتحرك في كل المساحات.
اليوم كل العالم اشترك في العزلة وفي الشعور بها، وقد نشعر ببعض ما كان يشعر به هؤلاء الناس مما قد يزيد من التفاعل لاحقا بمواجعهم.
إن العزلة اليوم إجبارية بشكل أو آخر، فُرضت في بعض الدول بحكم القانون والقرارات السيادية، وهو إختيار عاقل، كما ترتبت عن فتاوى صدرت في كثير من البلدان من قبيل وقف صلاة الجماعة في المساجد؛ ينطلق الأذان، يُطَمئن القلوب ولكن يعقبه قول «صلوا في رحالكم.. صلوا في بيوتكم».
و هذه لحظة مناسبة للتفكير بمعنى العزلة بشكل عام.. هل فرضت علينا أم اخترناها؟ كيف نتعامل معها وكيف تكون فرصة أيضًا!
دائمًا عندما تُذكر العزلة أتذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما كان يذهب إلى الغار شهرًا كل عام للتدبر، ولم يكن قد أتاه الوحي بعد!
والسؤال الذي كان يشغلني هو فيما كان يتدبر ويتأمل على مدار شهر كامل؟ هل هي صلاة مطلقة؟ أم هي مجرد خلوة مع النفس وتذكر؟ أم هو تواصل مع الطبيعة؟ وقد وردت أحاديث كثيرة تصف ما كان محيطا بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكان شعوره بما حوله مرهفا كقوله (أُحُد جبلٌ يحبنا ونحبه) وهكذا.
فماذا كان يفعل الرسول في العزلة؟ وكيف كان حال الصحابة عندما حوصروا في شعب أبي طالب يوم اضطروا إلى أكل ورق الشجر؟ وهل سيضطرنا الوضع إلى ذلك؟ توجد خواطر كثيرة تأتي على المرء في هذه الفرصة!
وجود اهتمام كبير من المتابعين لهذا الموضوع يعكس رغبة وحاجة الناس إلى أن تسمع وتتبادل المشاعر من شجون أو هم أو ارتباك أو عدم اليقين فيما هو قادم نظرا لغموض المستقبل، أرجو أن نتواصل دائماً ونتواصى بالثبات والهدوء وبالتوازن وإنتهاز هذه الفرصة لنتعامل مع من حولنا وأنفسنا بشكل جيد.
الوقت ما بعد الإعتيادي
في الحقيقة، العزلة والأزمة والمنحة كشفت بشكل أكثر وضوحاً معالما مستمرة في الزمن الذي نعيشه، هذه المعالم يسميها المفكر البريطاني من أصل باكستاني ضياء الدين ساردار بالوقت ما بعد الإعتيادي Postnormal Times وهي حالة نعيشها منذ فترة طويلة وليس فقط في ظل العزلة والوباء.
نحن حالياً نشهد ارتباكا في حياتنا، ويقول ضياء الدين ساردار أن في الوقت ما بعد الإعتيادي يشهد الإنسان اختلالا في روتين الحياة وفي توقعاته من المحيط ومن الأحداث والظواهر حوله، ويعود ذلك لمجموعة من العناصر:
أولها التعقيد، أي أن الأسباب ونتائجها ليس لها علاقة مباشرة ببعضها، وأن العناصر المكونة للتجربة الإنسانية لم تعد بسيطة، إذا أخذنا على سبيل المثال المواصلات، فإنها حالياً تخضع للكثير من العوامل التي تدخل في كيفية وطبيعة هذه التجربة الإجتماعية.
ثانيا، أننا في هذه اللحظات ما بعد الاعتيادية نجد عدم اليقين. وهو ملمح عام من ملامح المرحلة التي نعيش فيها من هذا العصر بشكل كبير، تتعدى الأزمة الحالية، فقد كان الإنسان سابقا يعمل في وظيفة متوقعا أنه سيبقى فيها لمدة ثلاثين أو أربعين سنة، ولا يفكر أن يغير مكان عمله وإقامته، أما اليوم لا يدري الإنسان هل سيبقى منصبه متاحا بعد عام أو عامين؟ وإذا درس في مكان ما فإنه في الغالب سيغيره أو يغير التخصص وهكذا.
بشكل عام في اللحظة التاريخية التي نعيش فيها، في نهاية الحداثة، أو في مرحلة ما بعد الحداثة كما يسمونها، هناك درجة كبيرة من عدم اليقين مما أثر على قدرة الإنسان في التخطيط واستشراف المستقبل، بل وأثر في العلاقات، والمهتم بمتابعة سلسلة السيولة -التي أشرفت على ترجمتها- من كتابات زيجمونت باومان Zygmunt Bauman سيجد فكرة السيولة تتقاطع مع فكرة الزمن ما بعد الإعتيادي لما يشوب المستقبل من غموض.
ثالثًا، أن هذا الزمن يتسم بدرجة لا بأس بها من الفوضى، ولا نعني بها تبعثر الأشياء، ولكن نعني أن الأنماط التي نعيشها من العلاقات ومن الإقتصاد ومن التصورات والتفاعلات الاجتماعات أصبحت أنماطا غير معتادة، وبالتالي نأخذ وقتًا حتى نُكسبها طابع الاعتياد، وما إن يحدث هذا نجد أن هناك علاقات جديدة تتشكل!
