من أهم القضايا التي تواجه الأمة هو تحصينها الداخلي، ويعد التعليم أهم العوامل التي تقيم الحضارة وتدفع عنها المتربصين بها من الداخل والخارج، وعلى مر العصور ساهمت مجالس العلم بعوامل النهوض والبقاء، ومن أهم تلك المجالس المدارس النظامية التي تعد بقعة مضيئة في تاريخ الحضارة الإسلامية والإنسانية.
البدء والانطلاقة كانت من هذه المدارس عندما اتضحت الرؤية نحو الغاية والهدف، فعندما تصبح أساليب ووسائل تحقيق النهضة واضحة تستطيع الأمة أن تأخذ بزمام الأمور وترجح كفة الميزان الذي طغى واختل اختلالا كبيرا.
ومن هنا جاءت فكرة هذه المدارس التي لم تكن مجالس للعلم فقط، بل منارات خرَّجت للعالم مجموعة من خيرة علماء الدين والدنيا، مثَّل كل عالم منهم مدرسة فكرية وعلمية مازلنا نقتبس من أنوار معرفتها حتى وقتنا الحالي، وهنا نضع بين يدي القارئ موجز تاريخي بسيط للتعريف بهذه المدارس وأهم أهدافها العلمية والتاريخية، مستلهمين بذلك أهمية منهجية التخطيط في التعليم البناء.
التعريف بالمدارس النظامية
(هي كليات تعليمية تنسب إلى مؤسسها الوزير نظام الملك أحد أشهر أعلام الدولة السلجوقية وهو نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق أبو على وزير للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه تسعا وعشرين سنة من مواليد طوس بخراسان كان من خيار الوزراء اعتمد عليه ألب أرسلان في الوزارة، وكان عالما عادلا حليما كثير العفو وكان مجلسه حافلا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح، وقد اشتهر ببناء المدارس في البلاد وخصص لها الكثير من النفقات).
فكرة المدرسة ونشأتها التاريخية
على مر العصور احتلت الكتاتيب والمساجد ودور الخلفاء ومنازل العلماء أهمية كبيرة في التعليم، ولم تكن المعاهد والمؤسسات العلمية قبل القرن الرابع الهجري قد ظهرت بشكل متخصص وكامل. (حفلت البلاد الاسلامية منذ أواسط القرن الرابع الهجري بعدد كبير من المعاهد والمدارس الكبرى القائمة بذاتها المستقلة عن الجوامع فقد ذكر ابن جبير مدارس بغداد عند زيارته لها في سنة 589 هجرية فقال: والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية وما منها مدرسة إلا وهي تقصر القصر البديع عنها ولهذه المدارس أوقاف عظيمة).
اختلف العلماء في تاريخ نشأتها لكن الراجح عندهم أنها نشأت في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي الموافق للقرن الخامس الهجري، حملت المدارس النظامية للمجتمعات الاسلامية نوعا جديدا ساهم في إضافة جديدة مهمة من حيث ما تميزت به من تنظيم وترتيب وطريقة التعليم، ومن أهم وأبرز المدارس النظامية ببغداد (ويمكن القول بعد هذا أن المدارس النظامية في بغداد أول مؤسسة تعليمية تقدم العلوم بطريقة متكاملة بمختلف أنواعها سواء منها علوم الدين والعربية، أو العلوم العقلية والتطبيقية كالطب والصيدلة والفلك والهندسة، حيث يجتمع الأساتذة والطلاب في فصولها وتقدم لهم كل ما يلزم للتعليم وطلب العلم، ولم يسبق أحد إلى مثل هذا النمط من التعليم، وتعد أول مدرسة علمية ومعهدا علمي عرفه التاريخ الإسلامي والعالمي، يعطي معلميه أجورا مرتبة مقابل التعليم، ويقوم على التعليم فيها أساتذة ونواب لهم، ومعيدين للدروس وتنظم المدرسة فصولا دراسية، وسكنا للأساتذة والطلاب، ومكتبة وإعاشة).
الأهداف التعليمية للمدارس النظامية
- تعريف الناس بأحكام الشريعة وذلك من خلال تعليم الطلاب كيفية الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة.
- نشر الفكر السني المعتدل من خلال مواجهة تحديات الفكر المنحرف للمذاهب الشيعية والباطنية المتطرفة، ويعمل على تقليص نفوذها عن طريق إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة.
- توفير أجواء علمية جادة للباحثين والمتخصصين كما تهدف المدرسة إلى توفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا، ويُؤلفوا، ويَبتكروا، فيُضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة.
- العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فقد كانت هذه المدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة، وهذا ما يسمى عند علماء التربية الاسلامية (نقل التراث).