وأشهر مثال عند علماء الاجتماع هو الإنترنت، حيث بدأ ينتشر استخدامها في نهاية التسعينيات كوسيلة اتصال وكانت الصفحات آنذاك شبه ساكنة، إلى أن أصبحت فضاءات تفاعلية وترسخت كمجال للعلاقات، وتطورت الأنماط التواصلية بحيث أننا مع الوقت لم يعد في إمكاننا القول أن هناك نمطا Pattern ثابتا نستطيع أن ندرسه، يستلزم منا هذا الوقت ما بعد الإعتيادي القيامَ ببعض المراجعات، خاصة مع العزلة اليوم.
ذات أو ذوات؟
نحن نشير دائماً للذات بالمفرد وبإعتبارها أنا؛ ذاتي أنا، أن أستطيع أن أتحدث عن نفسي، عن أحلامي وطموحاتي وطباعي وتوقعاتي،..
وفي الحقيقة، الذات لها أكثر من مستوى، فالمتخصصون في علم الاجتماع وعلم النفس يعرفون أنّ الذات يمكن أن تكون ذاتا فردية أو ذاتا اجتماعية، وبالتالي لدينا عدة ذوات. والدليل على ذلك اختلاف تعاملنا حسب الوسط والظرف والمزاج والأشخاص وتغير طبيعة الأفكار التي نتعاطى معها. ومن الممكن اعتبار النفس المنفردة التي تبحث عن مصلحتها الشخصية -كالنفس الأمارة بالسوء- التي تعكس منطقا معينا من التفكير، كما يمكن اعتبار الأنا في تفاعله مع النحن، ومع الزمن ومع المكان.
وبالتالي فإن الذات في الحقيقة تشكيلة من العناصر لا تنفك عن العناصر المحيطة بها؛ عن المكان الذي نشأت فيه، ولا عن اللحظة التاريخية التي نشأت فيها. يتولد عنها طريقة خاصة للتعامل مع المجتمع والمحيط والأفكار.
هذا اللقاء فرصة لنناقش الشخصية الموجودة في ظرف العزلة اليوم، لتستفيد من هذه الفرصة وتتجنب بعض المزالق التي يمكن أن تقع فيها.
الذات والاعتمادية التي لا تنتهي!
أول عنصر في الذات هو تكونها وتشكلها وممكن أن نسميه جنيولوجيا الذات a genealogy of self، وهو كيف تكونت ذاتي هذه الموجودة في العزلة الآن؟ هناك العديد من التفاعلات التي تشكل الذات وتشكل الوجدان.
الذات تتكون في مراحل، أولها الجسد بمعنى ما سكن الرحم في بدءه في اللامكان؛ فلم يكن هناك مكان مادي بل كان مكان بيولوجي، فتبدأ نفسية الطفل تتشكل هناك حيث أن بعض الأبحاث تتكلم عن نفسية الطفل داخل الرحم وكيف أن توترالأم يؤثرعلى توتر الجنين.لقراءة المزيد
ثم نخرج إلى العالم ونبدأ وجودنا المادي المحسوس، وجود قائم على الاعتمادية، ونتوهم في لحظة معينة أن هذه الاعتمادية ستنتهي عندما نكبر، لكننا نبقى على تواصل وثيق بما حولنا عبر حواسنا.
تقييد الحواس.. من رمزية الود إلى رمزية الخطر!
نحن اليوم مقيدون؛ لا نستطيع أن نتحرك، وحواسنا مقيدة، نستطيع أن ندخل الأنترنت ونرى بعضنا رغم البعد المكاني، ولكن العين المجردة محدودة، فمهما كانت الصورة دقيقة لن تضاهي الصورة الحية المشاهدة في الواقع، كمشهد الغروب الذي تفوق معاينته كل الصور.
وكذلك السمع مقيد، إذ أننا اليوم أصبحنا نسمع الصمت حيث أن كثيرا من الناس أصبحوا يستمتعون بهدوء الأحياء، و صاروا يعون أصوات العصافير، هذا يعني أن تعاملنا مع السمع في العزلة أصبح بصيغ مختلفة؛ يوجد من يستمع إلى الموسيقى، ومن يحاول الكلام مع الآخرين، ومن يحاول أن يسمع أكثر أو ربما أن يتحدث أكثر وهكذا.
الشم والتذوق أيضا، يوجد رجال كثر الآن بدأوا تجربة الطبخ، ويرسلون رسائلا على مجموعات مختلفة يقولون أنهم بدأوا يطبخون ويحسون أكثر برائحة البيت، رائحة الأشياء، و أعرف أُناساً في وسط هذا الحظر نزلوا يبحثون عمن يبيع الورد مثلاً.
وأكثر حاسة تأثرت بالوضع الراهن هي حاسة اللمس، واللمس ليس بمعنى لمس الشيء فقط، وإنما أقصد بها التلامس، ونجد في القرآن أن المس جاء مجازاً مثل (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) أو (لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) بمعنى العلاقة الزوجية، فهو إما لمس مجازي أو لمس مباشر مادي. وهو جزء مهم جداً من تشكل الإنسان، فعلماء الإجتماع وعلم النفس يقولون أنه في الحقيقة الإنسان عندما يولد أعمى يعيش ويتكيف في مراحله، ومن الممكن أن لا يميز الألوان أو أن لا يبصر و يتكيف، و أن يولد أصما ويتكيف، ويصاب أحيانا بالزكام فلا يشم جيداً فيتكيف، لكنه لا يستطيع التكيف من غير التلامس.
ومن الدراسات المثيرة للاهتمام في هذا الباب دراسة لمجموعة من الأطفال في دور أيتام في رومانيا في عصر نيكولاي تشاوسيسكو Nicolae Ceauşescu حيث كان هناك نقص كبير في الرعاية فقام الباحثون بمتابعتهم طوال عدة سنوات لدراسة تأثير ضعف الرعاية عليهم، فاكتشفوا أشياء غريبة جداً!( لمعرفة المزيد)
فقد تأثر الأطفال في كثير من مناحي الحياة من فقدان التلامس والأحضان والقبلات ومظاهر العطف والاهتمام في مراحل نموهم الأولى؛ ليس فقط على المستوى السايكولوجي، فقد كانوا يعانون من اضطرابات عصبية ووظيفية كتأثر جهاز الهضم، أو اضطراب في النمو الذي نتج عنه تقزُم. فمن الواضح أن موضوع اللمس والتلامس والتفاعل البدني مسألة في غاية الأهمية.
ونحن الآن في لحظة تحول فيها التلامس من رمز للحميمية والتواصل والود والتراحم إلى رمز للخطر!
وهذا الشئ سيؤثر علينا فيما بعد كمجتمعات إنسانية، سنصبح مثل من صام رمضان فلما انقضى يتردد حين أراد شرب الماء، سيصبح لدينا نوع من أنواع التردد في التواصل مع الآخرين، لأننا سنمر من فترة من الزمن قد -تدوم أسابيعا أو شهورا- لا نتلامس مع الآخرين، وهذا سيغير عاداتنا وطبيعة إحساسنا في التواصل.
هذا الظرف سيختبر قدرة الناس على بناء العلاقات والتفاوض والتعايش والإنصات حتى لو كانت بشكل أو بآخر تهرب من بعضها في الأيام العادية.
ولذلك ستصبح اللغة غاية في الأهمية في هذه المرحلة، إذ سيصبح الناس أكثر حساسية لسؤال بعضهم عن بعض، قد تتجدد الصلة بين بعض الأشخاص وتبلى بعض العلاقات وتتأذى.
وفكرة المس واللمس فكرة أوسع من تلامس الجلد أو تلامس كفين أو شيء من هذا القبيل كأن نقول مس الموضوع مسا، أو نقول باللغة الانجليزية Stay in touch أو He touch the issue.
كما أن لِلّمس الحرفي مستويات متعددة من الدلالة، فمثلا هناك فرق بين أن ألمس شخصا بمعنى المصافحة والسلام الرسمي السريع والإطالة في إمساك اليد تسمح بانتقال طاقة بين الشخصين.
وكانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا سلم على أحدهم لا ينزع يده حتى ينزعها من أمامه، وهذا المعنى سيفتقد الآن لأن الشخص لا يجد من يسلم عليه إذا جلس لوحده أو حُبس في بلد أخرى.
ثم فكرة الضم تحيل على فكرة الطاقة Energy، وقد تجلى هذا في بعض المواقف من السيرة مثلا عندما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال إن الوحي ضمه ثم أرسله وقال له اقرأ، وعندما هرع إلى السيدة خديجة رضي الله عنها وقال «زملوني زملوني» فهذا يبين أن في التلامس طاقة، شيء أبعد من مجرد تلامس البشرة، أو تلامس الأيدي، أو تلامس الأجساد.
لهذا يطرح سؤال كيف نتعامل مع هذه الحاسة في ظل هذا الوضع؟ وكيف سيؤثر على علاقاتنا مستقبلا؟ هل سيجعلنا ربما نحرص على التلامس أكثر عندما يرتفع عنا هذا الوباء؟ أو أننا سنصبح أكثر حذرا وحرصا على تجنب التلامس؟
الحصار المكاني والالتفاف حول الذات
من ناحية أخرى فإنّ جسد الإنسان وحواسه مرتبطين بالحركة، وهذا يطرح سؤالا مهما: ما الذي يحدث عندما نقيَّد على مستوى الحركة؟ قد يتيح لنا العزل اكتشاف أجسادنا بشكل أفضل بمعنى الرعاية الذاتية للجسد سواء بمعنى الرياضة، مثل متابعة برامج للتدريب البدني في المنزل، أو بمعنى إعادة النظر في الطعام والحرص على الأكل الصحي.
فالحصار المكاني قد يدفع النفس إلى الالتفاف حول الذات البدنية أو ذات الجسد للاعتناء بها. سيصبح الجسد مركزيا في تعريفنا لذواتنا في المرحلة الحالية لأن المساحة والمكان لم يعد جزءًا مركزيًا بحكم العزلة وانحسار المساحة المتاحة.
والعزلة تدفع الناس للتعويض عن الغياب عن الأماكن والمساحات بالمساحات الافتراضية وتعوض اللمس الذي كنا نتحدث عن أهميته بلمس الشاشة، فيوجد أشخاص مثلا عند التواصل بشكل لا إرادي يضعون أيديهم على الشاشة كأنهم يريدون لمس من أمامهم بشكل حقيقي ولا يستطيعون،
ففكرة الجسد والوعي بحدوده والوعي بحواسه ستزيد، وأعتقد أنه من المهم لكل شخص أن يُبقي ذهنه حاضرًا ليعي كيف يختبر هذه اللحظة، لأننا سنكتشف في أنفسنا أشياء لم نكن نعرف قدر أهميتها.
الرُشد والتفاوض حول المشترك
في الأيام القادمة، ستتأثر كثيرا اللغة التي نستعملها فهي مرتبطة بالحيز والمكان، ومرتبطة بالفعل التواصلي Communicative Action كما نسميها في العلوم الاجتماعية.
طبيعة الحيز الذي نعيش فيه اليوم انضغط فيه المجال العام والمجال الخاص. وهذا سيتطلب منا أن نطور أدبيات السلوك etiquette، كما تطورت طرق التمدن في المجال العام.