عوامل نجاح المدارس النظامية
الدعم السخي من الدولة السلجوقية حيث جاءت المدرسة النظامية لتلبي حاجات وتطلعات المجتمعات الإسلامية التي كانت تسعى لإقامة حركة نهضة علمية ضمن حاضنة إسلامية، التوزيع الجغرافي حيث اختار نظام الملك مواقع مدارسه بعناية فائقة، بحيث تكون في العواصم والمدن ذات الثقل السكاني والتأثير، وهذا يضمن تأثيرها بشكل أكبر، بالاضافة إلى الدقة والعناية في اختيار المعلمين والأساتذة بحيث كانوا أعلام عصرهم في العلوم الشرعية ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية كان بابه مجمع الفضلاء وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيرا ينقل عن أحوال كل منهم فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، وتم تحديد منهج الدراسة كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة فإنه حدد منهج الدراسة الذي ستسير عليه هذه المدارس، وقد كان لتراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد أكبر الأثر على تلك المدارس، مع توفير الإمكانات المادية فلم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة.
أشهر علماء وخريجي المدارس النظامية
- العالم أبو اسحق الشيرازي شيخ الشافعية.
- الامام أبو حامد الغزالي أحد أشهر مدرسي وعلماء المدارس النظامية.
- عبد الملك الجويني الملقب بإمام الحرمين ويعتبر من أبرز علماء العصر السلجوقي.
- العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك.
- ابن الهيثم علي الحسن بن الهيثم عالم موسوعي عربي مسلم قدم إسهامات كبيرة علمية والعديد من المؤلفات والمكتشفات.
- شيخ الإسلام ابن الجوزي فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم.
- عمر الخيام عاش في القرن العاشر الهجري وهو عالم فلك ورياضيات وشاعر مشهور.
- البيروني باحث مسلم ورحالة وفيلسوف وفلكي وجغرافي.
- ابن حوقل كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر من أشهر أعماله صورة الأرض وغيرهم من الأئمة والعلماء وأصحاب المؤلفات الشهيرة.
لقد جاءت المدارس النظامية في فترة حرجة من العصور الإسلامية نشطت فيها الكثير من الحركات الباطنية، وقد حملت على عاتقها خدمة الجانب السني.
وقد نشأت علاقة نفع تبادلية بين المدرسة النظامية والسلطة الحاكمة وبقيت وقفا على أصحاب المذهب الشافعي، ولعل ذلك عائد لكون الوزير السلجوقي يدين بهذا المذهب، لكن بالرغم من ذلك خرجت هذه المدارس أجيالا من العلماء الراسخين الذين أثروا بعلمهم أقطار العالم الإسلامي، وكانت عامل صد ثقافي تجاه المد الباطني والصليبي على سواء، وبذلك تكون المدارس النظامية قدمت قفزة نوعية وعلمية كبيرة على مستوى الحضارة الإسلامية والعالم، وساهمت بجهد كبير في التصدي للأفكار المنحرفة عبر نشر العلم والتدين السني والوسطى وتحصين الأجيال.
إن الأمة في هذه الفترة العصيبة بحاجة إلى دول إسلامية وتجمع واتحاد قوي يسعى إلى إعداد خطوات مدروسة لاستثمار العقول المفكرة والناشئة المتميزة، كما أنها بحاجة كذلك إلى وزراء مخلصين وسياسيين مصلحين، يعملون على توجيه طاقات الشباب وإعداد خطط طويلة المدى لإخراج قادة مجددين في علوم الدين والدنيا، وإنفاق أكثر على العلم والمتعلمين والبحث العلمي وعقد ندوات ومؤتمرات للوقوف على خطوات علمية ومدروسة لاستثمار الناشئة من شباب الأمة المميزين، والسعي لنيل الدعم من الدول الإسلامية التي يمكن أن تقدم الرعاية والدعم لكل المشاريع التي من شأنها النهوض بالعلم والعلماء.
كما يقع على العلماء والمفكرين دور كبير في توجيه المقتدرين من المسلمين للتوعية بأهمية الإنفاق لدعم المشاريع العلمية والأوقاف الإسلامية وكفالة طلاب العلم المتميزين، وكذلك لا بد من أن يعمل طلاب العلم على توجيه نياتهم وأهدافهم لخدمة دينهم والارتقاء بحضارتهم.
وفي ظل العالم المتسارع بالأحداث والتطورات العلمية والتقنية الهائلة، لابد من العمل على مواكبة الأمة الإسلامية لكل ماهو جديد ونافع ورافد لعملية العلم والتعليم والتطوير، فهي الركيزة الأساسية للنهوض بالأمة الإسلامية، وتحقيق التمكين الذي يعتمد على العمل والأخذ بالأسباب.