فمثلا لي صديقة تعاني من الضجيج المتواصل لأبناء جيرانها الذين يعيشون في الشقة فوقها، وأبويها شيوخ كبار في السن. بالنسبة لها هذا الوضع غير معتاد ومزعج جدًا وغير ثابت لاسيما أنها لا تستطيع التحكم في الوضع ولا أن تخرج من البيت. لهذا فكرة الوعي بالمحيط وتطوير قدرة للتعامل مع المحيطين بنا سيصبح أمرا لازمًا لتجنب للانفكاك والانفصال وتغيير المساكن، وهذا سيختبر أفعالنا التواصلية وقدراتنا اللغوية لذلك!
من جانب آخر اللغة مرتبطة بمستوى التعقل، فالفرق بين الطفل والراشد هو الرشد. و بالتالي فإنه علينا أن نساءل أنفسنا؛ ما هو الرشد الذي طورته في حياتي بحكم خبراتي مع المساحة والزمان؟ وكيف أعيد تعريف الأمور العاقلة بالنسبة لي؟ وما هو التصرف غير العاقل أو غير الموزون؟ هذه التساؤلات قد تعيننا على تقييم نسبة الرشد ودرجته عندنا.
فليس من الرشد مثلا أن يخرج الناس كل الذكريات الأليمة الآن فتتحول البيوت إلى مساحات حرب، ولا أن نبدأ بتقييم الناس بناءً على درجة توترهم لأن هذه لحظة استثنائية وهكذا.
فاستعمالاتنا للغة وكيف ستتراوح وكيف تجسد -أو لا تجسد- رشدنا سيصبح أمرا حيويا، لا يتجلى ذلك في البوح والكلام والتفاوض والفضفضة فقط، وإنما في الصمت أيضا! لأن الصمت في لحظات معينة مهم من أجل حسن إدارة العلاقة. من الحكمة تطوير لغة الصمت والقدرة على إحلال الكلام بصيغ أخرى للتواصل، وإظهار الاعتراف بالجميل، وإظهار المودة.
هذه التفاعلات ستمكننا من إعادة اكتشاف بعضنا البعض، منا من سيعيد اكتشاف أبنائه ومنا من سيعيد اكتشاف زوجه. سنضطر لابتداع حوارات وأنشطة لم نكن معتادين عليها وإلا ستصبح الحياة صعبة جدًا. وهذا سيدفعنا إلى اختبار أشياء جديدة، فهناك من لا يحبون مواقع التواصل الاجتماعي من الممكن أن يعيدوا اكتشافها، وهناك من يتجنب الآخرين ولا يحب أن يقترب منه أحد أو يلمسه كنوع من أنواع الرغبة في الخصوصية. من الممكن أن يكتشفوا في هذه اللحظة التاريخية أن التواصل البدني لا يعترض خصوصيتهم.
فهذا الظرف سيفتح مساحة للتفاوض بشأن المشترك الذي يمكن الإستمتاع به، وستتأثر اللغة بعلاقة الأذهان أيضا، فالاحتكاك الجديد سيطرح مجموعة من الأسئلة؛ كم تبلغ فجوات التفكير بيننا؟ وكيف نملأها؟ وكيف يمكن للغة أن تكون لغة رشيدة وأن تكون لغة عواطف؟
وبحكم تقييد التواصل البدني مع الأغيار (الأشخاص الآخرين في الخارج) فمن المهم تطوير آليات للتعامل داخل المنزل. فمن يعمل على قضايا النساء يعلمون أن هذه الفترة للأسف قد تتضمن درجة أعلى من العنف في البيوت، التي يمارس فيها عنف ضد النساء أو عنف ضد الأطفال، ومن الضروري مراعاة هذا. نحتاج لضبط نفسي عالي وتوصيات متبادلة والحرص على سلامة واستقرار الأسر المجاورة، ومن الممكن في المستقبل في استشراف مستقبلياتنا بأن نحاول معالجة بعض الأمور العالقة أو التي لم نكن نلتفت إليها بدرجة كبيرة.
نأتي الآن على خريطة المشاعر، فالمرحلة الحالية كما قلنا مرحلة الوقت ما بعد الاعتيادي، تتسم بالتعقيد وعدم اليقين في المشهد الاجتماعي والنفسي وغيرها من جوانب الوجود الإنساني كما نبهنا عليها سابقًا حين تحدثنا عن الحداثة السائلة.
مخافة الموت .. تُخْرج أفضل الموجود
هذه اللحظة لحظة خوف أكبر؛ يوجد خوف سائد أكبر، حالة عامة من الخوف من الموت القريب على النفس والأحباب والأقارب. وحالة الخوف هذه هي الحالة المثالية للاستبداد لكنها أيضًا الحالة المثالية لإخراج أفضل ما في المجتمعات!
فكم من المبادرات الأهلية لمساعدة ذوي الدخل المحدود، وتوجد مبادرات كثيرة جدًا في العالم العربي لإحصاء هذه الطبقة والوصول إليها، ففي مصر على سبيل المثال ابتدأ جمع البيانات عن العمالة غير المنتظمة ومحاولة تقديم مساعدات لها، وقد كان المجتمع الأهلي أقرب للحركة من الجهاز الإداري، فبدأ بالجمع للتعويض والسهر على مساعدتهم اتقاءا لكوارث اجتماعية قد تحصل.
فهذا الواقع المخيف لا يخرج فقط التوحش في الإنسان ولكنه أظهر مشاعر التضامن والإيثار والقيم النبيلة ومبادرات خيرية أخرى كثيرة.
وكانت هناك مشاركة لقصة ايطالي آثر فتاة بجهاز التنفس الصناعي الخاص به وهو مصاب في المشفى كي تعيش هي.
فكيف يمكن أن نستغل هذه الفرصة في أن نخرج ما في أنفسنا من خير حتى لو كان بيننا قدر من الخصام والتوتر واختلاف الطباع؟ وكيف نبحث في صندوق النفس الداخلي وحتى في ذكرياتنا عن جوانب جميلة رغم إطار الخوف؟
الحيرة المربكة بدل اليقين
شعور الحيرة أيضا سيكون مسيطرا في المرحلة القادمة وهذا قد يكون مربكا للإنسان. لأن دراسات الحداثة والدراسات الاجتماعية والسيكولوجية تقول أن الإنسان يحتاج لدرجة من اليقين ليستطيع ترتيب حياته ويصبح واثقا في علاقاته ومدركا لخطواته.
وبالتالي إدراك الإنسان حدود قدراته مسألة حيوية؛ كما هو مهم أن تعرف نقاط قوتك فمن المهم أن تعرف نقاط ضعفك وكما قال ايريك فروم Erich Fromm - وهو أحد علماء النفس البارزين في القرن العشرين – أن الضعف الإنساني في الحقيقة شرط الثقافة، شرط أن تشكل الثقافات في المجتمعات تقوم على ممارسات اجتماعية، عادات، تقاليد، أنماط للسلوك، لأن الإنسان في الحقيقة يعرف أنه ضعيف وأنه غير متمكن من كل ظروفه كما كان يظن – لكن هنا نعني الإنسان بالمعنى المطلق وليس الإنسان بمعنى الفرد، الإنسان بمعنى الجنس الإنساني والبشرية من المهم أن تعرف أن هناك قيود وحدود اتجاه سلطتها على التحكم في هذا العالم.
مركزية الإنسان القادر على التحكم!
لدى علماء الإجتماع تعبير لطيف جدًا يسمى أنثروبوسانتيزم Anthropocentrism يعني أن الإنسان في ظل العصر الحديث افترض أنه قادر على التحكم في هذا العالم. كما كتب الكاتب التاريخي من خلفية صهيونية يوفال هراري صاحب الكتب الشهيرة في نهاية العصر الحديث ونهاية القرن الواحد والعشرين ، الذي كان لديه من الثلاثية التي كتبها كتاب اسمه هيمو ديوس Homo Deus: A History of Tomorrow ويعني (الإنسان الإله). يعرض فيها فكرة أن الإنسان الحديث ظن أنه بشكل أو بآخر إله، وأن الإله مات، وأن الدين سيفنى، وأن العلم سيحل محله!
طبعًا العلم مهم في حياة الإنسان، لكن العقيدة والأديان والغاية من الحياة مهمين أيضا، فلا يمكن أن تقول أنت مع العلم أم الدين؟ فهذا سؤال عبثي جدًا، لأن الإنسان العامل العاقل العالم يعيش حياته بشكل إنساني، يتواصل مع البشرية حوله لكن يدرك أيضًا أن هذا العالم لم يخلقه هو وإنما هو مخلوق فيه، وله رسالة بشكل أو بآخر.
وكانت بعض الشخصيات تنبأت بظهور فيروسات في السنوات القادمة، مثل بيل غيتس الذي نشر مقطع له سنة 2015 يقول فيه أن حروب العالم القادمة ستكون حروب فيروسات لا حروب طائرات أو درونز، وكان هذا مجال من المجالات التي بدأ الناس في العمل عليه في مساحة الأخلاقيات علم الأحياء Bio ethics، وما هي القيم التي تحكم المجال العلمي.
وهذه إشكالية مطروحة منذ منتصف القرن العشرين في وقت القنبلة الذرية، ثار حديث كثير عن العلم وعن كيف يمكن أن يتحكم في مستقبل الإنسان وما المنظومة القيمية التي يمكن أن نأتي بها ومن أين نأتي بها، فروبرت أوبنهايمر الذي كان أحد الفيزيائيين الأساسيين الذين اخترعوا الطاقة النووية، والمعرفة التي أصبحت تقنية في القنبلة النووية كان له حوار طويل وجلسة في الكونغرس الأمريكي قال فيه أن العلماء غير مسؤولين عن قرارات السياسة أو السياسات polices.
فمن الأساسي أن نتحدث الآن عن أن هذا الخوف سيدفع الناس للتفكير في جدوى وكفاءة السياسات الصحية.
اهتزاز وهم السيطرة!
ومن المتوقع أن هذا الخوف والفزع يعيد ترتيب أولويات كثيرة على مستوى السياسات العامة في الدول، وأيضًا يعيد ترتيب أولوياتنا في العالم وفي الكون لندرك أننا لسنا متحكمين كما كنا نظن، فخطط كثيرة تغيرت، وكل العوالم التي كانوا يتحدثون عنها، فكرة العلم، فكرة التحكم بما فيه التحكم السياسي، وحتى فكرة القدرة على الإكراه والضبط.
صحيح أن الدولة قادرة على التزام الناس المكوث في منازلهم بمجرد إصدار قرار بذلك، لكن الناس لا يجلسون في المنزل بسبب قرارات الدول فقط وإنما يجلسون في منازلهم لإدراكهم أن هذا يخدم صحتهم ويحميهم ويحمي أرواح أبناءهم وعائلتهم وأنفسهم.
وحاليًا هناك كلام كثير عن حقيقة السخرية التي كان يلقاها المتحدثون عن البيئة، وعن الحفاظ على التوازن البيئي والكائنات المختلفة مع البشر حيث بدأ ينظر لهؤلاء الناس على أنهم خبراء.
والآن ليس المسؤول عن الأمم المتحدة أو حلف الناتو هو من يتحدث كل يوم والناس يترقبون سماعه، وإنما ينتظرون خطابات مسؤول منظمة الصحة العالمية!
هناك أشياء كثيرة على المستوى الكلي تتغير، فأدرك الناس عدم استطاعتهم العيش كشعوب متناحرة طول الوقت وأن التعارف واجب لأن المصير واحد، لأننا جميعًا بشر متشابهون، وتوجد مشاكل ضخمة لا تفرق بين الدول النامية أو المتقدمة، وقائمة أكثر الدول إصابة تتصدرها الدول المتقدمة على سبيل المثال، فهذا سيعيد تمامًا وعي الأمم بحدود قدرة السيطرة الإنسانية على العالم.
لكنه أيضًا سيسائل قدرتنا نحن كأشخاص وأفراد على السيطرة على كل شيء في حياتنا، فأحيانًا الإنسان يصيبه الغرور بأنه قد وضع خطة لكل شيء وسيفعل ويبني هذا ويذهب هناك ويشتري ذلك، وأنه ضامن لثبوت دخله، فتتشكل لديه قدرة موهومة على التحكم، وكل هذا سيتغير. وهذا جزء من الذات، فأنا أعرف ذاتي بسقفها وحدودها، حدودها المرنة وحدودها الصلبة.
في النهاية هناك كون وتوازن في العالم إن تم خرقه عمت المعاناة.
وبالتالي درجة النشاطية activism في وقف كثير من الأضرار التي كانت تتم تحت مسمى المصالح الإقتصادية، أعتقد أنها ستشهد العديد من المراجعات في الفترة القادمة، لأنه في نهاية المطاف لو ساء الحال وانهار السقف فسيقع فوق رأس الجميع !
هل يسكن التوحش كل فردٍ منّا؟!
هنا تلح الحاجة إلى أن يفكر الناس في أن الذات هي ليست فقط ذاتا فردية، متمثلة في الأنا المتمحورة والمتمركزة حول ذاتها، وإنما هناك ذات بصيغة الجمع؛ أنا والآخرين. فالأنا هذه أنا على أتم الإدراك أن نشأتها وفعاليتها ودوائر حركتها ومآلات أفعالها، في الحقيقة يدخل فيها أناس كثر لا يصح أن التفكير فيها بإعتبارها ذاتي وحدي، وإنما هناك ذوات تعيش في داخل هذه الذات، فأنا أيضًا في مراحل مختلفة باستطاعتي أن أطور من نفسي ولكن في نفس الوقت أن لا أغفل عن بقية من يعيش في هذا العالم.
فعالم الفرد وعالم البشرية متداخلان لا يصح التفرد بتخطيطات أحدهما، والفترة القادمة قد تشهد وعيا أشمل بالذات في ظل مراجعة مركزية الإنسان في الكون وقدرته على التحكم في كل شيء.
أود الحديث أيضًا عن كيفية التعامل مع فكرة الإنسانية لا من جانب السيطرة والتحكم فقط لكن في درجة التوحش أيضا.
وكيف نستطيع أن نفهم أن هذا التوحش لا يتجلى فقط في من هجموا على السلع في المحلات التجارية، ولا في الذين داسوا على بعضهم لأجل تخزين المنتجات في منازلهم، وإنما فكرة التوحش تسكن كل فرد منا.
وقد نكتشف أثناء فترة المراجعات أننا في موقف محدد كانت درجة التوحش عندنا أعلى بكثير من درجة الرحمة، فكيف نضبط سلوكياتنا وأفكارنا ووعينا بحيث أن لحظة الفزع والخوف هذه لا تؤدي بنا للتوحش والدوس على من حولنا؟ فالوعي بالذات هنا في علاقة التوحش بالإنسانية بداخلنا لحظة مهمة وفارقة.
العلاقات ومُساءَلة المألوف!
لو تحدثنا عن ترتيب العلاقات، فالعزلة مناسبة جيدة ليس لترتيب العلاقات في الداخل فقط، ولكن من أجل التساؤل عن أولويات الحياة!
قبل أن تحدث هذه العزلة وتفاجئنا هذه الصدمة الفيروسية، ما الذي كنا نقدمه ونضعه على رأس أهداف الحياة؟
كل علاقاتنا الآن قيد المراجعة والنظر، وليس النظر بمعنى الإلغاء أو التوقف عن التواصل، بل هو بمعنى التقييم والمراجعة، أن أقيم نفسي، ومن الممكن أن تكون هذه ميزة العزلة عند المتصوفة!
فعندما تقرأ لكبار المتصوفة الفقهاء الذين ضبطوا التصوف بالفقه، تدرك أهمية العزلة والكلام الذي كانوا يقولونه عن أنه ما نبتت فكرة إلا في عزلة، وأن العزلة هي محضن الأفكار العظيمة وهي شرط مراجعة النفس.
وليس من الضروري أن تكون العزلة بالجلوس في جبل أو كهف أو غار، لكن العزلة بمعنى الخروج قليلًا عن روتين حياتي اليومية، وهو المتاح أمامنا الآن، وأن هذه المساحة من إعادة التفكير التي لا ينفع أن تبقى في هذه اللحظة عزلة شعورية، بل وجب أن ألاحظ طول الوقت ماذا أفعل، لماذا أحزنني هذا الأمر؟ ولماذا هذا الأمر أغضبني؟ ولماذا أحس أن هذا الأمر الآن يدوس على أعصابي؟! لماذا! لأن هذا طبعي، من أين أتى هذا الطبع؟ هل بالإمكان التفاوض فيه، هل بالإمكان مراجعته، وهل بالإمكان لوم النفس على أشياء ليست في المساحات فقط ولكن أيضًا في التصورات؟
يوجد ميل عند الشباب يدفعهم للاعتقاد أن أهلهم ليسوا حكماء بدرجة كافية، فالأم تجلس في المنزل وتطبخ طوال النهار بصرف النظر عن مؤهلاتها العلمية -وفي النهاية أنا دكتورة وأولادي ينظرون لي باعتباري الأم التي تعطي التوجيهات لا باعتبار الشخصية الأكاديمية-.
هنا تكمن فرصة الآباء في مراجعة نظرتهم لأبنائهم أنهم لا يفقهون شيئا، وأن الأيام ستعلمهم ما لم يعلموا، اليوم أتيحت لنا الفرصة لمحاولة مراجعة هذه العلاقات وديناميكيتها وبنية تصوراتنا لها.
فكرة الإحساس بالزمن، يمكن أن ينظر الشخص حوله ويقول أنا عندما انفردت بأمي فترة من الفترات نتيجة مرضها وبقاءها بعض الوقت محدودة الحركة شعرت كيف أنها كبرت، والدي أيضا قبل أن يتوفاه الله وجدت أنه لم يكن يقبل بعض التصرفات، ثم تطبع معها وقبلها فبدأت أستشعر أنه كبر، لا من ملامح وجه لكن من تغير تصرفاته، فالوجه نراه كل يوم يكبر ولا ننتبه، أما تغير العادات فيوحي بكبر السن، وهذا ينبهنا إلى أننا نختلف كأشخاص وأبناء و أمهات، وعلينا أن ندرك هذه التغييرات في أنفسنا وغيرنا.
الذكريات والتصاعد إلى السطح
من الأمور التي ستطرح أيضا التعامل مع الذكريات. عندما نعتزل ونجلس سويًا في مساحة ضيقة دون إلهاء تبتدئ كل الذكريات بالتصاعد إلى السطح، و تعود المخاوف القديمة لأن المخاوف الحالية تجددها في النفس، ومشاعر الضعف الحالية تجدد في النفس ذكريات الضعف القديمة، فيتشوش الذهن نتيجة استحضار بعض الأحداث والذكريات ويظهر هذا عادة حين نعيد ترتيب الأغراض القديمة لارتباطها بها، فيزيد منسوب الخوف والقلق لا على الأهل والنفس فقط، بل من هذه الذكريات العائدة، فمن المهم معالجة كل هذا بحكمة وهدوء، والاستفادة من التجارب دون الغرق في جانب المأساة والضغط.
والإحساس بالزمن وبالوقت حاليًا وفر الجهد العضلي الذي كنا نبذله في الخروج والمواصلات وغيره، فأصبح وقتنا أطول.
وطبعًا الرأسمالية لا تصمت، فقد بدأت عروض الدروس المتاحة على الأنترنت بسعر أقل أو مجانًا في بعض الأحيان، كنوع من أنواع التسويق في هذه الفترة التاريخية العظيمة. فنتساءل؛ كيف أريد أن أرتب وقتي؟ فالوقت السائل اليومي إن لم يُحكم بشكل أو آخر ستضيع الأيام!
فهناك أشخاص قضوا أسابيعا لا يفعلون أي شئ، وهناك مثلًا من الطلاب من يشتكي من عدم القدرة على التركيز، وهناك من أصبح ينام لفترات أطول ومن يستيقظ في وقت متأخر لعدم وجود شئ يقوم لأجله.
فكيف ندير هذه الذكريات الراجعة وكيف نوظفها بشكل أفضل؟ أكثر إنصافا؟
فكرة خروج كل الذكريات السيئة في البيوت اليوم بين الآباء والأبناء وبين الأصدقاء وبين الإخوان والأخوات وحتى بين الأزواج ينذر بحرب أهلية. ألا تذكر شئ جيد على الإطلاق؟ لنجلس ونضحك مثلًا على ذكريات الطفولة أو لنضحك أو نعبر عن ذكريات كانت في الحقيقة إيجابية ونحن كنا وضعناها في درج الذكريات السلبية.
لنذكر الإيجابي ونفكر في كيفية إدارة عالم الذكريات الواسع الذي يؤثر حتما على العلاقات والوعي بالذات، فهذا العزل أعطانا وقتا أطول لمحاولة التعود على النظر للحياة بشكل إيجابي، ورؤية الميزة التي وفرتها لنا الأزمة بعيدا عن الهلع والخوف التلقائي، فنتساءل عن مساحة العزلة التي تهدئ أرواحنا وعن السلام الخاص بنا في حياتنا اليومية، وفي تفكيرنا وتقييمنا لشتى الأمور فتزداد قدرتنا على إدارة كل ما سبق بشكل أدق.
المستقبليات وتحدي القفز فوق المشهد!
المستقبليات عادةً تقال لوصف خريطة العالم، لن يعود العالم بعد هذه الأزمة إلى ما كان قبله، طبعًا لا يوجد شيء يعود أصلًا على ما كان عليه!
الإنسان يستفيد ولا يستفيد ويمكن أن يرجع أسوأ مما كان من قبل، هذا في الحياة الشخصية والحياة العامة، وينطبق في الحياة السياسية وفي العلاقات الدولية.. لا أحد يستطيع أن يستشرف المستقبل بشكل دقيق، فالقفز فوق المشهد مُبكِر قليلًا، لا أحد يستطيع إعطاء إجابة قوية سليمة لسؤال: كيف نرى سيناريوهات المستقبل؟
لكن على الأقل أستطيع أن أفكر في حياتي كإنسان، أحتاج أن أفكر في هذه العلاقات والذكريات والذوات التي أتعامل معها وما هي خططي المستقبلية.
وقد قال ربنا سبحانه وتعالى في القرآن بأن الإنسان حين تصيبه الضراء يتضرع: «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»؛ لئن أنجانا من هذه لنكونن كذا ولنفعل كذا وكذا، حتى إذا انتهت الأزمة (ترجع ريما لعادتها القديمة) -كما يقول المصريون-.
فهل المستقبليات مرهونة بأن هناك شيء أمامي في الزمن؟ أم أن الأمكنة ستتسع أمامي مرة أخرى بعد العزلة؟ أم أن المستقبليات في الحقيقة تصورات ذهنية في دماغي؟!
العودة في مواسم العزلة وإدراك الحدود
المستقبليات هي درجة وعيي أنا بكل ذواتي وجوانب علاقاتي ودوائري وذكرياتي، وماذا أنوي في المستقبل، وما الذي أتعلمه واستخلص من دروس؛ قد تكون علاقات جديدة، أو وعي أكبر بذاتي، وأن أبدأ بتحليل نفسي، فليس من الضروري أن أذهب لطبيب نفسي من أجل معرفة نفسي، مع أن الأطباء أحيانًا في بعض الأزمات يصبحون مهمين خصوصا فيما يتعلق بالأمراض النفسية العصبية، لكن من الممكن أن أحاول بنفسي أن أراها أكثر، وأن أرى عيوبي بشكل أكبر، وتصبح لحظة ثمينة تتعدى الهلع والقلق والخوف من الموت!
تصبح عودة الإنسان المهتم بعلاقته بربه، عودة هادئة إلى الله، في عزلة فتحت سبل بتفكير أفضل بعيدا عن رد الفعل السريع، نقوم فيها بإعادة بناء العلاقة بالله سبحانه وتعالى، وإدراك حدودنا كأشخاص وكبشرية، كم من اللحظات الكثيرة لم نرَ فيها النعم ولم نرَ المنح وكنا فقط نرى المشاكل فجاءت الضراء الكبيرة لتنبيهنا لكَم النعم؟
حتى أن الناس كتبوا قائلين: "إننا كنا لا نشعر بنعمة الأيام العادية"، فإن كان هذا فقط الدرس الكبير والأساسي الذي سنخرج به فأعتقد أن هذا سيكون مهمًا.
أنا لا أعتقد أن كل ما ذكرته كلنا نشعر به بشكل أو بآخر، وأن مواسم العزلة كما قد قال أحدهم هي مرحلة الدودة قبل أن تتحول إلى فراشة، لأنها تغلق على نفسها لتنمو فيها الأجنحة بكل هذه الألوان والزخم.
عسى أن تصبح هذه الفترة فرصة إلى وضع الكيان الذاتي؛ كياني وكينونتي ومكاني وما سأكونه في المستقبل وما كنته في الماضي، موضع نظر وتأمل حصيف هادئ جميل، لنستفيد أقصى ما نستطيع من هذه المرحلة.
ونحن أسرى في دوائرنا!
نحن مدركون أن هناك من أصاب الوباء أحبابهم، وآخرون فقدوا عزيزا في هذه اللحظة ولم يكن هناك إمكانية أن يدفن بالشكل الذي يوفي حق الفقيد، وهناك لحظات فرح لم تكتمل، أفراح وخطوبات تأجلت... لكل أحد منا جانب مرارة صغير أو حسّاس أشعره بالحزن، و نحن نشارك كل هؤلاء الناس هذه المشاعر.
كل منا لديه عزيز لا يستطيع رؤيته لأنه لا يستطيع أن يذهب إليه، ربما هو في مدينة أخرى، أو أنه في بلد آخر أو في عالم آخر ، ولحظات العزلة تكشف لنا حاجتنا واشتياقنا لبعضنا.
فدعونا كما نقول بالمصري "نطبطب على بعض"، ونحاول أن نفهم أنفسنا أكثر، ونفهم علاقتنا بالعالم أكثر، من حيث المسؤولية ، ومن حيث سعة وحدود القدرة، لأن الله سبحانه وتعالى أوكلنا قدرة في هذا العالم واستخلفنا فيه! علينا إذن بالإيمان الفعال واليقين الفعال والنظر والإعتبار، وليس الإيمان التواكلي السلبي، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار.
نحن نريد أن نرى في هذه المحنة أو الأزمة ما نحن، وما الدوائر التي حولنا، ماذا فيها وماذا يفعل الإنسان في هذا العالم؟
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وبالتماسك النفسي والإنصاف في جميع ما يحدث حولنا في دوائرنا التي -بشكل أو بآخر- أصبحنا أسرى فيها.
أرجوا أن نتواصى بالخير والجمال، فالجمال أمر يغيب عن أذهاننا في أوقات الأزمات فيقتصر الناس على الضروريات رغم وجود إمكانية تجميل الحياة بأشياء صغيرة، حتى لو أصبح حيز الحياة محصورا في البيوت.
فلنُفَكر ما الشيء الجميل في الأفعال وفي الأحوال وفيما حولنا، ويمكن أن يساعدنا على المرور في هذه اللحظة غير العادية؟!
أوصيكم ونفسي بالجمال والمرحمة والحق والصبر، وأتمنى لكم كل الخير والسعادة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.